نحو منهاج يُخرج تعليم اللغة العربية من جمود التقليد

نحو منهاج يُخرج تعليم اللغة العربية من جمود التقليد


18/12/2018

تثير هذه المقالة أسئلة حول واقع تدريس اللغة العربية في المدارس، وواقعها في المجتمع خارج المدارس، وأسئلة حول إمكان بناء منهاج مشترك يمكن تدريسه في جميع الدول العربية، وحتى غير العربية مع اختلافات.

يبدي مختصو اللغة العربية تذمراً وقلقاً حول أوضاع اللغة العربية، فهي مهددة أولاً باللغات الأجنبية، وميل كثير من المؤسسات المهنية إلى توظيف من يتقن لغات أجنبية، بغّض النظر عن إتقانه اللغة العربية، كما يشكون من ميل بعض الأسر إلى تركيز تعليم أبنائها على اللغة الأجنبية فقط، ومن تركيز المدارس الخاصة على التدريس بلغات أجنبية.

اقرأ أيضاً: اللغة العربية حبيسة في صورتين للعروبة

وهناك من يرى أنّ تدريس اللغة العربية ومناهجها هو المسؤول عن صعوبة تعلّم تعقيدات لغوية لا صلة لها بالحياة اليومية، مثل إعراب بعض الكلمات والجمل النادرة مثل: لا سيما، بئس، نعمّا...الخ؛ فالمناهج الحالية بعيدة عن الحياة المعاصرة ومرتبطة بأدب قديم "جاهلي" على نمط: مِكَّرٍ مِفّرٍ مقبلٍ مدبرٍ معاً..

وكان من نتاج هذه المواقع، المخاطر الآتية:

1- عزوف الطلبة وبعض الأهالي عن الاهتمام باللغة العربية و"بلوغاريتماتها" المعقدة.

يتعلم الطفل ما يحب ويثير لديه شغف التعلم، ومن هنا يجب يجب بناء مناهج اللغة العربية على متطلبات نموّه

2- زيادة إنكار دور اللغة العربية وأهميتها في الحياة اليومية، فالإعلانات بلغة أجنبية، ولغة التواصل أجنبية، ومصطلحات التواصل هي: الفيس بوك والواتس، والماسنجر، وتويتر...الخ، فالمتعلم العربي يعايش مصطلحات أجنبية، وينطقها يومياً، ربما بما يعادل مصطلحات عربية.

3- نتيجة لضعف الطلبة باللغة العربية، فقد انتشر الضعف بين معلمي اللغة العربية، وبات خريجو الجامعات في تخصص اللغة العربية أكثر ضعفاً أو أقل قليلاً من ضعف طلابهم، ولم نعد نستهجن وجود معلمي لغة عربية لا يتقنون أساسياتها!

4- ومن المهم الإشارة إلى نتاجات سلبية عديدة مثل؛ غياب اللغة العربية السليمة عن معلمين وعن مذيعين وإعلاميين، وعن محللين سياسيين وعسكريين..، وهذا ما أسمّيه "التلوث اللغوي" ومن مظاهره:

- رفع المجرور بضمتين أو بـ "واو" الجماعة أو ألف الاثنين!

- فاعل منصوب وعلامة رفعه الفتحة أو الكسرة.

اقرأ أيضاً: 

طبعاً هذه نماذج، تشير إلى ضعف شديد جداً أو إلى عدم تعلّم إطلاقاً، طبعاً لا نعتب على اسم كان وخبرها، فهذا تعقيد قد نجد له عذراً، أما الجار والمجرور، فيمكن تعلمه بجهد بسيط.

5- ومن نتاجات ذلك طفت مصطلحات لغوية قللّت من هيبة اللغة العربية، فكلمة "إنشاء عربي" تعني في الأصل، قدرة على الإبداع في التعبير، وإيجاد بنى جديدة، يؤلف فيها المتعلم جملاً أو نصوصاً جديدة، لكن ما يحدث حالياً أنك حين تهاجم فكرة أو خطاباً، فإنك تتهمه "بالإنشاء"، فالإنشاء كلام فارغ لا مضمون له أو "صّفْ كلام". وهكذا تتحول أهم مهارة لغوية -وغير لغوية- إلى كلام مجرد كلام.

العربية هي حاملة وناقلة لجميع المواد وقد تعتمد سهولة منهاج ما أو صعوبته على مدى وضوح اللغة وبساطتها

6- وعلى ضوء ذلك، فإنّ الخطاب أو الحديث، لم يعد بحاجة إلى إعدادٍ مسبق أو تخطيط. فالحديث سليقة، كما ارتفعت قيمة العشوائية والارتجال. فنسمع كثيراً على سبيل الإشارة والمدح: وارتجل قائلاً..!

أو: تحدث نصف ساعة، دون أن يكون معه ورقة مكتوبة، بينما يُلام من يتحدث عبر خطاب مُعَدّ أو ورقة مكتوبة.

هذه بعض معطيات ونتاجات تدريس اللغة العربية: ضعف في الآراء وضعف في التعليم، وفقدان هيبة اللغة، فوقعت اللغة بين تيارين:

اقرأ أيضاً: اللغة العربية "السوداء"!

تيار التقديس بطائل أنّ اللغة العربية لغة للقرآن الكريم، وتيار التحديث الذي يعتمد لغة العصر، وبدل أن نستفيد من أصالة تيار التقديس، صرنا نقحم تعقيدات لغوية إلى مهارات اللغة، وبدل أن نستفيد من الحداثة، تركنا كل الأصول؛ فاللغة ليست محددة مسبقاً؛ بل كائن حي وهي أيضاً ليست كتلة سائلة أو غازية، لا شكل لها.

إننا بحاجة إلى حل لكل هذه الوقائع، والحل هو بناء منهاج عربي يمكن تطبيقه في جميع المدارس العربية وأنظمة التعليم فيها، فهل هذا ممكن؟ أترك الحكم بالإجابة عن سؤالي إلى بعد الاطلاع على الخطوط العريضة لمنهاج مقترح!

أولاً: الخط العريض الأول: المهارات

اللغة العربية كأية لغة لها مهاراتها: الإنصات والتحدث والقراءة والكتابة ويتفرع عن هذه المهارات مفاهيم عديدة كالملاحظة والاستيعاب والنطق والتحليل والنقد...الخ، وهذه المهارات، على أهميتها، ليست كافية لتعلم اللغة العربية، إلّا إذا حملت معها مفاهيم حياتية غنية، ترتبط بحاجات الطلبة ومجتمعاتهم مثل؛ مفاهيم الحق والخير والجمال والمنفعة والحب والأخلاق والتفكير وبناء الضمير والعدالة وحقوق الإنسان وغيرها.

هناك من يرى أنّ تدريس اللغة العربية ومناهجها هو المسؤول عن صعوبة تعلّم تعقيدات لغوية لا صلة لها بالحياة اليومية

ثانياً: الخط العريض الثاني: حب اللغة

يتعلم الطفل ما يحب ويثير لديه شغف التعلم، ومن هنا فإنّ اللغة العربية يجب أن تُبنى مناهجها على متطلبات نموّ الطفل: جسمياً وانفعالياً وعقليا واجتماعياً، ولعلّ نصاً عن لاعب رياضي أو فنان أو رائد أو إنسان بسيط، يثير شغف تعلم أكثر من نصّ عن ملك أو قائد عسكري أو منظمة سياسية؛ فالمنهاج يُبنى على دراسة لحاجات الأطفال، ولما يحبون، ولما يشد انتباههم، وعلينا أن ندرك هذه المتغيرات فأطفالنا لا يعيشون العصور الوسطى.

الخط العريض الثالث: حب المعلم، وإستراتيجيات تدريسه للمادة.

إن من البديهي أن تكون مواصفات معلم اللغة العربية مما يجذب الطلبة شكلاً ومضموناً، فمن حيث الشكل يفترض بالمعلم أن يكون هادئاً، بمنطقٍ واضح وشخصيةٍ حوارية، متعلماً باستمرار، باحثاً وليس ملقناً، مدركاً لأهمية اللغة وعلاقاتها بسائر المواد.

ومن حيث المضمون، يفترض أن يستخدم إستراتيجيات تدريس تعتمد مهارات التفكير وفي مقدمتها الملاحظة، والمقارنة، بحيث يلاحظ المتعلم حركات الإعراب واختلافها، ويقارن مواقعها، ويدرك أسباب تغيرها من حالة إلى حالة، فاللغة العربية ليست مجرد وعاء للفكر، بل ناقلة له، وباحثة عنه، وقيمته له.

الخط العريض الرابع: مفاهيم عابرة للمواد

اللغة العربية، كما أسلفت في الخط الأول، هي حاملة لمفاهيم عديدة، وبسبب غناها الوافر في أنشطتها وأمثلتها وتدريباتها وإنشائها ومفرداتها وتراكيبها وبلاغتها، فإنّها توفّر منطلقاً لتحقيق أهداف عديدة ومهارات عديدة؛ فالمواطنة والهوية وسيادة القانون وحقوق الإنسان وغيرها، هي مفاهيم يمكن أن تتحلل دون جهد معظم أنشطة اللغة العربية، وعلى سبيل المثال:

اقرأ أيضاً: تعرّف إلى اللغة التي يتشارك فيها شعوب العالم كافة

بدلاً من أن تقول للطلبة: أعرب العصفور فوق الشجرة، يمكن أن نقول: القانون فوق الجميع، وهكذا مرّرنا فكرة ومبدأ مهماً دون جهد أو دون عرض مباشر، فعبر اللغة العربية يمكن تحرير مفاهيم وقضايا عديدة دون أن نثقل المنهاج سواء في اللغة العربية أو غيرها.

الخط العريض الخامس: ترابط المواد الدراسية معاً

اللغة العربية هي حاملة وناقلة لجميع المواد، وقد تعتمد سهولة منهاج ما أو صعوبته على مدى وضوح اللغة وبساطتها وسهولتها، إضافةً إلى أنّ جميع المواد الدراسية تشترك أيضاً في غايات مشتركة، مثل شخصية المتعلم وطريقة تفكيره، وتزويده بمهارات التفكير، والدقة، واتجاهات البحث والتجريب، ولذلك، فإنّ اللغويين يجب أن ينخرطوا في تأليف أو إخراج جميع الكتب المدرسية.

الخط العريض السادس: التحدث بلغة فصيحة

تعاني اللغة العربية الفصيحة من تغوّل اللهجات العامية، سواءً في البيت أو في المدرسة، ونادراً ما نرى مدارس تركز على اللغة الفصيحة؛ فالمطلوب منهاج يقرر التحدث بالفصحى، ومعلّم يتحدث بالفصحى، ومدرسة قادرة على نقل ثقافة الفصحى إلى المنزل وحتى إلى المجتمع.

هذه خطوط لمنهاج عربي، لا يرتبط بلهجة ولا ببيئة معينة فهو إطار عام، يتسع لكل الثقافات المحلية، ويقدر على نقل كل حاجات المجتمع.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية