تعرّف الأيديولوجيا بأنّها نسق من الأفكار يحدد السلوك السياسي والاجتماعي، أو يبرر خضوع جماعة أو طبقة ما، لجماعة أو طبقة أخرى، مع إضفاء نوع من الشرعية على هذا الخضوع، فهل يمكن بحسب هذين الاعتقادين أنّ الإسلامويين ينظرون إلى أفكارهم على أنّها أيديولوجيا فعلاً؟ الواقع ينبئ بغير ذلك، ولن يكون من قبيل المبالغة إذا قلنا إنّ نسبة لا يُستهان بها منهم يعدّونها (بما فيها قناعاتهم السياسية) ديناً ولا يرضون لها توصيفاً أقل من ذلك ويرفضون اعتبارها نمطاً من الأيديولوجيا التقليدية.
أما سبب هذا الرفض عند بعض الإسلامويين، فلأنّ الأيديولوجيات تمثل تفاعل الإنسان مع متطلبات الحياة وتطوراتها والصراع البشري والتجربة البشرية البحتة؛ أي هي أفكار متغيرة مرتبطة بالزمان والمكان، وهو ما يرفضه الإسلامويون كلهم؛ باعتبار أيديولوجيتهم الإسلامية تفاعلاً للبشر مع النص القرآني والنبوي الذي لا يخضع للتطور أو التبديل مثلما الحال مع الأفكار البشرية.
حرص البنا على جعل أفكاره تبدو كتمثيل لأوامر الله وكالمعادل الموضوعي لسيرة الرسول عليه السلام
كل ذلك بهدف إضفاء القدسية على أفكارهم ووسائلهم، وتحصينها من النقد والمساس، وبهذا تتحول لتكون في النهاية متحكمة في سلوك البشر، أو تمنح السلطة المطلقة لفئة على فئة، بما يجعل الأتباع يؤمنون باستحالة سقوط أو هزيمة هذه الأيديولوجيا، ومن يحاول فلا شكّ في أنّه إما كافر أو مناهض للإسلام أو كاره له، وأول من كرّس هذا النسق جماعة الإخوان المسلمين، متبعين ثلاث مراحل.
اقرأ أيضاً: احتكار الدّين، لدى جماعة الإخوان المسلمين
تمثلت المرحلة الأولى في تحديد الأفكار الرئيسة للمشروع؛ إذ لم تتجمع أفكار الإخوان ولم تنضج مرة واحدة؛ بل كانت نتيجة لتفاعلات اجتماعية وسياسية، واجهت حسن البنا المؤسس، فكان كلما واجهه موقف أكبر من إمكانياته انتقل من مربع إلى آخر، أوهم الناس أنه كان صريحاً، وأنه قال لهم إنه سينتقل هذه النقلة في وقت ما، وأنّهم هم من لم يفهم مقصده كما يتضح في رسالة "إلى أي شيء ندعو الناس" حيث يقول: "قد تتحدث إلى كثير من الناس في موضوعات مختلفة، فتعتقد أنك قد أوضحت كل الإيضاح، وأبنت كل الإبانة، وأنك لم تدع سبيلاً للكشف عما في نفسك إلا سلكتها، حتى تركت من تحدثهم على المحجة البيضاء، وجعلت لهم ما تريد بحديثك من الحقائق كفلق الصبح أو كالشمس في رابعة النهار، كما يقولون، وما أشدّ دهشتك حين ينكشف لك أنّ القوم لم يفهموا عنك، ولم يدركوا قولك". ولهذا انتقل من مربع الدعوة الصرفة من عام 1929، إلى العمل السياسي عام 1938، الذي أسس فيه العمل السري، ثم تحالفاته مع القصر مرة، ومع الأحزاب مرة، ومع الجمعيات مرة أخرى، كلّ هذا شكّل رصيداً مربكاً للمتابع لنشوء فكر الإخوان وتطوره.
اقرأ أيضاً: الإسلاميون أيضاً يصابون بالمرض النفسي
أما المرحلة الثانية: صبغ هذه الأفكار بصبغة إسلامية؛ إذ حرص البنا على أن يجعل أفكاره تبدو كأنّها تمثيل لأوامر الله في القرآن، وأنها هي المعادل الموضوعي لسيرة الرسول، عليه السلام، في العصر الحديث، ولعلّ أقرب مثال على هذا؛ ما قاله في رسالته "دعوتنا": "ونحبّ أن يعلم قومنا إلى جانب هذا أنّ هذه الدعوة لا يصلح لها إلا من حاطها من كل جوانبها، ووهب لها ما تكلفه إياه من نفسه وماله ووقته وصحته، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:24)"، وهنا حسن البنا جعل قول الله المنزل في حبّ الله ورسوله والجهاد في سبيله يساوي الانتماء للجماعة، وهذا التلبيس من أجل صبغة إسلامية مزعومة، كان في حاجة إليها، والأمثلة كثيرة يمكن مراجعتها في رسائل المرشد الأول.
