كيف ساهم الإسلام في تكوين البرتغال؟

كيف ساهم الإسلام في تكوين البرتغال؟

كيف ساهم الإسلام في تكوين البرتغال؟


16/01/2024

في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين كانت أعظم مراكز الثقافة الإسلامية في الغرب موجودة في شبه جزيرة أيبيريا (الأندلس)، وفيها تمت ترجمات المعرفة اللاتينية في الطب والفلك والرياضيات والكيمياء والفلسفة إلى العربية، وبسبب التماس الجيوسياسي مع الغرب المسيحي، وجد الدارسون الأوروبيون أنفسهم وجهاً لوجه مع معرفة العالم القديم المكتوبة بالعربية بعد ضياع أصولها اللاتينية.

اقرأ أيضاً: الحملات الصليبية... قراءة جديدة بعيون غربية
قبل ذلك كانت السلطات الروحية والزمنية لأوروبا تتجنب العلوم التي تراكمت لدى الحضارات قبل المسيحية، في وقت كان فيه الدارسون العرب يعتبرون هذه العلوم بمثابة "غنيمة مشروعة" للحروب التي فازت بها جيوش المسلمين الظافرة، وهكذا بدأت الثقافة العربية في استيعاب الفكر العلمي والفلسفي الأكثر تقدماً لدى الفرس والهنود والسريان والإغريق، وغيرها من الحضارات المهزومة والدارسة.
ومع التفوق الساحق للمسلمين أمام الغرب، شعر الأوروبيون حين ذاك بالحاجة الماسة لمعرفة أعمق بالعالم فأرادوا تجديد اتصالهم بالفكر القديم، لذا ولوا وجههم تجاه المصادر العربية للمعرفة والتي امتصت عناصر بالغة الثراء والتباين من الحضارات السابقة، وفي سبيل ذلك تأسست جامعات بولونيا وساليرنو في إيطاليا ومونبليه وباريس في فرنسا وأكسفورد وكامبردج في إنجلترا.
الأمر تعدى مجرد التأثير الثقافي والعلمي للحضارة العربية الإسلامية على النخب والشعوب الأوروبية

آخر أوروبا وصانعها
في كتابه حول تاريخ الأدب الأوروبي يقول خوان أندريس، كما ورد في كتاب "الإسلام في الليبرالية" لجوزيف مسعد (2017): "في القرن التاسع عشر لم يخطر ببال أحد أو كان من الصعب بالنسبة إلى معظم الأوروبيين تخيل، فضلاً عن اكتشاف أو الدفاع عن، فكرة تبعية "الأوروبي" لـ "العربي" ثقافياً. أو أن يتصور المرء أن الزهرة الأدبية الأولى لفرنسا، وهي زهرة توطدت وتكرست طويلاً على أنها الأولى في أوروبا، لم تكن الأولى فحسب، وإنما كانت بمعنى ما مشتقة من ثقافة الناس الذين هم مستعمَرون سياسياً و"بدائيون" ثقافياً ومادياً مقارنة بأوروبا (الحديثة).

مع التفوق الساحق للمسلمين أمام الغرب، شعر الأوروبيون بالحاجة الماسة لمعرفة أعمق بالعالم فأرادوا تجديد اتصالهم بالفكر القديم

ولم يكن الأدب وحده المستعار من العرب، بل كما يضيف أندريس: إنّ "الورق والأقلام والبارود والبوصلة وصلتنا من العرب. وربما كان البندول وقانون الجاذبية واكتشافات حديثة أخرى كانت معروفة لديهم قبل أن يعيها فلاسفتنا".
إلا أنّ الأمر تعدى مجرد التأثير الثقافي والعلمي للحضارة العربية الإسلامية على النخب والشعوب الأوروبية، إلى شعور الأوروبيين بتهديد وجودي على مصيرهم من هذا الآخر المختلف والمتقدم، فبمجرد أن فتح المسلمون أفريقيا وإسبانيا من بعدها حتى أصبح ملك فرنسا سيد الغرب المسيحي تلقائياً، كما يقول المؤرخ هنري بيرين، وينقل عنه مسعد.
فلم يكن الإسلام معروفاً بين الأوروبيين باعتباره "حصن المعرفة القديمة" فقط ولا بكونه مجرد قناة تصلهم بماضيهم الحضاري، بل كان مشهوراً بالأساس بجيوشه؛ فكان مجرد وجوده على تخوم وعلى أطراف أوروبا يمثل إهانة لمعتقداتها المسيحية وتهديداً لوجودها المادي، فقررت أوروبا شن هجمة مضادة.
بدأت الحروب الصليبية منذ القرن الحادي عشر ضد المسلمين مدفوعة بحماسة دينية متعصبة لطرد المسلمين من الأراضي المقدسة، ومطامع اقتصادية شجعها ظهور دول المدن الإيطالية التجارية الطامحة للسيطرة على تجارة جنوب وغرب أوروبا مع العالم غير الأوروبي، وهي المدن التي تولت تمويل الحرب ونقل الجيوش لغزو المشرق الإسلامي.

