كان علينا انتظار أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، حتى نعاين انخراط العديد من الباحثين المغاربة والعرب في الاشتغال على ظاهرة الحركات الإسلامية، وجاءت أحداث "الفوضى الخلاقة"، أو "الربيع العربي"، فكشفت بروز أسماء بحثية جديدة، تشتغل على الظاهرة، ولكنْ ثمة مستجد ظهر خلال العقد الأخير، يمكن في بروز أسماء إسلامية حركية، تشتغل على الظاهرة ذاتها، بمعنى آخر، نحن إزاء باحثين إسلاميين، يشتغلون على الظاهرة الإسلامية الحركية، موازاة مع أسماء من مرجعيات أخرى.
اقرأ أيضاً: هكذا أثرت الحركات الإسلامية على الاستقرار السياسي في العالم العربي
والحال إنّ مجرد اشتغال باحث إسلامي من حركة إسلامية ما سيجعله محاطاً بعدة سياجات أو تابوهات في معرض الاشتغال على الجماعة التي ينتمي إليها، مقابل التحرر النسبي في معرض الاشتغال على حركات إسلامية أخرى، تنافس الجماعة على ما نصطلح عليه "النطق باسم الإسلام".
الباحث الإسلامي يكون مقيداً عند دراسة جماعته مقابل التحرر النسبي في معرض اشتغاله على حركات إسلامية أخرى
يهمنا في هذا السياق، التوقف عند هذه الظاهرة بالتحديد؛ أي اشتغال باحث إسلامي حركي، على موضوع الحركة الإسلامية، ولنا أن نستحضر ما الذي سيُحرره باحث إخواني، منخرط في الاشتغال على ملف جماعة الإخوان المسلمين، وقس على ذلك، ما الذي سيُحرره باحث محسوب على حركة إسلامية قتالية أو "جهادية"، أثناء اشتغاله على المشروع الإخواني أو على الحركات الدعوية.
ولكن مهما اختلفت المقاربات، بما في ذلك تصفية الحسابات بين مختلف هذه الأقلام، كما نعاين ذلك فعلاً على أرض الواقع، فمؤكد أنّ مُخرجات هذه الدراسات والمقالات والمؤلفات، تبقى اختزالية وأيديولوجية، بما يُفسر قصور مدى تأثيرها، واقتصار ترويجها على أعضاء المنظومة الإسلامية الحركية التي ينتمي إليها هذا الباحث أو ذلك، مثلاً، الباحث الذي ينتمي إلى حركة إخوانية، سيحظى بدعاية في مدار المَجَرة الإسلامية الحركية التي ينتمي إليها، وليس في المَجَرة التي تؤطرها جماعة إسلامية قتالية، وهكذا دواليك.
اقرأ أيضاً: مفارقة المآزق الأخلاقية عند الحركات الإسلامية
لنتوقف عند نموذج تطبيقي دالّ، ويهمّ مذكرات للتجربة الإسلامية الحركية في نسختها المغربية، ونخص بالذكر ما جاء في سلسلة حوارات أجراها الصحافي والباحث بلال التليدي، نشرتها صحيفة "التجديد" الإسلامية الحركية، قبل أن يتم تجميع هذه الحوارات في كتاب، وجاءت أشبه بتجميل صورة بعض القيادات، وهذا أمر متوقع؛ لأنّها مُحررة من داخل المنظومة، وبالتالي، لا يمكن لسقف النقد أن يتجاوز السياج الدوغمائي الذي تسطره على أعضائها، وهذا أمر قائم مع أي مَجَرة أيديولوجية، بصرف النظر عن طبيعة الأيديولوجيا، مع فارق أنّ الأيديولوجيا التي نتحدث عنها هنا تهم الإيديولوجيا الإسلامية الحركية بالتحديد.
مُخرجات دراسات ومقالات ومؤلفات الباحثين الحركيين تبقى اختزالية وأيديولوجية
لهذه الأسباب وغيرها، وبعد متابعة العديد من الأعمال التي حرّرها أعضاء حاليون ينتمون إلى هذه المشاريع، أو كانوا من أتباع هذه المشاريع، ولكنهم أخذوا مسافة نهاية منه، ولكنها مسافة نسبية، نجزم بأنّ أفضل ما يُحرّر حول الظاهرة، نجده في أعمال أعضاء سابقين، لاعتبارات عدة، أهمها أنّ التحرر النهائي والصعب في آن، من المشروع، يُخول لهم اختراق السياج الدوغمائي المفروض على جميع أعضاء هذه الحركة الإسلامية أو تلك، سواء أقرّ أتباع المشروع أم لا، فهذه أمور معقّدة، تتشابك فيها محددات نفسية وروحية وعقلية وأخلاقية في آن، لذلك أشرنا في أكثر من مناسبة، بأنّ الانفصال النهائي عن المشروع الإسلامي الحركي، يترك مجموعة ضرائب أو مضاعفات على العضو المعني، أقلها أربعة: مضاعفات نفسية وروحية وعقلية وأخلاقية.
اقرأ أيضاً: العنف في بنية الحركات الإسلامية .. الاستعلاء الإيماني
وواضح أنّ أي عضو ينتمي إلى هذا المشروع أو غيره، يجد نفسه محاصراً بعدة سياجات دوغمائية، في معرض التناول العلمي للمشروع، سواء كان واعياً بذلك أم لا، وبالنتيجة، طبيعي أن تكون هذه الحدود ذات أثر واضح في طبيعة ما يصدر من مقالات ودراسات وما إلى ذلك، بينما الأمر مختلف كلياً مع العضو السابق.
ليس هذا وحسب، عندما نقرأ أعمال الأعضاء السابقين، نعاين قراءات مغايرة كلياً للأعضاء الحاليين، ونعاين على الخصوص ما يُشبه مفاتيح نظرية، لا نجدها عند أغلب من يشتغل على الظاهرة من خارج المشروع، ونقصد الأقلام البحثية التي تنهل من مرجعية لا علاقة لها بالمرجعية الإسلامية، سواء كانت أقلاماً مغربية، عربية أو أجنبية، ولا يتعلق الأمر هنا بالدراسات والأبحاث؛ بل نجده حتى في السير الذاتية والأعمال الروائية، ونتوقف عند نموذجين اثنين على الأقل، مقارنة مع نموذجين في المقال البحثي، مع الإشارة، إلى أنّ هذه النماذج الأربعة، صادرة جميعها عن أعضاء سابقين، والحديث هنا عن تجارب إسلامية حركية تهم الساحة المغربية حصراً؛ لأنه تصعب الإحاطة بأغلب وأهم التجارب التي تعج بها المنطقة، وخاصة التجارب المشرقية.
اقرأ أيضاً: العنف في بنية الحركات الإسلامية .. إذ يلبس لباس القداسة
نبدأ بالنموذجين الخاصين بالسيرة الذاتية، قبل التطرق للنموذجين الخاصين بالأعمال البحثية:
ــ يتعلق النموذج الأول بسلسلة مذكرات تنشرها الصحفية مريم التيجي في صفحتها الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، والتي تجاوز 70 حلقة حتى الصيف الجاري، وتتطرق إلى تجربتها الإسلامية الحركية مع حركة إسلامية مغربية؛ حيث يعاين القارئ تفاصيل نزعم أننا لا نجدها في أغلب ما صدر عن الجماعة، بما في ذلك ما صدر عن أهم الباحثين الذين رسخوا أسماءهم في الاشتغال على المشروع الإسلامي الحركي في المغرب، ونخص بالذكر الثنائي محمد ضريف ومحمد الطوزي، [من المنتظر أن تصدر هذه الحلقات عما قريب في كتاب].
أفضل ما يُحرّر حول الظاهرة أعمال أعضاء سابقين لاعتبارات عدة أهمها التحرر من السياج الدغمائي المفروض عليهم
ــ أما النموذج الثاني فيتعلق بالإعلامي والكاتب عمر العمري، من خلاله عمله الشهير الذي يحمل عنوان: "كنت إسلامياً"، والحديث عن عمل إبداعي مركّب، وميزته أنّه مجهود يجمع، في الواقع، بين الرواية والسيرة الذاتية، وما قد يُلخصها بشكل دقيق ما صدر على لسان بطلها الرئيسي (أبو أيمن): "إنّه سير طويل ووعر إلى الله.. ظننت أنّي وجدت الله.. لكن (الإخوان) كانوا حجاباً بيني وبينه... كانت هذه هي البداية لأنغمس في حياة كلّها تناقضات.. حسبت أنّ الدين واحد، فإذا بي أكتشف أنّ لكلِّ جماعة ديناً.. وأنّ لكلِّ حركةٍ صنماً تعبده.. وكلُّ واحد يعتقد أنّ الله اصطفاه وصياً على دينه.. فأين دين الله الذي ارتضاه في الأرض؟".
نأتي للأعمال البحثية، ونتوقف عند نموذجين اثنين أيضاً، في الحالة المغربية، حتى لا نتيه مع كثرة النماذج في الساحة العربية:
ــ نبدأ بما صدر عن الراحل فريد الأنصاري، ونخص بالذكر ثلاثيّته الشهيرة التي جاءت تحت العناوين التالية: "البيان الدعوي"، و"الأخطاء الستة للحركة الإسلامية في المغرب"، و"الفِطرية"، ونورد هذا المقطع الدالّ، والذي جاء في كتابه "الأخطاء الستة"، وجاء فيه بالحرف: "لقد كانت تجربة "التوحيد والإصلاح" [الإخوانية] صدمة منهاجية مفيدة جداً! بل كانت فرصة تاريخية في عمري! راجعتُ فيها كثيراً من المفاهيم الدينية، بدءًا بمفهوم (الدين) نفسه! وما تفرع عنه من مفاهيم العمل الإسلامي جملة، طبيعته، ومراتب أولوياته. فعانيتُ – شهد الله – أرقاً وحسرةً على ما ضيعت وعلى ما فرطت!".
اقرأ أيضاً: لماذا أخفق اليسار في المغرب رغم فشل الإسلاميين؟
وبسبب أهمية ودلالات ما صدر في هذا العمل بالذات، سوف يُحرر الداعية الإخواني أحمد الريسوني رداً في بضع حلقات على فريد الأنصاري، وصدرت حينها في صحيفة "المساء"، والريسوني كما هو معلوم، هو الرئيس الحالي لمنظمة إسلامية تحمل اسم "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"، وتعتبر اليوم ذراعاً من أذرع المشروع الإخواني.
ــ أما الكتاب الثاني، فيعود للباحث المغربي محمد لويزي، والذي يُقيم حالياً في فرنسا، حيث تطرق بالتفاصيل المسكوت عنها في الخطاب الإخواني، لمعالم هذا المشروع في نسخته المغربية وبدرجة أقل، في نسخته العربية والفرنسية. ونزعم أنّ مضامين كتاب لويزي، وأخذاً بعين الاعتبار الفورة في الأعمال المخصصة للمشروع، والصادرة هناك في الساحة الفرنسية، تعتبر إضافة نوعية في مقارنة مع أغلب ما يصدر عن الأقلام الفرنسية.