يؤمن الإخوان المسلمون وتنظيمات الإسلام السياسي عموماً بأنّ أفكارهم هي أفكار الإسلام ذاتها وهي أفكار منتصرة
أما المرحلة الثالثة فهي الإيمان بهيمنة الأيديولوجيا الإسلامية على ما سواها؛ إذ يؤمن الإخوان المسلمون، ومعهم تنظيمات الإسلام السياسي عموماً، بأنّ أفكارهم هي أفكار الإسلام ذاتها، وهي أفكار منتصرة، فيقول حسن البنا في رسالة "إلى أي شيء ندعو الناس": "فالعالمية والقومية والاشتراكية والرأسمالية والبلشفية والحرب وتوزيع الثروة، والصلة بين المنتج والمستهلك، وما يمت بصلة قريبة أو بعيدة إلى هذه البحوث التي تشغل بال ساسة الأمم، وفلاسفة الاجتماع، كل هذا نعتقد أنّ الإسلام خاض في لبّه، ووضع للعالم النظم التي تكفل له الانتفاع بما فيه من محاسن"، في هذه المرحلة تصبح أفكار "أيديولوجيا الإخوان" أفكاراً نبيلة تستحق التضحية من أجلها، وهذا ما نجده من الإخوان المسلمين وكثير من تنظيمات الاسلام السياسي؛ لديهم إيمان مطلق بقدسية ونبالة أفكارهم، وأنّ عليهم أن يضحوا من أجلها بالوقت والمال والجهد، والنفس إن أمكن.
اقرأ أيضاً: الإسلام السياسي: خطر الاستبداد الديني كنظرية في الحكم
هكذا صنع الإخوان أيديولوجيتهم الموهومة، التي قدمت حلولاً خيالية، لا تستمد جذورها من الواقع، وحملت وعداً للجماهير غير قابل للتحقيق، طالب الإسلامويون عموم المسلمين أن يناصروهم في معركتهم الفكرية والسياسية، لأنهم إن ناصروهم وانتصرت الأيديولوجيا، فستقدم الجماعة لهم أفضل مجتمع وأحسن تعليم، وأيسر سبل للعيش، وأنظمة جديدة إسلامية الهوية، بديلاً لكل الأنظمة التي ذاقوا معها شظف العيش، وأنهم سوف يحققون العدل والحرية للجميع.
عندما وصل الإخوان إلى سدة الحكم لم يجد المواطنون فارقاً عمن سبقوهم على صعيد الممارسات أو الأدوات
عندما وصل الإخوان في بعض الأقطار المسلمة إلى سدة الحكم، سواء في فلسطين أو السودان أو تونس، أو في مصر بلد المنشأ، لم يجد المواطنون فارقاً يذكر عمن سبقوهم إن على صعيد الممارسات أو الأدوات، هنا أيقن المواطنون أنّ الصبغة الإسلامية التي تمسح بها الإخوان لم تكن إلا طلاء، ولم تصل إلى أن تكون سلوكاً متجذراً في أفراد الإخوان، وأنّ الحلول التي يقدمونها بوصفها "حلولاً إسلامية"، هي حلول موجودة عند الجميع، سواء ليبراليين أو إسلاميين أو حتى بقايا اليسار.
سقطت أيدولوجيا الاخوان؛ لأنّهم لم يمتلكوا منتجاً فكرياً حقيقياً، وكل ما أنتجوه فكر مزيف ملفق من كتب التراث، فكلما وجدوا واقعة تبرر لهم أفعالهم لجؤوا إليها، لذلك رفضت الجماهير الأيديولوجيا الإخوانية، ولم يرفضوا الإسلام؛ رفضوا المتاجرين بالدين ولم يرفضوا الدين نفسه.
ساهم سقوط وهم الأيديولوجيا الإخوانية، في سقوط المشروع الأخلاقي والتربوي الإخواني المزعوم، المتمثل في إيجاد الفرد المسلم أولاً، والأسرة المسلمة ثانياً، وصولاً إلى المجتمع المسلم في النهاية، وهذا السقوط التربوي سيكون له مقال آخر.