"المقدمات الصحيحة تؤدي إلى نتائج صحيحة"، ربما لا يختلف اثنان على هذه الجملة المنطقية، على الأقل اجتماعياً، وهذا ما يجعل من النتائج قواعد عامة طالما أُثبتت صحتها واقعياً، فالحكم يجب أن ينصب أولاً وأخيراً على الفعل، لأنه يعكس بالمحصلة سلوك الأفراد مع بعضهم البعض، ومع المجتمع الذي يعيشون فيه، وإعجاب الكثيرين باليابان مثالٌ على ذلك، هناك مجتمعٌ يُنتج باستمرارٍ ما يُدهش العالم مادياً ومعنوياً، رغم أنّ اليابان قد صُنّفت حسب إحصائية نشرها مركز "غالوب" الدولي بأنها من أقل الدول تديناً في العالم، مع ذلك تعدّ من أكثر الدول أمناً في آسيا، ومن الدول الأقل في معدل نسبة الجريمة عالمياً، هذا المجتمع بالدرجة الأولى هو ابن تربية أنتجتها ثقافة اليابانيين أنفسهم. يمكننا أن نتساءل من باب المقارنة وليس الإدانة المسبقة، ما هي التربية التي أنتجتها ثقافة مجتمعاتنا المتديّنة؟
اقرأ أيضاً: من رواد التربية والتعليم .. نستذكره معاً
لا توجد تربيةٌ في مجتمعاتنا تنفصل عن العقيدة الدينية، وهذه التربية العَقدية تنظر باستعلاءٍ إلى النظم التربوية الأخرى، إذ أنّ تصوراتها للعالم والإنسان نهائية، ولا يوجد حلّ للمشاكل الفردية والاجتماعية إلّا بالتمسك بها، إنّ هذه العقيدة تثوي في قاع النظم التربوية، وتوجهها من الأسفل، من خلال إرساء أسس التربية الدينية (العقدية والتعبدية والاجتماعية)، ويتم ذلك عن طريق المحاكاة والتلقين والتخويف، والغاية من ذلك قطع تذكرة إلى الجنة، وسدّ منافذ الجحيم، ولكن يبدو أن تحالف المؤسسة السياسية والاقتصادية مع المؤسسة الدينية، ضد اللبنات الأولى للتربية (الأسرة والمدرسة)، يفتح بوابات الجحيم الأرضي، ليبقى الأمل في الجنة جائزة ترضية على الآلام والتعاسة التي نعانيها.
على الرغم أنّ بعض النظم في مجتمعاتنا تدّعي العلمانية إلّا أنها تبقى مفصولة عن المجتمع الذي لا يعترف بالعلم إلّا في حدودٍ ضيقة
ترتبط تسمية وزارات التعليم لدينا بمفهومين اثنين " التربية والتعليم"، ونحن نقبل هذه التسمية بدون أن يخطر في أذهاننا: أنّ هذه التربية التي تحتل صدارة التسمية؟ تقف حاجزاً بين الطفل والعلوم التي يجب أن يتلقاها، لترسم حدوداً للعقل بما يصب في مصلحتها، فإذا كانت التربية منظومة قيميّة توجّه الفرد لتبنّي السلوك العام للمجتمع، فإنّ التربية في مجتمعاتنا تكرّس التصورات العامة والنمطية القائمة على التسلط والرفض والإلغاء، بما تمتلكه من قدرة على مماهاة الفرد مع عقائدها من دون أن يمتلك الحق في تغييرها أو تكييفها، وكيف له أن يمسّها وهي الطريق الوحيد إلى الحقيقة، ضمن هذا الإطار التربوي. وعلى الرغم أنّ بعض النظم في مجتمعاتنا تدّعي العلمانية، إلّا أنها لا تتجاوز حيّز الإدعاء، إذ أنّ العلوم التي يتعلمها أطفالنا خلال سني المدرسة، تبقى مفصولة عن المجتمع الذي لا يعترف بالعلم إلّا في حدودٍ ضيقة، يرفض مقدماته التي تتعارض مع عقيدته، ويقبل بنتائجه بما يناسب مصالحه، فما الفارق الذي ستحدثه نظرية "داروين" في المناهج المدرسية، إذا كانت أصلاً مرفوضة، لتعارضها مع التربية الدينية، ربما من هنا يبدأ لدينا نبذ المعرفة العلمية.
لا ينفصل الفقر وتفشي الجهل عن شكل النظم التربوية، فحسب تقرير مركز غالوب الدولي:" الفقراء والأقل تعليماً هم الأكثر تديناً من الأغنياء والأرقى تعليماً". مناسيب القراءة، والبحث العلمي المتدني في مجتمعاتنا يعيننا على فهم ذلك، فلا يتجاوز معدل القراءة السنوية للطفل العربي سبع دقائق، مقارنةً مع الطفل الياباني الذي يصل معدل قراءته إلى أربع ساعات إسبوعياً، كما أنّ نسبة المنشورات العلمية العربية، إلى المنشورات العلمية العالمية لا تتجاوز 1،1% حسب تقرير المعرفة العربي لعام 2009.
اقرأ أيضاً: رعب الإسلاموية من مراجعة مناهج التربية والتعليم
رؤية الحقائق كما هي لا كما نريد رؤيتها تتطلب الموضوعية، وأية رؤية تنفصل عن الواقع هي رؤية زائفة، وهذا ما نلمسه في مجتمعاتنا، فمع ارتفاع نسبة الجريمة والإرهاب، نجد من يترك جميع المآزق التي تعترض المجتمع ويغض النظر عنها، ليركض مطالباً بالتربية الدينية، وكأنّ مطلب التربية الدينية ليس مقصوداً في ذاته، وإنما مشجب تُعلّق عليه الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إنّ العقائد لم تفلح حتى الآن في تجنيب الإنسان المصير المظلم الذي ينتظره في فضاء التوحش الذي يسود العالم
عند سؤال مسؤول أمني في أحد الدول العربية الأكثر تديناً: كيف استطاعوا خفض معدل نسبة الجريمة لديهم؟ كانت إجابته بالتشديد الأمني. لم يتطرق إلى التربية الدينية، فهي تحصيل حاصل في مجتمعهم،هذه التربية التي لم تشكل رادعاً لارتفاع معدل الجريمة، لأنها ببساطة لا يمكنها أن تقدم حلاً للبطالة، ولا لضعف دخل الأسرة، كما أنها لم تتمكن من وقف انتشار المخدرات بين الشباب، بالإضافة أنّ هذه التربية تعزز النزاع الأسري، على خلاف ما يعلنه الإسلام في إعلائه من شأن الأسرة، "كمستقرٍّ للفرد ومصدرٍ لأنسه وراحته"، ولكن هل يمكننا أن نتحدث عن أسرة مستقرة في ظل تعدد الزوجات، والزواج المبكر أو بالأحرى زواج الأطفال، أو في ظل إعلاء سلطة الرجل، وعدم الاعتراف بمساواة حقوقية بينه وبين المرأة؟
اللجوء إلى التشديد الأمني الذي أخفض معدل نسبة الجريمة، لا يختلف عن اللجوء إلى التربية الدينية، كلاهما سلطة قمعية تتعامل مع النتائج دون الوقوف على الأسباب. بالمقابل هناك دول علمانية استطاعت خفض معدل نسبة الجريمة، عن طريق تطبيق القانون، هذا القانون الذي ينشأ عليه الطفل هو نمط تربية أيضاً، يقوم على الحقوق والواجبات والمساواة والعدالة الاجتماعية.
اقرأ أيضاً: منهاج التربية الدينية وأثره في المراحل التعليمية الأولى
المسألة فيما أود طرحه لا تتعلق برفض أو قبول العقائد، إنها تتعلق بطريقة استثمار هذه العقائد، فالتربية هي المكان الأمثل الذي يمكن أن يبدأ منه الاستثمار، كل دين يتضمن جانباً أخلاقياً كبيراً، ويمكن للتربية أن تستقي من هذا الجانب، وتطوره بما يتناسب مع الزمان والمكان وتطورات العصر، ولكن أن تتمترس كل ديانة خلف "أجوبتها وتفسيراتها الخالدة وأنها تمتلك جميع الأجوبة" بتعبير "ألبير كامو" في كتابه "الإنسان المتمرد"، فهي تعمل على تلقين الفرد أي تعليمه منهجاً جاهزاً وزجّه في قالب ثابت، وبالتالي هي تهمل التربية لحساب العقيدة، والنتيجة لن نجد أمامنا فرداً مستقلاً مبدعاً، بل متديناً ينتمي إلى نهجٍ وتفكير ضيّق، يلفه التعصب والتطرف للمعتقد. هذه العقائد لم تفلح حتى الآن في تجنيب الإنسان المصير المظلم الذي ينتظره، في فضاء التوحش الذي يسود العالم، بالتالي إنّ النظم التربوية تحمل أمام مجتمعاتها مسؤولية مباشرة عمّا يحدث، كما أنّ قبول هذه النظم بما يحدث تحت أي مسمى، هو ليس انتهاك للإنسانية فقط، بل ومؤامرة على الحياة.
ما دمنا نتكلم عن تربية إسلامية أو مسيحية أو أي تربية دينية، ستبقى القوالب الجاهزة ماثلة أمام وعينا -هذه القوالب الضيقة على مفهوم التربية المتجدد والمتطور دائماً- وسيبقى الاعتقاد الشعبي ساري المفعول، أنّ هذا الطفل عبارة عن عجينة نعجنها على هوانا، لنشكل منها رغيفاً إسلامياً أو مسيحياً أو توستاً غربياً.