كيف منح الإخوان الشرعية للرئيس التونسي؟

كيف منح الإخوان الشرعية للرئيس التونسي؟


02/08/2021

"انقلب السحر على الساحر"، هكذا حال حركة النهضة الإخوانية في تونس اليوم، بعد قرارات الرئيس بتجميد البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه، وغير ذلك من الإجراءات الاستثنائية، استناداً إلى تأويله الفصل (80) من الدستور، والتي لا يمكن لأحد مراجعته فيها إلا المحكمة الدستورية.

لكنّ حركة النهضة، التي لم ترغب في وجود المحكمة الدستورية إلا مؤخراً، بعد اشتداد الصراع مع رئاسة الجمهورية، باتت اليوم في أمسّ الحاجة إليها، حتى إنّ لم تكن مُشكَّلة على هواها؛ فهي الوحيدة القادرة على وقف قرارات الرئيس قيس سعيّد، عبر الحكم على تأويله للدستور.

معضلة دستورية

نصّ دستور تونس لعام 2014، في الفصل (118)، على تأسيس المحكمة الدستورية، باعتبارها هيئة قضائية مستقلة تتركّب من 12 عضواً من ذوي الكفاءة، ثلاثة أرباعهم من المختصين في القانون الذين لا تقلّ خبرتهم عن عشرين سنة، ويعيّن كلّ من رئيس الجمهورية، ومجلس نواب الشعب، والمجلس الأعلى للقضاء، أربعة أعضاء، على أن يكون ثلاثة أرباعهم من المختصين في القانون.

انتهت مهلة تشكيل المحكمة الدستورية في تشرين الأول (أكتوبر) 2016

وجاء في الباب العاشر، تحت عنوان "الأحكام الانتقالية"؛ يتم في أجل أقصاه ستة أشهر من تاريخ الانتخابات التشريعية إرساء المجلس الأعلى للقضاء، وفي أجل أقصاه سنة من هذه الانتخابات إرساء المحكمة الدستورية.

وأُجريت الانتخابات، في تشرين الأول (أكتوبر) لعام 2014، وفي الشهر نفسه من عام 2015، انتهت المدة المحددة لتشكيل المحكمة، دون صدور القانون الأساسي بشأنها من البرلمان في الأجل المحدد؛ إذ صدر برقم (50) بعد الأجل، في شهر كانون الأول (ديسمبر) لعام 2015، ووقّع عليه رئيس الدولة وقتها، محمد الباجي قايد السبسي.

تعديل الدستور يتطلب وجود المحكمة الدستورية التي لا يمكن تشكيلها في ظلّ الدستور الحالي، ولهذا رأى قيس سعيّد أنّ النهضة وضعت نفسها في "موقف دستور مستحيل"

واستند الرئيس قيس سعيّد على المخالفات السابقة في رفض ختم التنقيح الذي أدخلته حركة النهضة، وحليفاها "ائتلاف الكرامة" و"قلب تونس، على القانون الأساسي للمحكمة الدستورية، وشمل التنقيح تخفيض الأغلبية المطلوبة لتزكية المرشحين للمحكمة الدستورية، من أغلبية الثلثين إلى أغلبية ثلاثة أخماس من نواب البرلمان، وذلك بعد عجز النواب عن استكمال حصة المجلس المقدرة بأربعة أعضاء، ولم ينجحوا سوى في التوافق على مرشحة واحدة.

اقرأ أيضاً: فشل "النهضة".. نجاح تونس

وشمل التنقيح حذف كلمة "تباعاً"، في الفصل (10) من قانون المحكمة، الذي ينصّ على أن "يتم تعيين أعضاء المحكمة الدستورية تباعاً من طرف مجلس نواب الشعب والمجلس الأعلى للقضاء ورئيس الجمهورية ...)، وذلك بهدف تجاوز إخفاق النهضة وحلفائها في تأمين الأغلبية المطلوبة لمرشحيهم للمحكمة، وكان الهدف تشكيل المحكمة بأيّ شكل، كورقة مساومة ضدّ الرئيس، وربما استشعرت النهضة الخوف من الرئيس؛ لهذا أحيت تشكيل المحكمة بعد سنوات من إهمالها.

تعطيل إرساء المحكمة الدستورية

وحول سبب تعطيل الإخوان لإرساء المحكمة، يقول المحامي التونسي لدى محكمة النقض، طه العبيدي؛ ماطلت حركة النهضة في إرساء المحكمة الدستورية، لأنّها لم تتوافر على الأغلبية التي تمكّنها من الهيمنة عليها، وفضّلت خرق الدستور على إرساء محكمة مستقلة تفصل في النزاعات بين السلطات، مثل النزاع الأخير بين الرئيس والبرلمان والحكومة، والذي كانت المحكمة كفيلة بالفصل فيه.

المحامي التونسي لدى محكمة النقض، طه العبيدي

وأضاف العبيدي، لـ "حفريات"؛ لو كانت المحكمة موجودة لفصلت في تأويل الرئيس للفصل (80)، لكنّ النهضة رفضت إرساءها، إلا إذا كانت خاضعة لها، حفاظاً على هيمنتهم على السلطة عبر البرلمان، حتى صار البلد محكوماً من قبل "ديكتاتورية برلمانية"، تضع يدها على السلطات الأخرى ومؤسسات الدولة.

ويرى العبيدي؛ أنّ حركة النهضة تعضّ الأصابع ندماً على عدم تشكيل المحكمة الدستورية بأي شكل؛ فعلى الأقل كانت تستطيع اللجوء إليها لتعطيل تنفيذ إجراءات الرئيس، لكنّها هي من عطلت التشكيل، ولهذا حالها كمن يُقال عنه (انقلب السحر على الساحر).

المحامي طه العبيدي لـ "حفريات": النهضة تعضّ الأصابع ندماً على عدم تشكيل المحكمة الدستورية؛ فعلى الأقل كانت تستطيع اللجوء إليها لتعطيل تنفيذ إجراءات الرئيس

والعجيب أنّ حركة النهضة، التي خالفت نصاً صريحاً في الدستور، بتجاوز الأجل المحدد لإرساء المحكمة الدستورية، اتهمت الرئيس بخرق الدستور، بسبب رفضه ختم مشروع القانون الأساسي بتنقيح قانون المحكمة الدستورية، وعلت أصوات داخل الحركة تطالب بعزل الرئيس لهذا السبب، لكن، بخلاف التوظيف السياسي المعتاد من الإخوان للقوانين لخدمة أهدافهم غير الدستورية، وقف قيس سعيّد بالمرصاد لهم، متسلّحاً بخبرته كأستاذ قانون دستوري.

اقرأ أيضاً: تونس بين "البورقيبية" و"الغنوشية"

وجاء في ردّ الرئيس على إحالة البرلمان مشروع القانون إليه للختم: "تستحضرون دون شكّ ما اقتضاه الفصل (148) في الفقرة الخامسة منه أنّه يتم في أجل أقصاه سنة من تاريخ الانتخابات التشريعية إرساء المحكمة الدستورية. مرّ اليوم أكثر من ستّ سنوات، وتذكّر المجلس الذي ترأسونه المحكمة الدستورية، بعد أن كان يتذكّرها البعض بين الحين والحين، لاعتبارات سياسية خالصة، لا حرصاً على الحفاظ على علوية الدستور".

وأضاف سعيّد: "المجلس النيابي بمثل هذا الموقف وضع نفسه في موقف دستوري مستحيل".

دستور جديد

وينصّ الفصل (80) من الدستور التونسي على أنّ "لرئيس الجمهورية، في حالة خطر داهم مهدّد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتّخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن التدابير في بيان إلى الشعب جاء فيه: "وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حلّ مجلس نواب الشعب، كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضدّ الحكومة. وبعد مضيّ ثلاثين يوماً على سريان هذه التدابير، وفي كلّ وقت بعد ذلك، يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البتُّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه".

ووفق قراءة الرئيس قيس سعيّد لهذا الفصل؛ فإنّ الظروف الاستثنائية التي تعيشها البلاد، من فوضى أمنية وأزمة اقتصادية كبيرة وكارثة جائحة كورونا، هي حالة فرضت على الرئيس علاج الأزمة، عبر تجميد البرلمان المتسبّب فيها، وإعفاء الحكومة، وتولّي رئاسة السلطة التنفيذية، وجاء قبول رئيس الحكومة السابق، هشام المشيشي، بإجراءات الرئيس ليعزّز من شرعيتها.

ولم يخالف الرئيس نصّ الفصل (80) صراحةً؛ إذ لم يحل مجلس النواب، بل قام بتجميده، وهو تأويل كان وجود المحكمة الدستورية كفيلاً بالبتّ فيه في المقام الأول، وفق الفصل ذاته.

اقرأ أيضاً: من هو نزار يعيش المرشح الأبرز لرئاسة الوزراء في تونس؟

ولم يكن حديث سعيّد عن "موقف دستوري مستحيل" من باب المبالغة؛ إذ إنّه، وفق الدستور الحالي، لا يمكن في أيّ حال تشكيل المحكمة الدستورية، لأنّ هناك نصّاً ملزماً بتشكيل المحكمة خلال عام، كحدّ أقصى، من تاريخ الانتخابات التشريعية، التي عقدت في تشرين الأول (أكتوبر) عام 2014، وربما تنتفي الاستحالة ويتمّ تعديل الدستور، لكن للشروع في ذلك يجب وجود المحكمة الدستورية؛ إذ يقول الفصل (144) من الباب الثامن، تحت عنوان "تعديل الدستور": إنّ "كلّ مبادرة لتعديل الدستور تُعرض من قبل رئيس مجلس نواب الشعب على المحكمة الدستورية لإبداء الرأي في كونها لا تتعلق بما لا يجوز تعديله حسبما هو مقرر بهذا الدستور"، ولهذا فتعديل الدستور يتطلب وجود المحكمة الدستورية، والأخيرة لا يمكن تشكيلها في ظلّ الدستور الحالي، ولهذا رأى قيس سعيّد؛ أنّ النهضة وضعت نفسها في "موقف دستور مستحيل".

ومن المرجَّح أن يمدّد الرئيس تجميد البرلمان لمدة أخرى، خاصّة بعد التفاف غالبية الشعب حول قراراته، بعد معاناتهم لمدة 10 أعوام من هيمنة الإخوان وحلفائهم على البلاد.

وفي استطلاع رأي أجراه معهد "إمرود كنسلتنغ"، بشأن قرارات رئيس الجمهورية، في 25 تموز (يوليو)، تبيّن أنّ 86% من المستجوبين أكّدوا مساندتهم لتجميد عمل واختصاصات المجلس النيابي لمدة 30 يوماً، بينما عبّر 6% منهم عن معارضتهم لهذا القرار.

واستناداً لهذه الشرعية الشعبية، ربما يلجأ الرئيس إلى إعادة كتابة دستور للبلاد، وتغيير النظام السياسي إلى رئاسي، وهو مطلب عام في البلاد، ولا تعارضه سوى حركة النهضة الإخوانية، وحلفاؤها من المنتفعين من استبداد البرلمان بالسلطة.

ويبدو أنّ اليأس بدأ في التسلل إلى حركة النهضة؛ بسبب الالتفاف الشعبي حول قرارات الرئيس، وفقدان الحركة للشعبية التي اكتسبتها برفع مظلوميات وشعارات دينية، وكذلك التفهم الدولي الكبير لقرارات الرئيس، حتى أنّ البنك الدولي أكّد دعمه لتونس لتجاوز السنوات العشر من الإخفاق الاقتصادي.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية