لغة الإرهاب: كيف يؤثر علم الأعصاب على الخطاب السياسي؟

لغة الإرهاب: كيف يؤثر علم الأعصاب على الخطاب السياسي؟


19/10/2020

الإرهاب، كغيره من المفاهيم مثل؛ الحضارة والعولمة والثقافة والعنصرية والقومية والجنس والعرق، كلّها مفاهيم من نتاج الحداثة (الأوروبية)، بعد عصر التنوير والثورة الصناعية وما تبعها من تطورات وتداعيات متسارعة، شكلت المنظومة المعرفية لأوروبا والغرب المعاصر؛ أي إنّ هناك فصلاً واختلافاً كلّياً في معنى مصطلح الإرهاب في السابق والمراد به ومآلاته، والإرهاب الذي نعالجه ونعاني منه في الحقبة الحالية من العولمة.

لم تحظَ دراسة الإرهاب بوصفه حقلاً مستقلاً للدراسة باهتمام كبير عالمياً إلّا بعد هجمات 11 سبتمبر


وليس من السهل على الباحثين والخبراء استعراض الأدبيات التي تبحث حقل الإرهاب؛ لأنه حقل يتميز بتداخل كثير من حقول المعرفة معه، مثل: علم الاجتماع، والدين، وعلم النفس، وعلم الأعصاب، والفسيولوجيا، والعلوم السياسية، والاقتصاد، والتكنولوجيا، واللغة؛ الأمر الذي عقّد من دراسته، ثمّ زاد من هذا التعقيد قلة الدراسات المتخصصة بالظاهرة.

لم تحظَ دراسة الإرهاب، على أنّه حقل مستقل للدراسة، باهتمام كبير في العالم إلّا بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، التي أدّت إلى ثورة في حركة البحث والكتابة والتأليف والترجمة حول ظاهرة الإرهاب، حتى إنّ البعض يقدّر عدد الكتب التي صدرت عقب الهجمات بعقد بأكثر من (1742) كتاباً في الغرب.

وقد تنوّعت طبيعة هذه الكتب تبعاً للمدخل المعرفي الذي يتناول ظاهرة الإرهاب، ومن ضمنها كان مدخل مجال "علم النفس العصبي" واستخدام اللغة.

غلاف الكتاب

 من أهمّ وأفضل هذه الكتب يأتي كتاب ويسلي كيندال، وجوزيف م. سيراكوسا، وكيفن نوغوتشي، الموسوم: لغة الإرهاب: كيف يؤثر علم الأعصاب على الخطاب السياسي في الولايات المتحدة؟

(Wesley Kendall, Joseph M. Siracusa, and Kevin Noguchi, Language of Terror: How Neuroscience Influences Political Speech in the United States?)

يذكر أنّ ويسلي كيندال هو أستاذ مساعد في قسم القانون والدراسات القانونية، مدير برنامج في جامعة ويست فيرجينيا باركرسبورغ، وجوزيف سيراكوسا فهو أستاذ الأمن البشري والدبلوماسية الدولية ورئيس الدراسات العالمية في معهد ملبورن الملكي للتكنولوجيا في جامعة أستراليا، أما كيفن نوغوشي فهو أستاذ مساعد، باحث في الطب النفسي في كلية الطب بجامعة واشنطن، في سانت لويس بولاية ميسوري.

اقرأ أيضاً: سوسيولوجيا العنف والإرهاب.. مواجهة لا تحتاج حرباً

وكمدخل للكتاب أُشير إلى أنّ عالم النفس الإنمائي التطوّري الأمريكي (جيروم كيغان)، يقول، وهو محق في ذلك: "يتحدّد معنى أيّ جملة بالنسبة إلى المتحدث والسامع وفقاً للأمور الفعلية التي يتحدثان عنها، في ضوء شبكة الأفكار التي تصدر عنها الجملة". و(كيغان) يستلهم بذلك بعض المآثر الفكرية للفيلسوف البريطاني (لودفيك فتغنشتاين) الذي يقول: إنّ معاني معظم العبارات التي يتمّ تداولها بين الناس هي معانٍ مبهمة.

 ليس من السهل استعراض الأدبيات التي تبحث حقل الإرهاب نظراً لتداخله مع كثير من حقول المعرفة

استهلّ المؤلفون الفصل الأول من الكتاب بعبارة مؤثرة للروائي البريطاني الشهير جورج أورويل، تُعتبر فاتحة مفيدة لفهم محتوى ورسالة الكتاب يقول فيها: "في عصرنا، يُعتبر الخطاب السياسي والكتابة إلى حد كبير دفاعاً عمّا لا يمكن الدفاع عنه".

إنّ كتاب "لغة الإرهاب: كيف يؤثر علم الأعصاب على الخطاب السياسي في الولايات المتحدة"يوفر مزيجاً مثيراً للاهتمام من العلوم والتحليل السياسي مع جرعة مركّزة من اللغويات، كما أنه محاولة بحثية جادّة تنظر في كيفية استخدام الخطاب السياسي للتأثير على الجمهور من خلال المناهج السلوكية، ويبحث في أنواع محددة من المناهج السياسية وروتين التواصل التي تمّت صياغتها للحصول على استجابات مختارة من الجماهير.

وكما أكد المؤلفون، فإنّ الكتاب يأتي في ظل تطور أبحاث علم الأعصاب والتطور التكنولوجي المتسارع، وفي ظلّ الانقسام والاستقطاب السياسي بين الأحزاب السياسية الأمريكية المتنافسة، (لاحظ أنّ هذا الكتاب صدر عام 2015، أي قبل حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية الحالية بين دونالد ترامب وجو بايدن).

وفي عملية شرح واستكشاف مضامين أنواع الخطاب، يقدّم الكتاب الصادر باللغة الإنجليزية في 155 صفحة، في كلّ فصل من فصوله الثلاثة خطاباً، ويحلل محتواه، ويدعمه بدراستَي حالة لاستكشاف تأثير هذا الخطاب على الجمهور السياسي.  

واستناداً إلى مجال علم النفس العصبي وما يشير إليه المؤلفون بـ"السياسات الحيوية للأمن"، يبحث الكتاب في كيفية صياغة الخطاب السياسي للتلاعب بسكان بلد ما لدعم شرعية حملة مكافحة الإرهاب التي تقوم بها الحكومة.

يبحث الكتاب بكيفية صياغة الخطاب السياسي للتلاعب بسكان بلد ما لدعم شرعية حملة حكومية لمكافحة الإرهاب

وتستخدم الولايات المتحدة كإعداد لما يطلق عليه المؤلفون "نهج دراسة حالة نوعية متعددة المراحل"، يستخدم لدراسة حالة لويس بوسادا كاريليس، المنفي الكوبي الممول من وكالة الاستخبارات المركزية المسؤولة عن تفجير طائرة كوبية في العام 1976 الذي أسفر عن مقتل 73 شخصاً، وكيف يتناقض مع قضية عبد الباسط المقرحي، ضابط المخابرات الليبي الذي أدين في العام 2001 بتفجير طائرة بان آم 103، الذي أسفر عن مقتل 270 شخصاً فوق لوكربي ـ إسكتلندا، في 21 كانون الأول (ديسمبر) 1988، وأفرج عنه بعد 8 أعوام في السجن، لأسباب إنسانية، حيث كان مصاباً بمرض السرطان، في مراحله الأخيرة، وقد مات بعد الإفراج عنه العام 2012.

ومعلوم أنّ نظام القذافي دفع تعويضات لأسر الضحايا بلغت 1.7 مليار جنيه إسترليني.   لاحقاً؛ توصلت التحقيقات البريطانية الأمريكية المشتركة إلى أدلة تصبّ في اتجاه واحد واضح، وتؤكد مسؤولية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة، بزعامة أحمد جبريل، عن تفجير الطائرة، واتهامات عن تورّط إيران في العملية من خلال أحمد جبريل.

اقرأ أيضاً: كيف استغل الإرهاب وسائل الإعلام المعاصرة؟

يركّز الكتاب على مثل هذه الحالات من خلال تحليل اللغة السياسية المستخدمة لتغطية هذه الحالات وغيرها، كما يشرح المؤلفون "دراسة مضمون الخطاب، وكيفية استيعاب الخطاب من قبل الجماعات السياسية المختلفة، وكيف يتمّ في نهاية المطاف اتخاذ إجراء من قبل مستهلكي المعلومات، أي الناخبين".

 يؤكد المؤلفون أنّ هذه اللغة السياسية في أمريكا قد استخدمت بشكل هائل، وأنّ اللغة تعكس تاريخ الولايات المتحدة العنيف، وعلى الرغم من أنّ البحث يشير إلى أنّ بعض الناس قد يكونون أكثر استعداداً وراثياً لتعليق العقلانية، وأكثر تقبلاً للتصريحات السياسية الرجعية، فإنّ الضغوط الاجتماعية المتفشية في المجتمع العسكري الذي يسيطر على مجمع عسكري صناعي عالمي ضخم تجعله يستفيد بشكل كبير من الحرب على الإرهاب، ويستثمر بكثافة في رواية الحرب التي تجعل القرارات السياسية في الحرب صعبة لجميع المواطنين الأمريكيين".

وعلى الرغم من أنّ هذا الاستنتاج قد يُطعن فيه باعتباره غير عادل؛ لأنّ المؤلفين لا ينتقدون عمليات الإرهابيين التي قد تبرّر حملات الحكومات لمكافحة الإرهاب ضدهم، والتي قد تفسر كيفية تشكيل لغة مثل هذه الحملات، إلّا أنّ الكتاب ما يزال يقدّم مساهمة منهجية مهمّة في دراسة علم الأعصاب الذي يقوم عليه استخدام اللغة السياسية في المجتمع.

وقد أشارت مجلة "وجهات نظر حول الإرهاب" المرموقة التي تصدر عن جامعة ليدن ـ هولندا في مراجعتها للكتاب إلى أنه "يقدّم مساهمة منهجية مهمّة لدراسة علم الأعصاب الذي يقوم عليه استخدام اللغة السياسية في المجتمع ودور اللغة في فهم الإرهاب. وأنّ المؤلفين يُطلقون آفاقاً جديدة من خلال النظر إلى أنّ الأفكار -التي تكمن في إطار أفكارنا الرمادية والتي يتم التعبير عنها في نهاية المطاف من خلال اللغة- لها علاقة كبيرة بشخصية الإرهابي وأيديولوجيته ودوافعه".

في الخلاصّة؛ تأتي أهمية هذا الكتاب من تأكيده أنه "لتجنّب الحرب لا بدّ من ضرورة القيام بعملية فحص ونقد ذاتي للأفكار التي تؤدي إلى الحرب". وأعتقد بأنّ الكتاب يستحقّ القراءة من جميع التخصصات والمهتمّين بالسياسة وتطوّر علم الأعصاب وعلم النفس والإرهاب ومكافحة الإرهاب.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية