
أثار الإعلان السوري الذي اعتمدته السلطة الانتقالية في البلاد مؤخرا، والذي حدد المرحلة الانتقالية بخمس سنوات، حالة من الجدل، خاصة فيما يتعلق بالاستناد إلى الفقه مصدرا للتشريع في البلاد، بدلا من اعتماد الإسلام أو الشريعة بشكل عام كمصدر للتشريع.
وتتألف الوثيقة المؤقتة من أربعة أبواب و53 مادة، وترسم المسار الذي ستمضي عليه البلاد ورئيسها الانتقالي، الشرع على صعيد عملية التنفيذ والتشريع والقضاء. كما تحدد الشكل الذي ستكون عليه سوريا خلال السنوات الخمس المقبلة.
وبينما لقي الإعلان ترحيبا من بعض الأطراف والدول، رفضت قوى محلية، وعلى رأسها مجلس سوريا الديمقراطية "مسد" (المظلة السياسية لقوات سوريا الديمقراطية) ومكونات أخرى، هذه الخطوة.
بعض مواد الإعلان تحمل تناقضات واضحة حيث تؤكد على حقوق الأقليات والطوائف والقوميات لكنها في الوقت ذاته تستند إلى مرجعيات دينية قد تثير الجدل
ويعزو الخبراء هذا الاستهجان إلى أن بعض مواد الإعلان تحمل تناقضات واضحة، حيث تؤكد على حقوق الأقليات والطوائف والقوميات، لكنها في الوقت ذاته تستند إلى مرجعيات دينية قد تثير الجدل حول مدى شمولية الدستور وعدالته.
نقاط الخلاف
ومن أبرز نقاط الخلاف في الإعلان الدستوري، صلاحيات الرئيس أحمد الشرع، الذي سيحكم سوريا خلال الفترة الانتقالية الممتدة لخمس سنوات بحسب الإعلان.
وقد صرح أنور مجني، المشرف على البرامج في منظمة "اليوم التالي" الحقوقية السورية، لـ "بي بي سي" بأن الإعلان الدستوري يجمع كل السلطات التنفيذية للدولة خلال المرحلة الانتقالية بيد الرئيس، فهو من يختار أعضاء الحكومة وأعضاء مجلس الأمن القومي، وقضاة المحكمة الدستورية العليا.
وأضاف مجني أن الرئيس يعين ثلث أعضاء مجلس الشعب، ويختار اللجنة التي ستعين الثلثين الآخرين. كما أشار إلى ما اعتبره غياباً للمحددات التي يمكنها ضمان تشكيل برلماني يكفل تمثيلاً حقيقياً للمجتمع السوري، بحسب قوله.
الإعلان الدستوري، أبقى أيضا على اسم الدولة “الجمهورية العربية السورية”، وحدّد دين رئيس الدولة بالإسلام، مع إبقاء الفقه الإسلامي كمصدر أساسي للتشريع، وأكد على ضمان الحريات الأساسية، بما في ذلك حرية الرأي والتعبير والصحافة والإعلام والنشر، كما أقرّ حق الملكية وحقوق المرأة في المشاركة في العمل والتعليم، بينما شدد على حقِّ المرأة في المشاركةِ بالعمل والعلم وكفالة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لها.
أما فيما يتعلق بنظام الحكم خلال المرحلة الانتقالية، تعمدت اللجنة الفصل المطلق بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وفي الجانب السياسي، منح الإعلان الدستوري “مجلس الشعب” صلاحيات استدعاء الوزراء واستجوابهم، إضافة إلى ترك مسألة عزل الرئيس أو تقليص سلطاته للمجلس نفسه.
كما نصّ الإعلان الدستوري، على حلّ المحكمة الدستورية القائمة، وإقرار مرحلة انتقالية تمتد لـ 5 سنوات، أما فيما يخص حالات الطوارئ، فقد شدد الإعلان على ضبط إعلان حالة الطوارئ بموافقة “مجلس الأمن القومي”، على أن يكون تمديدها مرهونا بموافقة “مجلس الشعب”.
مواد غائبة
لكن الإعلان الدستوري لم يحدد الشروط الواجب توافرها في شخص الرئيس والنوّاب الذين يعينهم شخصياً، ما يفتح الباب واسعاً أمام الاعتقاد بكونّه مصمماً على مقاس الرئيس الحالي أحمد الشرع، إلى جانب غياب إطار السيادة الشعبية، والاعتماد على صياغات فضفاضة للكثير من المواد.
الإعلان الدستوري يجمع كل السلطات التنفيذية للدولة خلال المرحلة الانتقالية بيد الرئيس فهو من يختار أعضاء الحكومة وأعضاء مجلس الأمن القومي
ومع الإقرار ببقاء الإعلان الدستوري نافذاً إلى حين إقرار الدستور الدائم للبلاد، فإن آليات إقرار الدستور وطريقتها والجهة المخوّلة إقراره، ومسار الاعتراض عليه، بقيت غائبة عن متن الدستور الموقّت، إلى جانب تحديد صلاحيات المحكمة الدستورية العليا، وقدرتها على ممارسة دورها الرقابي على دستورية القوانين والتشريعات الصادرة، وذلك وفقا لما أكده موقع "النهار".
