كيف يموت المُبدع العربي في بلاده؟

كيف يموت المُبدع العربي في بلاده؟


10/08/2022

شريف صالح

تعددت المآسي والموت واحد. قبل أيام تُوفي أستاذ العلوم السياسية جهاد عودة، أحد المنظرين البارزين في عصر مبارك، ولم ينتبه أحد لوفاته إلا بالصدفة، بعد مرور قرابة ثلاثة أيام.

كان للرجل حياة مرموقة تحت الأضواء وإطلالات تلفزيونية، وأبناء وأخوة، ومع ذلك، في زحام الحياة ينسى أقرب الأقرباء الاطمئنان أننا بخير حتى لو كنا نعاني مشاكل في القلب ـ كما في حالة عودة ـ كأنّ السوشيال ميديا بدلاً من أن تعزز صلة الرحم ضاعفت الكآبة وعزلة الناس.

حالة عودة ليست نادرة مع كبار السن ممن يعيشون بمفردهم لكنها تذكرنا بقصص وصور متنوعة لمآسي ونهايات حزينة عاشها مثقفون ومبدعون عرب.

الوحدة

إذا صنفنا وفاة عودة تحت لافتة "موت الوحدة" فهذه الحالة تكررت مع الفنان الشاب هيثم أحمد زكي الذي أصيب بهبوط حاد في الدورة الدموية ولم يكن بالقرب منه أحد يسعفه.

ومن قبله فوجئ الملايين بوفاة المفكر جمال حمدان (1928 ـ 1993) وكان يعيش وحيداً، وتردد أن السبب تسرب أنبوبة غاز، وحدث جدل واسع حول ضلوع إسرائيل في اغتياله، نظراً لما عرف عنه من مواقف قومية وعروبية.

المفكر جمال حمدان

تعذيب

بفضل أقبية السجون العربية كُتبت عشرات الروايات والسير المؤلمة، والطريفة أحياناً كما فعل محمود السعدني في "الطريق إلى زمش".

فماذا عمن قضوا نحبهم تحت التعذيب أو بسببه؟ وربما لم تُتح لهم فرصة تدوين قصتهم. أشهر حالة للمناضل والمثقف اليساري شهدي عطية (1911 ـ 1960) حيث قُتل تحت التعذيب في سجون عبد الناصر.

وهناك قصة أخرى لشاعر غير مشهور انتحر بعدما تعرض للتعذيب في سجون السادات هو أحمد عبيدة (1974) قيل إنهم سلبوا منه أوراقه وأشعاره وعندما فشل في استردادها جمع كتبه وأوراقه وملابسه وأقام وليمة للنار ثم رقص وسطها رقصته الأخيرة.

علماً أن التعذيب وتصفية المعارضين ودفعهم للانتحار ليس حكراً على نظام بعينه، ويكفي متابعة بيانات منظمة العفو الدولية ومؤسسات حقوق الإنسان، كي نعرف ما يتعرض له مثقفون من تصفية جسدية ومعنويةـ شرقاً وغرباً.

انتحار

إذا كان عبيدة خاض ألماً مزدوجاً بالتعذيب ثم الانتحار، فهناك من رأى في الانتحار جملة اعتراضية على الحياة، أشهر المبدعين المنتحرين الشاعر اللبناني خليل حاوي احتجاجاً على الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.

ثم تطول القائمة لتضم الكاتب وجيه غالي (1930 ـ 1969)  صديق وزميل الفنان أحمد رمزي في كلية فيكتوريا وصاحب الرواية الوحيدة "بيرة في نادي البلياردو" حيث عاش في لندن وطاردته وصمة زيارة إسرائيل وكتابة تقارير عنها، واختار جرعة كبيرة من الحبوب المنومة تاركاً رسالة "أظن أن الانتحار هو الشيء الوحيد الأصيل الذي فعلته في حياتي".

خليل حاوي

الثراء لا يكفي 

فضّل رجاء عليش أن يطلق الرصاص على نفسه عام 1979، مع أنه ولد لأسرة ثرية لكنّ قصر قامته وافتقاره للوسامة وحساسيته، كانت أسباباً لعدم تكيّفه حيث كتب: "عشتُ هذه السنين الطويلة وأنا أحلم بالانتقام من أفراد المجتمع الذين أفلحوا في أن يجعلوني أكفر بكل شيء".

أروى صالح (1951 -1997) صاحبة كتاب "المبتسرون" والناشطة اليسارية انتهت إلى العزلة والاكتئاب، واختارت القفز من الطابق العاشر. 

وسبقتها كاتبة أخرى من أسرة ميسورة هي عنايات الزيات (1936 ـ 1963) صاحبة الرواية الوحيدة "الحب والصمت" لكنها فضلت الحبوب المنومة، بعد قص شعرها. وكتبت عن سيرتها إيمان مرسال كتاباً مهماً "في أثر عنايات الزيات" نال جائزة الشيخ زايد.

وجيه غالي

وربما أحدث المبدعين الذين اختاوا الانتحار بوابة للخلاص الكاتب التونسي الشاب نضال الغريبي الذي عانى البطالة والعجز عن توفير علاج لوالدته فأنهى حياته عام 2018. وهكذا تنوعت أسباب الانتحار ما بين الخاص والعام، الاجتماعي والنفسي والسياسي.

تصفية جسدية

يتكرر ذكر إسرائيل وراء دوافع انتحار بعض المثقفين خصوصاً المعروفين بنضالهم السياسي، وأيضاً في بعض حالات القتل والتصفية الجسدية وأشهرها بالفعل مقتل الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني (1936 ـ 1972) بعبوة ناسفة في سيارته.

ليست إسرائيل وحدها المتهمة بأنها تمارس تصفيقة جسدية، هناك أيضاً الجماعات الإرهابية أسهمت بنصيب وافر، حيث لدينا محاولة شهيرة ضد نجيب محفوظ (1911 ـ 2006) انتهت بسكين في رقبته لولا عناية الله ووجود مستشفى أمام بيته. بينما نجحت تصفية الكاتب فرج فودة (1945 ـ 1992) بإطلاق الرصاص عليه أمام مكتبه وهو برفقة ابنه، بعد فتوى تكفره.

تشرد

الممثل عبد العزيز مكيوي (1934 ـ 2016) بطل الفيلم الشهير "القاهرة 30" أمام سعاد حسني، رغم أنه تجاوز الثمانين، لكنه لم يترك بصمة فنية مهمة وعاش ردحاً من الزمن مشرداً في الشوارع، ولا يختلف عنه كثيراً الرائدة المسرحية والممثلة الشهيرة جداً في زمنها فاطمة رشدي (1908 ـ 1996) لكن سارة برنار الشرق ـ كما كانت تُلقب ـ عانت الفقر والبؤس في أيامها الأخيرة لولا تدخل فريد شوقي لإنقاذها وتوفير مأوى لها.

 فرج فودة

ومن أشهر الأدباء الذين عاشوا حياة التشرد الشاعر عبد الحميد الديب (1898 ـ 1943) والذي تحدث عنه محفوظ في مذكراته، وكان شاعراً غاضباً متشائماً قضى أيامه الأخيرة ما بين التشرد والسجون ومستشفى الأمراض العقلية.

العصفورية

مستشفى الأمراض العقلية بإحالاتها سيئة السمعة، تصلح قبراً للتخلص من المبدعين المناوئين للسلطات، ليعيشوا أمواتاً "على قيد الحياة".

وربما هي حساسية المبدع وقلقه الهائل وإحباطاته العظيمة تنتهي به إلى هناك وأشهر الحالات الكاتبة اللبنانية/المصرية، مي زيادة (1886 ـ 1941) التي رويت حكايات روايات عن حقيقة مرضها وإيداعها في مستشفى للأمراض العقلية (العصفورية) بزعم إصابتها بالاكتئاب بعد وفاة والديها وصديقها جبران خليل جبران، وشعورها بجنون الشك والارتياب.

مي زيادة

ولدينا شاعر ومسرحي مرموق هو نجيب سرور (1932 ـ 1978) انتهى في مستشفى الأمراض العقلية مع اتهامات لنظام السادات بأنه تخلص من إزعاجه بهذه الطريقة واللافت أن سرور أطلق على ابنه اسم "شهدي" إحياء لذكرى المناضل شهدي عطية ضحية التعذيب.

موت هزلي

كان الكاتب عبد الحليم عبد الله (1913 ـ 1970) معاصراً ومنافساً لنجيب محفوظ، واشتهر برواياته الرومانسية مثل "شمس الخريف" وبعضها تحول لأفلام ومسلسلات معروفة مثل "شجرة اللبلاب"، وخلال زيارته لبلدته في دمنهور تشاجر مع سائق تاكسي لا يعرف من هو وأهانه إهانة بالغة أمام ابنه فانفجر مخ الرجل وتوقف للأبد عن كتابة الروايات.

في عام 2009 تشاجر الكاتب توفيق عبد الرحمن صاحب رواية "قبل وبعد" مع "تبّاع" (مساعد سائق ميكروباص) لم يحترم أنه عجوز تجاوز السبعين. وكان الرجل غاضباً لأن الميكروباص صدم سيارته، وبدلاً من إرضائه والاعتذار له، أمر السائق مساعده بدهسه تحت عجلات الميكروباص بكل بساطة!

أما موت مَلَك عبد العزيز (1921 ـ 1999) المأساوي فلا يخلو من طرافة، فهي شاعرة رومانسية مجددة، أحبت الأشجار وغنت لها، وختمت حياتها ضحية فوضى الشارع حيث سقطت عليها شجرة!

كلمة قاتلة

في قصة "موت موظف" لتشيخوف حكاية مؤثرة عن موظف بسيط عطس بالخطأ في قفا جنرال، وحاول مراراً الاعتذار ثم مات كمداً خوفاً من العقاب.

 مَلَك عبد العزيز

كأن هناك أفعالاً بسيطة قد تكون مميتة... كلمة جارحة قد تسبب ألماً أشد من طعنة خنجر، هذا ما حدث في واقعة شهيرة بطلها الشاعر صلاح عبد الصبور (1931 ـ 1981). عندما كان رئيساً للهيئة المصرية العامة للكتاب منظمة معرض القاهرة للكتاب ترددت أنباء عن مشاركة إسرائيل (ضمن برنامج التطبيع) وفي سهرة مع الأصدقاء انتقده بحدة الرسام بهجت عثمان وبعدها شعر عبد الصبور بإعياء شديد ثم سرعان ما لفظ أنفاسه وهو في الخمسين من عمره إن عبد الصبور نفسه هو القائل:

"هذا زمن الحق الضائع

لا يُعرف فيه مقتولٌ من قاتله

ومتى قتله

ورؤوس الناس على جثث الحيوانات

ورؤوس الحيوانات على جثث الناس

فتحسس رأسك... فتحسس رأسك".

كتب تلك الصرخة الشعرية على لسان الحلاج أحد شهداء الكلمة في الثقافة العربية. كأنه قدر قديم عبر مئات السنين أن يموت المبدع كمداً وفقراً وتشريداً وتعذيباً وانتحاراً وتفخيخاً وجنوناً وغربة واغتراباً وتحت وطأة فوضى الشارع.

ربما يجادل بعضهم بأنها حالات "فردية" وأن أغلب المبدعين يموتون في أسرتهم وبين أحبابهم، لكننا لا نملك إحصاءات دقيقة، بل ويمكننا الاستطراد بمئات الحكايات المأساوية.  فالوضع العام للمبدع والمثقف والأستاذ الجامعي في العالم العربي شديد البؤس، مع ضعف الرواتب والأجور وتفشي الجهل والتفاهة والاستهلاك واحتقار الثقافة، باستثناء قشور وشكليات تخدم الأنظمة. لذلك حالات النجاح مثل نجيب محفوظ أو توفيق الحكيم أو محمود درويش تبدو إستثنائية وفردية أي ليست وليدة منظومة تحترم الثقافة فعلاً، ومرهونة كذلك بتجنب المبدع لأي اصطدام مع السلطة، ثم براعته في الاحتفاظ بقواه العقلية في واقع على حافة الجنون.

عن "النهار العربي"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية