
تبدو سيناريوهات المواجهة الفرنسية مفتوحة وحاسمة ضد جماعة الإخوان، في ضوء التصعيد الراهن، والتحركات الأخيرة ضد التنظيم الذي بات يشكل خطرًا على قيم الجمهورية، وفق تصريحات رسمية. في هذا السياق تناولت دراسة حديثة صادرة عن (مركز الإمارات للسياسات) واقع ومستقبل التنظيم، محاولة رسم المسارات المستقبلية المتوقعة لسياسات الدولة الفرنسية في مواجهة الإسلام السياسي، وتداعيات ذلك على الجماعة.
في تحوّل نوعي يعكس جدية فرنسا في مواجهة نفوذ جماعة الإخوان المسلمين، أصدرت وزارة الداخلية تقريرًا مفصّلًا في أيار (مايو) 2024، بعد عام من إطلاق مهمة تحقيق واسعة حول نفوذ الجماعة وأساليبها في المجتمع الفرنسي. التقرير، الذي تولّى إعداده السفير فرانسوا جوييت والمحافظ باسكال كورتاد، لم يأتِ بمعزل عن السياق السياسي الفرنسي، بل يتقاطع مع توجهات الرئيس إيمانويل ماكرون لمواجهة ما يُسمّى بـ "الانفصالية الإسلامية" ضمن جهود أوسع لحماية المبادئ الجمهورية، وأيضًا ضمن رهانات انتخابية مبكرة استعدادًا للاستحقاقات الرئاسية المقبلة.
يرصد التقرير أهم ملامح الوجود الإخواني في فرنسا، من حيث البناء التنظيمي، والانتشار في قطاعات التعليم والعمل الخيري والدعوي، ويقدّم توصيات سياسية وأمنية للتعامل مع هذه الظاهرة. غير أنّ الوثيقة، رغم قيمتها التحليلية والسياسية، تطرح تساؤلات عن مدى فعاليتها في ظل تحديات داخلية وخارجية معقّدة.
يركز التقرير على توصيف جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها تنظيمًا ذا بنية مزدوجة: الأولى هي "الدائرة الصلبة"، وتتكوّن من مئات الأعضاء الملتزمين بالبيعة، بينما الثانية أوسع وتشمل المتأثرين بالفكر الإخواني أو المرتبطين به تنظيميًا من خلال أنشطة ثقافية أو دينية.
واقع الإخوان في فرنسا
في فرنسا، يقدّر عدد أعضاء "الدائرة الضيقة" للجماعة بما بين (400 إلى 1000) شخص، يديرون عدة مؤسسات، ومنها: "مسلمو فرنسا" التي كانت تُعرف سابقًا باسم "اتحاد المنظمات الإسلامية". إلى جانب هذا، تكشف البيانات الرسمية أنّ الجماعة تدير (139) مسجدًا ومركزًا إسلاميًّا، منها (68) مؤسسة تابعة لها بشكل مباشر، بالإضافة إلى (280) جمعية تنشط في مجالات التعليم، والعمل الخيري، والتوجيه الديني، وحتى القطاع الرياضي.
ما يلفت في التقرير هو التحوّل الاستراتيجي نحو النشاط المحلي، أو ما وصفه التقرير بـ "الإسلاموية البلدية"، حيث تسعى الجماعة إلى النفوذ عبر التعاون مع السلطات المحلية، وعقد تفاهمات مع مسؤولين بلديين لكسب دعم الناخبين المسلمين، وهو ما يمثل تحوّلًا عن النشاط الحركي القاري أو الوطني الكبير الذي كان يميز الجماعة في العقود السابقة.
التعليم والعمل الخيري والدعوة: ثلاثية النفوذ الإخواني
حدد التقرير (3) محاور رئيسة لنفوذ الجماعة في فرنسا:
أوّلاً: قطاع التعليم: تمتلك الجماعة شبكة من المدارس الإسلامية، منها (21) مدرسة تابعة لها بشكل مباشر، وتستقبل أكثر من (4200) طالب. ويُعَدّ هذا القطاع أولوية كبرى للجماعة، خاصة مع ازدياد عدد الطلاب بنحو (1000) خلال عامين، ممّا يعكس قدرة التنظيم على التوسع حتى في ظل الرقابة الأمنية.
ثانياً: العمل الخيري: تدير الجماعة عشرات الجمعيات لجمع التبرعات والزكاة، بعضها ارتبط بفضائح مالية، مثل "صندوق الوقف" الذي حُلّ بأمر قضائي. وتعتمد هذه المؤسسات على تمويلات من شركات مملوكة لأفراد مرتبطين بالجماعة، وكذلك على تدفقات مالية من دول مثل قطر والكويت.
بالنسبة إلى مسارات الجماعة المستقبلية، فمن المتوقع أن يزيد هذا الضغط السياسي والإعلامي والأمني من تراجُع نفوذها وتراجُع شعبيتها، وربما يؤثر هذا الاتجاه في بقية الفروع الأوروبية، بوصف الفرع الفرنسي الأكثر أهمية وتأثيرًا ضمن الشبكة الأوروبية، لا سيّما في حال وسَّعت باريس سياسة تطويق الجماعة نحو أوروبا من طريق دورها في الاتحاد الأوروبي.
ثالثاً: النشاط الدعوي: يُسلط التقرير الضوء على ظاهرة "الدعاة الجدد"، ممّن يعتنقون الفكر الإخواني ويستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي لبث رسائلهم. ويجمع هؤلاء بين الطرح السلفي وأسلوب الإخوان، ويوظفون أدوات تجارية مثل وكالات السفر والبنوك الإسلامية لخلق منظومة دينية-تجارية متكاملة.
ويشير التقرير إلى أنّ الجماعة تشرف على (815) مدرسة قرآنية في فرنسا، منها (114) مؤسسة مرتبطة بها، وهو ما يعكس عمق تغلغلها داخل الشرائح الشابة.
من الشارع إلى البلدية: تكتيكات التسلّل الصامت
يبرز التقرير ما وصفه بـ "التحوّل المحلي" في استراتيجية الجماعة، من خلال تركيزها على الأحياء والمدن الصغيرة بدلًا من المؤتمرات الكبرى أو الواجهات القومية. وتعتمد الجماعة على شبكات المساجد والجمعيات المحلية لعقد علاقات قوية مع المسؤولين المحليين، والتفاوض على مكاسب سياسية أو مادية في مقابل دعم انتخابي، خصوصًا من المسلمين الذين يشعرون بالتهميش وقد يعزفون عن التصويت.
هذا التكتيك يثير قلق السلطات الفرنسية، لأنّه يُكرّس نفوذًا صامتًا قد يصعب كشفه أو مواجهته بالأدوات القانونية التقليدية، ويحوّل الإسلام السياسي إلى فاعل "شبه رسمي" في الشأن المحلي.
تراجع شعبي وتنظيمي... ولكن
رغم المخاوف الأمنية التي يُعبّر عنها التقرير، إلا أنّه يعترف ضمنيًا بتراجع الزخم الشعبي والفكري لجماعة الإخوان في فرنسا. ومن أبرز المؤشرات على ذلك توقف الملتقى السنوي للجماعة منذ 2019، وهو الذي كان يجمع الآلاف من الأعضاء والأنصار، إلى جانب تآكل عدد الأعضاء الملتزمين، وشيخوخة القيادة التنظيمية، وانخفاض الموارد المالية.
وقد قدّر التقرير الميزانية السنوية للجماعة بحوالي (500) ألف يورو فقط، وهو مبلغ محدود مقارنة بحجم الطموحات، ممّا يثير الشكوك حول قدرتها على مواصلة التمدد بالمستوى نفسه.
التوصيات: وعي، وتنسيق، وخطاب بديل
يطرح التقرير جملة من التوصيات السياسية والإعلامية لمواجهة الإخوان:
ـ تعميق فهم الظاهرة عبر تحديد دقيق لمفاهيم الإسلام السياسي ومجالات تغلغله.
ـ التوعية العامة من خلال تقارير سنوية وحملات إعلامية.
ـ تدريب المسؤولين المحليين على رصد الظاهرة والتعامل مع ممثلي المسلمين بعيدًا عن الجماعة.
ـ تنسيق أوروبي لمراقبة نشاط الجماعة في الاتحاد الأوروبي.
ـ تعزيز الحوار مع المسلمين لمعالجة شعورهم بالتهميش، ومراجعة الموقف الفرنسي من قضايا مثل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
ـ دعم البحث الأكاديمي المستقل حول الإسلام، وإقامة فعاليات ثقافية لتسليط الضوء على إسهامات المسلمين.
لكن رغم أهمية هذه التوصيات، فإنّها تظل عامة ولا تتضمن آليات تنفيذية واضحة، وهو ما دفع الرئيس ماكرون إلى طلب صياغة توصيات إضافية أكثر دقة خلال اجتماع مجلس الدفاع في أيار (مايو) 2024.
توتر سياسي واستثمار انتخابي
لم يَخلُ التقرير من توظيف سياسي داخلي. فقد استُخدم من قِبل وزير الداخلية برونو ريتايو لتعزيز صورته كمرشح محتمل للانتخابات الرئاسية المقبلة، عبر تسريب أجزاء منه للصحافة. هذا التحرك أثار حفيظة الرئيس ماكرون، الذي رأى فيه محاولة لاستغلال ملف حساس لصالح حسابات شخصية.
كما أنّ الأحزاب اليمينية واليمينية المتطرفة وجدت في التقرير ذريعة لتعزيز خطابها المناهض للهجرة، في حين حذّر "المسجد الكبير في باريس" من مغبة الخلط بين مواجهة الجماعات الإسلامية وبين وصم المسلمين الفرنسيين، مؤكدًا ضرورة الفصل بين الدين والتطرف.
فرنسا والإخوان: آفاق مواجهة مُحتدِمَة
في ضوء مخرجات التقرير، والجدل السياسي الذي رافقه، تتوقع الدراسة أن تتجه سياسات الدولة الفرنسية نحو جماعة الإخوان المسلمين، والإسلام السياسي عموماً، في اتجاه أكثر تشدداً. وقد وعد وزير الداخلية برونو ريتايو، في أعقاب نشر التقرير، "بجعل الدولة أكثر فعالية في حربها ضد الإسلام السياسي"، وذلك بتوسيع "نظام خلايا مكافحة الإسلام المتطرف" التي أُطلِقَت في عام 2019، والتي توجد في جميع الإدارات، وتضم ممثلين من مختلف الخدمات الحكومية، من وزارة التعليم إلى الصحة، وتهدف إلى "تشخيص الحالة الإسلاموية" في الإدارة، و"تجميع" المعلومات و"متابعة المخالفات المرصودة"، وكذلك قوات التدخل السريع المعززة في الأقسام الأكثر تضررًا من "التسلل الإسلاموي".
ويهدف هذا الإجراء إلى تعزيز الرقابة الميدانية بشكل أكبر، على سبيل المثال في الأندية الرياضية أو الجمعيات الثقافية. كما أعلن وزير الداخلية عن تعبئة جهازين جديدين تابعين لوزارة الداخلية. وستتولى قيادة هذه المهمة "المديرية الوطنية للاستخبارات الإقليمية" و"مديرية الحريات المدنية". وقد تتضمن مهامها إنهاء الدعم المحلي للجمعيات، وإغلاق بعض الأماكن، وتوجيه الاتهام إلى الأشخاص الذين يحرّضون على الكراهية. لذلك من المتوقع أن تشهد الشهور المقبلة مزيدًا من عمليات تعليق وحلّ المنظمات والجمعيات التابعة للإخوان المسلمين والمجموعات السلفية أو تجميد أصول وشركات، وكذلك عمليات ترحيل قيادات وعناصر من الجماعة.
وعلى المدى المتوسط، من المتوقع أن تنتهي هذه المواجهة بقرار بحظر نشاط "منظمة مسلمو فرنسا" - الفرع الفرنسي للجماعة - وهو ما يُطالِب به حزب التجمع الوطني على أقصى اليمين، الذي يريد أيضًا وضع الجماعة على قوائم الإرهاب. وكذلك جزء من الاشتراكيين، كما تبدَّى في موقف الوزير السابق مانويل فالس. وهو ما كان يسعى إليه وزير الداخلية برونو ريتايو، مع أنّه أشار في مقابلة صحفية قبل أيام إلى صعوبة ذلك لسبيين: الأوّل هو انتشار الجماعة في قطاعات مختلفة؛ والثاني التحدي القضائي، حيث يعتقد أنّ القضاء الإداري يمكن أن يُعطل قرار الحلّ. ومع ذلك، فإنّ الوزير الفرنسي كان قد اقترح في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي أن تُستَحدَث "جريمة جنائية جديدة" في القانون الفرنسي تستهدف الإسلام السياسي، في استلهام للنموذج النمساوي، وفي حال نجح في إقناع المشرعين في مجلس النواب والشيوخ، سيكون بذلك قد امتلك أداةً قانونيةً لحظر نشاط الجماعة.
في تحول نوعي يعكس جدية فرنسا في مواجهة نفوذ جماعة الإخوان المسلمين، أصدرت وزارة الداخلية تقريرًا مفصّلًا في أيار (مايو) 2024، بعد عام من إطلاق مهمة تحقيق واسعة حول نفوذ الجماعة وأساليبها في المجتمع الفرنسي. التقرير، الذي تولّى إعداده السفير فرانسوا جوييت والمحافظ باسكال كورتاد، لم يأتِ بمعزل عن السياق السياسي الفرنسي.
أما بالنسبة إلى مسارات الجماعة المستقبلية، فمن المتوقع أن يزيد هذا الضغط السياسي والإعلامي والأمني من تراجُع نفوذها وتراجُع شعبيتها، وربما يؤثر هذا الاتجاه في بقية الفروع الأوروبية، بوصف الفرع الفرنسي الأكثر أهمية وتأثيراً ضمن الشبكة الأوروبية، لا سيّما في حال وسَّعت باريس سياسة تطويق الجماعة نحو أوروبا من طريق دورها في الاتحاد الأوروبي، وكذلك عبر التأثير في سياسات بقية الدول الأوروبية، خاصة أنّ التقرير أشار إلى ذلك بوضوح.
ومن شأن هذا التقرير، وما توصل إليه من نتائج وتوصيات، أن يؤثر مستقبلًا في مسارات تنظيم الديانة الإسلامية ومأسستها في فرنسا. فحتى وقت قريب كان مجلس الديانة الإسلامية يضم منظمات إسلامية منقسمة على أساس عرقي أو إيديولوجي، وبعضها مُوالٍ لدول خارج فرنسا. ومن المتوقع أن يُعاد تنظيم الوجود الرسمي الإسلامي في اتجاه منع المنظمات السياسية من كسب شرعية التمثيل. وفي شباط (فبراير) الماضي اجتمع وزير الداخلية الفرنسي مع ممثلين عن الديانة الإسلامية لإعادة طرح مشروع أطلقه سلفه قبل (3) أعوام، وهو "منتدى الإسلام في فرنسا"، الذي خلف المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، لمحاربة فكرة أنّ "الإسلام هو دين أجنبي، وللأجانب، ومُموَّل من قبل الأجانب"، وكانت القضية الرئيسة هي تدريب الأئمة والتمويل الخارجي للجمعيات والمساجد.
وتخلص الدراسة إلى احتمال أن تمضي سياسات الدولة الفرنسية إزاء جماعة الإخوان المسلمين، والإسلام السياسي عمومًا، في اتجاهٍ أكثر تشددًا، وربما تنتهي بحظر أو تعليق نشاط فرعها الفرنسي. وفي المقابل، من المتوقع أن يزيد هذا الضغط السياسي والإعلامي والأمني مِن تراجع نفوذ الجماعة وتراجع شعبيتها في الداخل الفرنسي، وربما يؤثر في بقية الفروع الأوروبية للجماعة. كما يتوقع أن يؤثر ذلك مستقبلًا في مسارات تنظيم الديانة الإسلامية ومأسستها في فرنسا، نحو مزيد من الاستقلالية عن التأثيرات السياسية والخارجية.