
الحبيب الأسود
تصريحات وزير داخلية طرابلس عماد الطرابلسي حول ملف الحريات والموقف من المرأة لم تأتِ من فراغ، وإنما هي نتاج نزوع السلطة السياسية إلى إرضاء السلطة الدينية والاستقواء بها أمام تحديات الإطاحة بها، وعقد الاتفاق الذي يبدو ضروريًا بين الدكتاتورية الناشئة وجماعات الفساد المرتبطة بها من جهة، وتيارات المحافظة الدينية والاجتماعية من جهة ثانية، انطلاقًا من تقاسم المصالح ووصولًا إلى ضمان استدامتها، ومرورًا بما تهدف إليه أطراف إقليمية ودولية من تحويل ليبيا إلى مخبر للمشاريع التي اعتقدنا أنه تم طمسها بانهيار مشروع الربيع العربي.
ببساطة، دعا الطرابلسي كل من يحلم بالحرية إلى مغادرة البلاد ليعيشها في أوروبا، وأعلن فرض الحجاب على المرأة، ونشر عناصر النهي عن المنكر والأمر بالمعروف أو الشرطة الدينية، ومنع الاختلاط، والتحكم في تسريحات الشعر، وفي شكل الملابس المستوردة من أوروبا مقابل دعم الملابس المستوردة من باكستان وأفغانستان. وهو ما يعد مقدمة لإجراءات أخرى ينتظر أن تصل إلى غلق محلات تصفيف الشعر الخاصة بالنساء والمقاهي ومنع الحفلات الفنية وغيرها من المظاهر التي يبدو أنها لا تنسجم مع طبيعة المرحلة في ليبيا.
تؤكد تصريحات الطرابلسي أن هناك رفضًا ضمنيًا لقيمتي الحرية والديمقراطية، ولأول عماد تستندان إليه وهو الحريات الخاصة والعامة. شهدت ليبيا منذ الإطاحة بالنظام السابق حالة من الفوضى الفكرية والسياسية إلى جانب فوضى الفتاوى والمصطلحات، واعتماد الخطاب الديني كأداة للسيطرة على المجتمع ليس فقط من قبل تيار الإسلام السياسي، ولكن كذلك من قبل أمراء الحرب ولصوص المال العام ورموز الفساد والتهريب والمتاجرين بالبشر والمفلتين من العقاب وكل من يسعون لاكتساب وجاهة اجتماعية، ويطمحون للاستفادة أكثر من تراجع دور الدولة وانقسام مؤسساتها واستمرار الصراع الدائر على السلطة والثروة والسلاح بين الفرقاء، لاسيما بعد تشكيل دكتاتوريات تعتمد على حكم الأسرة والجماعة والمنطقة والفئة والتغطية بالدين لتأمين الذات واستباحة الآخر.
في 23 أكتوبر 2011، أعلن مصطفى عبدالجليل، رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي آنذاك، أثناء الاحتفال بما سمي تحرير ليبيا في مدينة بنغازي، أن “الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للقوانين”، وأكد أن كل القوانين التي تخالف الشريعة الإسلامية ستصبح ملغاة ومنها قانون حظر تعدد الزوجات. في 7 فبراير 2013، قررت المحكمة العليا في ليبيا رفع القيود عن تعدد الزوجات التي كان يفرضها النظام السابق كموافقة الزوجة الأولى أو الحصول على موافقة قضائية بعد أن يثبت الزوج أنه قادر ماديًا على إعالة عائلة كبيرة.
لم يكن ذلك مستغربًا، فالانتفاضة التي أطاحت بنظام العقيد معمر القذافي، سيطر عليها منذ اليوم الأول إسلاميون متشددون في شرق البلاد كانوا يقودون الحرب في الميدان، بينما كان قادة الإخوان يمثلون الواجهة السياسية للثوار بمشاركة رمزية لعدد من الوجوه الليبرالية القادمة من مطابخ إقليمية ودولية. كانت ليبيا آنذاك ساحة من ساحات الرهان على التغيير في المنطقة وضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد. وكان هناك شبه قناعة بأن الإسلام السياسي سيجعل من البلد الثري في شمال أفريقيا خزينة لتمويل المشاريع وملجأ للجماعات المسلحة أو فضاء لتدريب من يسعى للتمرد على سلطة بلاده. في تلك الأثناء كانت حمى الثورة في أوجها سواء في تونس أو مصر أو اليمن أو سوريا، وكان يمكن أن تتسع لتشمل دولًا أخرى. اختلفت ليبيا من حيث حدث التدخل الخارجي الذي جعل من حرب الإطاحة بالقذافي جزءًا ثانيًا من فيلم غزو العراق، ولاسيما من حيث برنامج الاجتثاث الكامل لمؤسسات الدولة باعتبارها امتدادًا للعقيدة السياسية والأيديولوجية التي كانت سائدة في ظل النظام السابق.
كان النظام السابق في ليبيا يتبنى الفكر القومي من الناحية السياسية، وهو ما لا يمكن القضاء عليه إلا من خلال استبداله بالفكر الديني، وقد تم ذلك عندما رفع المتمردون شعار “ثورة التكبير”، وعندما تم البحث في الأرشيف عن تصريحات سابقة للقذافي بغاية تجييرها على أنها دليل خروجه عن الإسلام، وهو ما يسمح لفقهاء الإخوان والسلفية الجهادية والعلمية على حد سواء بإصدار فتاوى تبيح هدر دمه. وكان أبرز هؤلاء الفقهاء الدكتور يوسف القرضاوي المنخرط في مشروع الربيع العربي كأحد أعمدة الدور القطري في احتضان تطلعات الإسلاميين للسيطرة على المنطقة.
في 28 يوليو 2011، أعلن عن مقتل عبدالفتاح يونس العبيدي، وزير الداخلية المنشق عن النظام والذي كان يتولى القيادة العامة لأركان جيش التحرير الوطني التابع للمتمردين. تعرض مع اثنين من مساعديه لإطلاق نار بعد استدعائه من الجبهة في البريقة للمثول أمام لجنة قضاة، وقيل إن يونس قتل بيد الثوار الذين كلفوا بجلبه من الجبهة. تبين أن الإسلاميين هم من اغتالوه عمدًا لضمان السيطرة على اتجاهات الانتفاضة وقطع الطريق أمام كل من يسعى إلى استغلالها سياسيًا لخدمة مشروع يناقض مشروعهم.
في العام 2018، قال مصطفى عبدالجليل: “اتفقت مع الإسلاميين ومنهم القائد الإخواني إسماعيل الصلابي، المقرب من قطر، على أن ألقي خطابًا من على منصة التحرير أقول فيه إن ليبيا ستحكمها الشريعة، مقابل أن يقوم ثوار درنة بقيادة إسماعيل الصلابي نفسه بتسليم أسلحتهم للدولة.” و”بناء على نص الاتفاق، أعلنت في خطاب التحرير بأن الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع، وأن أي قانون يخالف الشريعة سيلغى أو يُعدّل، ولكن الإخوان نكثوا العهد، ولم يتخلوا عن السلاح.” أكد رئيس المجلس الانتقالي الليبي السابق: “أنا وثقت في الإسلاميين بشكل عام، وقد نكثوا عهودهم، ولم يكونوا في مستوى ثقتي، وربما أعطيت ثقتي في ذلك الوقت لمن لا يستحق.. الإسلاميون لم يخدعوني وحدي بل خدعوا كل الليبيين.”
لم يكن مصطفى عبدالجليل بعيدًا عن دراويش الدين وإنما كان قريبًا منهم، وقد جيء به من شرق البلاد إلى وزارة العدل في طرابلس في العام 2007 بعد أن برز من خلال رئاسته للمحكمة التي نظرت في قضية حقن الأطفال بفايروس الإيدز من قبل الممرضات البلغاريات، والتي يؤكد إلى اليوم أنها قضية حقيقية وليست مفبركة كما يعتقد البعض. يُقال إن من جاء به هو سيف الإسلام القذافي الذي لعب بدوره ورقة الإسلاميين عندما كان يتزعم مشروع “ليبيا الغد”، فدفع بقوة نحو المصالحة معهم استنادًا إلى مراجعات فكرية أدارها عدد من الفقهاء ورجال الدين بقيادة القرضاوي ذاته، وتم بموجبها الإفراج عن العناصر الإرهابية التي كانت في العام 2011 في مقدمة المنتفضين ضد النظام من أجل تطبيق الشريعة لا من أجل نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان.
في حالة عبدالجليل كما في حالة سيف الإسلام كما في حالات أخرى، كانت هناك أطراف إقليمية ودولية تعمل على تكريس الدور السياسي والاجتماعي وتدعم الحضور الإعلامي والثقافي لجماعة الإخوان بما يجعل منها بديلاً لتنظيم القاعدة الذي كان فارضًا سطوته آنذاك. في ليبيا تداخل الإخوان مع القاعدة في منظومة أساسها التمرد والانقلاب على النظام. في العام 2012 وصل تنظيم القاعدة لأول مرة إلى السلطة ولا يزال دوره موجودًا إلى اليوم من خلال مفتي الجناح القطبي الصادق الغرياني الذي يتزعم اليوم دار الإفتاء ويعتبر المرشد الديني لسلطات طرابلس ويقول عنه عبدالحميد الدبيبة إنه شيخه وأستاذه، بينما كان مجلس النواب المنعقد في شرق البلاد قد عزله من منصب المفتي منذ عشر سنوات ووضع اسمه في لائحة الشخصيات المتهمة بدعم الإرهاب.
في 2017 قررت السلطات الموازية التي تسيطر على مناطق واسعة في شرق ليبيا حظر السفر إلى الخارج دون محرم على النساء تحت سن الستين. قال اللواء عبدالرازق الناظوري، بصفته الحاكم العسكري للمنطقة الممتدة من درنة شرقًا إلى بن جواد غربًا، رئيس الأركان العامة في قوات الجنرال خليفة حفتر: “اتخذنا هذا القرار من أجل أمن ليبيا فقط، ولا دخل لنا بسياسة أو دين.” في 2023 أثار قرار حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة في غرب ليبيا بشأن ضوابط سفر النساء بمفردهن دون محرم جدلاً حقوقيًا وقانونيًا، حيث “يشترط على كل امرأة ليبية، في حالة السفر دون مرافق، تعبئة نموذج يتضمن أسئلة غير مبررة حول أسباب سفرها، وسبب غياب المرافق، وعدد مرات السفر السابقة.”
تلك المواقف شكلت أعراضًا جدية لنظرة استعلائية ضد المرأة، وترجمت بالمقابل خليط التطرف بين العقلية الاجتماعية الذكورية والموقف الديني المتشدد الوافد والذي وجد البيئة الملائمة للانتشار، وتتبناه مواقع القرار سواء في طرابلس أو بنغازي وتمنحه مجالًا واسعًا ليفرض نفسه من منطلق تحالفه مع سلطات الأمر الواقع.
وبينما اختار أغلب أصحاب الفكر التحرري والعقلية المدنية مغادرة البلاد والإقامة في الخارج أو الصمت والانزواء في الداخل طلبًا للسلامة، وبينما تراجع دور المرأة الليبية وأصبحت ممنوعة من التعبير عن نفسها سواء بالموقف السياسي أو بالمقال الصحفي أو النص الأدبي أو النشاط المدني أو حتى باختيار اللباس وتسريحة الشعر، كان واضحًا أن الجنرال حفتر في الشرق والمهندس الدبيبة في الغرب، قررا أن يستقويا بالجماعات الدينية التي تنظر لكل منهما على أنه ولي أمر لا يمكن الخروج عليه.
في أبريل 2022 منح الدبيبة للغرياني قرارًا بتأسيس مدارس دينية تابعة لدار الإفتاء تتولى التعليم في المرحلتين الابتدائية والثانوية، وفي فبراير 2024 أعلن الغرياني أن كلية العلوم الشرعية والإفتاء التي نجح في السيطرة عليها إنما هي تأسيس لمشروع إستراتيجي وصمام أمان لمستقبل ليبيا، وتقدم بالشكر لحكومة الدبيبة لتجاوبها مع دار الإفتاء بمنع استعمال مصطلح “النوع الاجتماعي” لارتباطه مع “الجندر” واتفاقية “سيداو” الهادمة لأخلاقيات الليبيين، وفق تعبيره.
في أول العام الجاري، تأكد مرة أخرى تأثير المؤسسة الدينية على القرار الرسمي في البلاد وعلى اتجاهات التشريع ووضع القوانين. فقد أقر مجلس النواب قانون حد السحر والشعوذة، الذي تقدمت بمشروعه هيئتا الأوقاف والشؤون الإسلامية في طرابلس وبنغازي، والذي ينص على معاقبة الساحر بالقتل إذا ثبت أن سحره تضمن كفرًا، أو ترتب على سحره قتل نفس معصومة، كما يمكن للقاضي أن يحكم وفق ما توفر لديه من حيثيات قانونية على الساحر بإحدى العقوبات الآتية: القتل، أو السجن المؤبد، أو السجن لمدة لا تقل عن خمس عشرة سنة، مع غرامة قدرها مئة ألف دينار.
اليوم، لم يعد بإمكان الليبيين الحديث عن الحريات العامة أو الخاصة، وإنما هناك تحالف انتهازي بين السلطتين السياسية والدينية، وهناك رئيس حكومة قرر أن يضع كل البيض في سلة دار الإفتاء، فقط من أجل أن يضمن له الشيخ الغرياني دعم الجماعات المسلحة والميليشيات وتيار الإسلام السياسي وقوى المحافظين في دائرة الصراع من أجل البقاء في الحكم إلى أجل غير مسمى. وللطرفين أن يتقاسما النفوذ والثروة ومفاتيح الجنة الموعودة.
العرب