" أصبحنا نحتاج إلى تدريس اللغة العربية للناطقين بغيرها لأبنائنا، عوضاً عن دروس تعليم العربية التي تلقيناها في أوطاننا العربية قبل مجيئنا إلى هنا"؛ هذا ما قالته لـ "حفريات" أمٌّ عربية مقيمة في كندا منذ زمن طويل، وذلك عندما علمت عن الرغبة بكتابة تقرير حول تعليم وتعلم اللغة العربية في كندا.
هناك مخاوف عند قطاع كبير من الجالية العربية في كندا من سيطرة قوى متشددة على برامج تعليم اللغة العربية
ويحرص العربُ، مثل غيرهم من الشعوب، على تعليم لغتهم الأم لأجيالهم الجديدة في كندا، وقد شرعت كثير من الجهات، في طول البلاد وعرضها، منذ وصول الأفواج الأولى من المهاجرين، بعقد دروس ودورات أيام السبت والأحد للطلبة العرب والمسلمين، الراغبين بتعلّم العربية من أجل قراءة القرآن الكريم تحديداً، ثم تطور تعليم اللغة ليشمل الاستخدامات اليومية في مناحي الحياة كافة.
ويستأجر القائمون على هذه المدارس الأسبوعية عدة قاعات صفية بمدرسة محلية في منطقة تعليمية كندية، مقابل مبلغ مالي يدفعه أهالي الطلبة الدارسين، وقد حاول بعض السياسيين والناشطين العرب وللتخفيف على الأهالي في بعض المقاطعات الكندية إدراج اللغة العربية، كمقرر أصيل في مناهج المدراس الكندية، التي تخدم التجمعات العربية، في مدن مثل: مسيساغا، وتورنتو، ومونتريال، لكنّ تلك المحاولات لم يتم قبولها للآن.
اقرأ أيضاً: اللغة بين نمطين من التفكير.. هل "العربية" استثناء؟
وتجلب إدارات مدارس في نهاية الأسبوع بعض المناهج والكتب التي تعلم العربية للطلبة بأسلوب مبسط وميسر، وغالباً ما يتم استيرادها من دور نشر عربية في الوطن العربي، لكنّهم يواجهون معضلة كبيرة في إيجاد كادر متخصص بتدريس اللغة العربية، مما يدفعهم في كثير من الأحوال لتعيين عرب من خريجي تخصصات علمية بعيدة عن اللغة العربية، كمدرسين في هذه المدارس.
معضلات تعلّم العربية في كندا
عندما طرحت "حفريات" السؤال الآتي على عدد من أولياء الأمور العرب الكنديين، وبحضور أبنائهم: لماذا تترددون بتعليم أبنائكم اللغة العربية؟ كانت الإجابات متنوعة وغنية بالمعلومات التي تكشف عمق الهوة التي تفصل الأجيال الجديدة من العرب الكنديين عن موروثهم اللغوي والحضاري والثقافي.
طفل لـ"حفريات": مناهج تعليم اللغة العربية جافة وصعبة وتخلو من الصور والألوان الشيقة، وغالباً ما تكون بلا وسائل جاذبة
وقد تمحورت الآراء من الآباء والأمهات حول ضرورة أن تعي الأجيال الجديدة من العرب أهمية اللغة العربية، وكان دائماً تحفيزهم مقروناً بتشجيع ديني؛ حيث قالوا: "كيف لكم أن تقرأوا القرآن الكريم وأنتم لا تعرفون أساسيات اللغة العربية؟ "، لكنّ الأبناء الحاضرين لتلك الجلسة، من ذكور وإناث، ردوا رداً غير متوقع وهو: "ما حاجتنا إلى دراسة اللغة العربية ونحن لا نستعملها في المدارس والمتاجر والمواصلات هنا في كندا"، وأتبعوا رأيهم الصادم لأهاليهم بقولهم وبلغة إنجليزية سليمة: "نحن نجد أنّ الإنجليزية أسهل وأيسر تعلماً ونطقاً واستخداماً".
ولا غرابة في ردّهم ذاك؛ فقد هال الكثيرين القادمين لكندا أن يروا ويسمعوا الأولاد والبنات العرب عندما يتقابلون في اللقاءات العائلية التي تقام في الحدائق العامة أوالقاعات الخاصة؛ حيث يميلون للعب واللهو، وهم يتخاطبون باللغة الإنجليزية، وأسماؤهم أيضاً يلفظونها كما يلفظها مدرسوهم بالمدارس العامة، وتجدهم مثلاً يخاطبون بعضهم بعضاً بـ: "مهمد وكاليد وأبير"، عوضاً عن "محمد وخالد وعبير".
وتقود مشكلة عزوف كثير من الأطفال الكنديين العرب عن استعمال العربية للتخاطب فيما بينهم، إلى صعوبة قالها أحد أبناء الجيران العرب هنا في كندا، عند سؤاله عن عدم ذهابه لمدارس تعليم العربية: "مناهج تعليم اللغة العربية جافة وصعبة، وتخلو من الصور والألوان الشيقة، وغالباً ما تكون بلا وسائل بصرية وسمعية تجذب الناظرين والسامعين".
اقرأ أيضاً: نحو منهاج يُخرج تعليم اللغة العربية من جمود التقليد
ومن الصعوبات التي تحول بين الطفل العربي وتعلم لغته الأم هنا في كندا؛ الفروق الفردية والعمرية بين الدارسين في مدارس نهاية الأسبوع اللغوية، وتتمثل هذه المشكلة بأنّ الضعف اللغوي للأطفال متفاوت، وهذا يفضي لتوزيع غير متناسب للصفوف الدراسية، وهذا يعني مثلاً؛ أنّ الأطفال العرب في الصف السادس الابتدائي لا يملكون مهارات لغوية متشابهة، وقد يكون بعضهم يتقنون مهارات المحادثة بالعربية والاستماع، لكنهم يعانون من صعوبات في الكتابة والقراءة ونقص المفردات، ويؤدي ذلك لمعيقات كبيرة قد يواجهها المدرس لرفع سوية طلابه اللغوية إلى مستوى متماثل ومتقارب.
ومن الأمثلة على الفروق العمرية في الصفوف الدراسية، ما قالته لـ "حفريات" سيدة عراقية مقيمة في مدينة مسيساغا، حيث تقطن أكبر جالية عربية في كندا، حيث أفلحت تلك السيدة بإقناع ابنها المراهق بالالتحاق بمدرسة تعليم اللغة العربية الأسبوعية، لكن اختبار تحديد المستوى للطلبة صنّفه مع طلبة في مراحل الطفولة الأولى، مما جعل ذلك الشاب يعزف عن متابعة دروسه باللغة العربية بسبب الفروق العمرية في صفّه.
سيطرة الأحزاب الإسلامية على مدارس تعليم العربية في كندا
وقابلت "حفريات" سيدة عربية من الأردن، وهي تقيم في كندا منذ زمن طويل، وفضلت عدم ذكر اسمها. لكنّها أخبرت عن تجربتها بهذا الخصوص، حيث قالت: "رغبت كثيراً في تعليم العربية لأبنائي، لكن سيطرة التنظيمات الإسلامية على هذه المدارس الأسبوعية، واستخدامها كوسيلة لزيادة الأتباع والمناصرين جعلني أعزف عن إرسالهم لتلك المدارس"، وأضافت "تلك المدارس تعتمد لغة دينية متشددة، وتنتقي مناهج مؤدلجة ومعلمين من أعضاء تنظيماتها".
اقرأ أيضاً: العربية الخامسة نطقاً حول العالم
ويلحظ أيّ مراقب لأحوال مدارس اللغة العربية الأسبوعية في كندا؛ أنّ حركة الإخوان المسلمين، وغيرها من الحركات السلفية، قد سيطرت سيطرة شبه تامة على تعليم العربية في هذه المدارس، وتبرر هذه الحركات احتكارها لتعليم العربية بأنها وصية على تعليم الدين الإسلامي والقرآن الكريم للأجيال الجديدة من العرب والمسلمين، وأنها تحصنهم من الاندماج في الحياة الكندية، واعتياد الحياة الغربية، وذلك عبر شبكة مدارسهم الدينية، ومن خلال برامج منظماتها من أمثال منظمة "ماك"، أو "إسنا"، وغيرهما.
وقد تسبب احتكار تعليم العربية الذي قامت به الحركات الإسلامية في كندا، وتقديمهم أجندات سياسية وأيدولوجية مع الدروس المقدمة للطلاب، إلى تفضيل عدد من الأهالي لخيار تدريس أطفالهم بالمنازل، أو عند مدرسين يعرفونهم ويثقون فيهم.
ودفع هذا الاحتكار العديد من الشركات التعليمية الكندية لتقديم برامج خاصة خالية من التوجيه الأيديولوجي الديني، وذلك بتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، ولأبنائها الذين يعانون من ضعف في استخدام لغتهم الأم، ومن هذه الشركات؛ مركز اللغات الكندي العريق "هانسا" (Hansa)؛ الذي يقدم عدة مستويات تعليمية للراغبين في تعلم اللغة العربية في مدينة تورنتو الكندية.
اقرأ أيضاً: اللغة العربية حبيسة في صورتين للعروبة
قد يكون من الجائز القول إنّ الجالية العربية الكندية تحتاج إلى لدعم ومؤازرة الحكومات والدول العربية ومؤسساتها التعليمية، لحلّ مسألة تعلم وتعليم اللغة العربية للأجيال الجديدة من العرب القاطنين في عموم المقاطعات الكندية؛ لأّن هناك العديد من المخاوف عند قطاع كبير من هذه الجالية، من القوى المتشددة والمتطرفة التي استغلت غياب برامج منظمة لتعليم اللغة العربية، وتقدمت للعرب والمسلمين في هذه الديار بدورات لغة مصحوبة بأجنداتها السياسية والفكرية التي تمتاز بالغلو والتزمّت أحياناً كثيرة، وإذا ما استمرت مثل هذه البرامج في هذه المراكز اللغوية، فإنّ مراقبين يتوقعون أن تخلق أجيالاً ترفد هذه التنظيمات بأعضاء جدد، وتمدّهم بأعوان وأتباع كثر في القادم من الأيام والسنين.