وغابت عن الإعلان الدستوري أيضاً آليات مراقبة الرئيس ومحاسبته، بحسب الموقع، هو الذي منح حق تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب، من دون توضيح آليات تحديد الهيئة المناط بها اختيار الثلثين الآخرين، والوزراء الذين يعينهم، فيما بررت عضو لجنة صوغ الإعلان د. ريعان كحيلان في تصريح إعلامي غياب آليات المحاسبة بسبب مبدأ "فصل السلطات" المعتمد في الإعلان الدستوري.
لا يلبي طموحات الشعب السوري
من جانبه، قال الناشط الحقوقي والسياسي سليمان الكفيري، إن "الإعلان الدستوري لا يلبي طموحات الشعب السوري التواق للحرية، وبناء الدولة الديمقراطية التي لا تميز بين مكوناتها على أي مرجعية إثنية أو قومية أو طائفية أو دينية".
وأضاف الكفيري لموقع "إرم نيوز" أن الإعلان الدستوري يحتاج لإعادة نظر ويحتاج توضيح بعض المسائل وكذلك إعادة صياغة، ليحقق هدفه ببناء سوريا الدولة، دولة العدالة والقانون والدستور الذي ينسجم مع مبادئ الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، ويضمن حريات الناس، ويضمن حرية الرأي والتعبير، ويضمن حريات التجمع والتظاهر وغيرها من الحقوق".
وأوضح أن المرحلة المقبلة قد تستدعي شكلًا من أشكال المركزية، لكن لا ينبغي أن تتحول هذه المركزية إلى مبرر لترسيخ استبداد جديد يعيد البلاد إلى حقبة الحكم الاستبدادي التي عايشها السوريون سابقًا.
كما رأى المحلل والباحث السياسي، أمجد إسماعيل الآغا أن النصوص التي طرحت حالياً لا تلبي تطلعات السوريين ولا تعكس آمالهم في بناء دولة قائمة على سيادة القانون وضمان الحريات الأساسية، لذا، من الضروري إعادة النظر في الصياغة الحالية، بحيث تكون أكثر شمولاً وتمثل إرادة الشعب الحقيقية، مع ضمان وجود آليات واضحة لتطبيقها على أرض الواقع بعيداً عن الانتقائية والتوظيف السياسي.
نظام رئاسي مطلق
ويعتبر المحامي السوري، غزوان قرنفل "أننا أمام نظام رئاسي مطلق". وقال، لموقع "الحرة"، إن "الإعلان الدستوري هو مجرد رداء يراد منه إكساء مشروعية للسلطة القائمة، ومنحها صلاحيات مطلقة على المجتمع".
قرنفل لا يرى أن الإشكاليات تتعلق فقط بـ"مبدأ الفصل بين السلطات"، الذي تخالفه عدة نصوص وبنود، بل تنسحب أيضا إلى نصوص أخرى.
فمن جانب، حدد "الإعلان الدستوري" مدة المرحلة الانتقالية بخمس سنوات، وهو ما يعتبره المحامي "خطوة باتجاه تعزيز قدرة السلطة الحالية للإمساك بمفاصل السلطة والدولة".
يبرز هذا الموقف مدى الاحتقان السياسي والطائفي الذي لا يزال يهيمن على المشهد السوري حيث تسعى بعض الطوائف إلى الحفاظ على استقلاليتها
وتابع متناولا بنودا أخرى بقوله: "عندما نتحدث عن دولة قانون ومواطنة لا يجب أيضا حصر منصب رئيس الجمهورية بفئة من فئة المجتمع".
انقلاب على الاتفاقات السابقة
كما أكد مجلس سوريا الديمقراطية، المظلة السياسية لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أن الإعلان الدستوري الجديد "غير شرعي"، إذ رأى أنه يعيد إنتاج نظام الحكم المركزي الذي كان سائداً في عهد بشار الأسد.
قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي حذر من أن إبراز الشريعة الإسلامية كمرجعية للحكم سيؤدي إلى مزيد من الفوضى والانقسام. ويبدو أن "قسد" يرى في هذا الدستور خطوة نحو الإقصاء بدلًا من التشاركية التي تحتاجها سوريا في مرحلة إعادة البناء السياسي والمجتمعي.
أما الشيخ حكمت الهجري فقد عبّر عن موقف الدروز الرافض للإعلان الدستوري، مؤكداً أن الحكومة الحالية لا تمثل تطلعاتهم، ووصفها بأنها "مطلوبة للعدالة الدولية".
ويبرز هذا الموقف مدى الاحتقان السياسي والطائفي الذي لا يزال يهيمن على المشهد السوري، حيث تسعى بعض الطوائف إلى الحفاظ على استقلاليتها السياسية بعيداً عن سيطرة دمشق.
هذا وتتجه الأنظار إلى ردود فعل المجتمع الدولي والقوى الإقليمية، فيما يرى مراقبون أن التحدي الأكبر هو قدرة هذا الدستور على تحقيق التوازن المطلوب بين السلطة المركزية والتعددية السياسية والاجتماعية في البلاد.