اقرأ أيضاً: أكذوبة الحرب الصليبية ضد العثمانيين
وفي هذا السياق الملبد ظهرت مملكة البرتغال، التي أسستها حملة صليبية فاشلة على القدس؛ كما يقول المؤرخ تريفور روبر، وكما ورد في كتاب "الماركسية السوداء: تكوين حراك ثوري للشعوب السوداء" لسدريك جي. روبنسون (2015)؛ حيث "أبحرت مجموعة من الصليبيين: الفلمنك (إقليم في بلجيكا) والفرنجة (الفرنسيين) والإنجليز والألمان نحو البحر الأبيض المتوسط للانضمام إلى الحملة الصليبية الثانية، ووصلوا إلى مصب نهر سورو (في شبه جزيرة أيبيريا) وتصل قادتهم إلى أنه لا حاجة لهم لمواصلة الإبحار نحو الشام؛ فهناك (كفار) في إيبيريا وأراضٍ خصبة مثلما في فلسطين، ووافق الصليبيون واستقروا هناك؛ وبدلاً من التوجه إلى الشمال زحفوا إلى لشبونة واستولوا عليها، وهناك ذبحوا كل السكان المسلمين ونصبّوا أنفسهم على أراضيهم ونسوا أمر مملكة القدس المسيحية؛ وأسسوا البرتغال".
مملكة جديدة للقارة الفاسدة
بسببٍ من النزعة الحربية السائدة على مؤسسي البرتغال الأوائل استطاعوا غزو قشتالة، ولكن لأنّ المملكة كانت تفتقد قومية واضحة وشعباً متجانساً في ظل الخليط الاستثنائي من شعوب أوروبا الغربية والبحر المتوسط، كان على الطبقات الحاكمة من النبلاء اختلاق قومية خاصة بمملكتهم مدعمة بالرموز والألقاب المسروقة من قشتالة، بالإضافة إلى الموروثة من بلادهم القديمة.

استغل البرتغاليون الطابع العسكري لبلادهم والخبرات الإيطالية البحرية والتجارية التي تكونت في سياق الحملات الصليبية على الإسلام

أراد المؤسسون صياغة تاريخ خاص لمملكتهم لاستخدامه في مغامرتهم الإمبريالية في القرون اللاحقة؛ واستناداً إلى خبرتهم البحرية بدأوا أول الكشوف الجغرافية الكبرى التي أدت إلى ظهور نظم العالم الحديث لأوروبا، مع الاستعانة بخبرات الإيطاليين البحرية والتجارية، ومع البقايا القوية للمغامرات المسيحية ضد الإسلام.
زادت الهجرة إلى المملكة الجديدة من البندقية وجنوة وفلورنسا وروما وكالتونيا، ومع المهاجرين الجدد انتعش شعور بالتصميم على أن تكون المملكة متميزة عن المجتمعات الفاسدة والمضطربة والمنحطة التي قدموا منها.
كان النابغون في أنحاء القارة، وتحديداً إيطاليا، يشعرون بأنّ أوروبا بغيضة أخلاقياً ومُنحلة، ينشتر فيها البغاء ويُحتقر فيها الزواج، ويسودها الكذب والسرقة والهرطقة والفوضى الناتجة عن الحروب الدموية بين الأمراء المسيحيين.
وفي الجهة الأخرى كان المسلمون يقفون كعدو لدود ينبغي سحقه، فكانت كراهية أوروبا القديمة وكراهية المسلمين المجاورين سببين قويين لرغبة البرتغال في التوسع، بالإضافة إلى السبب التجاري بالطبع. وهكذا قدم الإسلام، الذي اعتبره الغرب "الهرطقة المسيحية الأخيرة" لأوروبا الصاعدة، والمسكونة برُهاب الأجانب، دافعاً فكرياً وسياسياً واقتصادياً للتوسع والغزو، وبالأساس، لاختراع هوية أوروبا الجديدة التي تقطع مع ماضيها "المظلم" وآخرها "المسلم".
أراد المؤسسون صياغة تاريخ خاص لمملكتهم لاستخدامه في مغامرتهم الإمبريالية في القرون اللاحقة

الإمبريالية الأولى
استغل البرتغاليون الطابع العسكري لبلادهم والخبرات الإيطالية البحرية والتجارية التي تكونت في سياق الحملات الصليبية على الإسلام، في تأسيس اقتصادهم القومي على الحملات الحربية على شمال أفريقيا وبالتحديد على مملكة فاس ومدينة سبتة بعد حشد الطاقات القتالية للمملكة بـ"أمر المسيح" وبالمهارات البحرية الأوروبية الأكثر تطوراً، مع الاستعانة بالخرائط التي كان المسلمون وضعوها في السابق.
وضعت كل هذه الطاقات في خدمة المشروع الاستعماري الرائد للبرتغال والساعي لاستكشاف أفريقيا وسواحلها للعثور على طريق إلى جزر الهند الشرقية دون المرور بمصر، وإلى مملكة "بريستر جون" وهي مملكة خرافية اعتقد جغرافيو ذلك الزمان بوجودها في مكانٍ ما بلقب أفريقيا، وللوصول إليها كان على البرتغاليين أن يغزو "فاس"، التي يقطنها البربر، أولاً.
وحين ذاك كانت شمال أفريقيا تمثل نقطة النهاية لتجارة الذهب، وحتى ذلك الوقت كان العرب المسلمون حرّموها على التجار الأوروبيين؛ بهدف الحفاظ على أسرار مصادر المناجم وطرق التجارة عبر الصحراء الكبرى، لذا كانت خطوة البداية في تطور البرتغال تكمن في غزو تلك المناطق ونهبها، وتدشين ما سوف يعرف في الاقتصاد السياسي الحديث بـ "التراكم الأولي" للرأسمالية الصاعدة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية