هل يدفع الإخوان المسلمون ثمن مواقف وسياسات لم يتّخذوها، وتحوّلات لم يشاركوا فيها؟ نعم على الأغلب. هل فات الأوان، ولم يعد أمامهم خيار سوى اختفائهم، أم يمكنهم الاستدراك والاستجابة الصحيحة والملائمة؟ نظرياً؛ نعم، يمكن أن يعيدوا تشكيل وعيهم وأنفسهم، لكنّ التاريخ الاجتماعي يرجّح انقراض الجماعات والمؤسسات مع نهاية المراحل التي نشأت فيها، ونشوء جماعات ومؤسسات جديدة منبثقة عن المراحل الجديدة التي تشكّلت! لكن أيضاً هناك الكثير ممّا يمكن أن يفعله الإخوان المسلمون، إن أرادوا.
ليس سرّاً أنّ الإخوان المسلمين نشأوا وكبروا في رعاية دول وأنظمة سياسية عربية، كانت تراهم شريكاً في عمليات التأسيس والبناء، في مرحلة من مراحل تشكّل الدول والمجتمعات ومسارها، لا أحد ينكر ذلك، أو يتبرّأ منه، فهي عمليات ورؤى سياسية واجتماعية لها سيئاتها وحسناتها، وتحمل كثيراً من الصواب والخطأ أيضاً، ومن الانفصال عن الواقع؛ أن يظنّ الإخوان المسلمون أنّهم لم يكونوا شركاء للأنظمة السياسية، ففي مرحلة تأسيس الدول العربية والإسلامية الحديثة، كانت تهيمن على قياداتها، السياسية والفكرية والاجتماعية، فكرة الاستيعاب المعاصر للإسلام، أو إقامة دولة حديثة منسجمة مع الإسلام، وكان الإخوان المسلمون شركاء للحكومات والقيادات السياسية في ذلك، هكذا أسّست المناهج التعليمية، وكليات الشريعة، والتصورات المعاصرة للأنظمة الاقتصادية والتربوية والإعلامية والمصرفية، وأطلقت عمليات المشاركة الاجتماعية، والعمل التطوّعي لبناء المساجد والمدارس والمؤسسات الاجتماعية والثقافية، كان ثمّة رؤية (بغضّ النظر عن صوابها أو خطأها، فليس هنا مجال لتقييمها) بضرورة بناء فهمٍ معاصرٍ وتطبيقي للإسلام، في كلّ مجالات الحياة وخاصة المعرفية والثقافية منها، ويجب القول؛ إنّها رؤية انتصرت انتصاراً كبيراً، ومحرجاً أيضاً، فقد أنشأت الحالة الدينية، المهيمنة والمنتصرة، أزمات كبيرة وعميقة نعرفها جميعاً، مثل: التطرّف والعنف والتعصّب والتخلّف الاجتماعي والثقافي، وتحميل الدين والتّدين ما لم يأذن به الله، وصارت هناك ضرورة كبرى وملحّة لإعادة موضَعة الدين والتدين في الحياة والمؤسسات، كما السياسية والأسواق والمجتمعات.
الإخوان المسلمون شركاء في التديين الذي لم يطلبه الله، ولم يأمر به، وفي الخلط بين المقدّس والدنيويّ
إنّ مراجعة تجربة الإسلام السياسي (وأهم مكوّناتها الإخوان المسلمين)، ليس دفاعاً عن الحكومات والأنظمة السياسية في كلّ شيء، أو تبرير سياساتها ومواقفها، وفشلها الاقتصادي والسياسي والتنموي، لكن أيضاً يجب ألّا نغضّ النظر عن ضرورة مراجعة التجربة السياسية الإسلامية الجماعاتية، بحجّة أخطاء الحكومات والأنظمة السياسية في إدارة مواردها وتحدياتها، إنّما نعزل الظواهر عن بعضها (مخبرياً فقط) لأجل دراستها وفهمها، وما يبدو توافقاً مع اتّجاهات الأنظمة السياسية في مواجهة الإسلام السياسي، لا يعني بالضرورة الدفاع عن سياساتها وأخطائها، لكنّ الكاتب، وربّما تشاركه فئة اجتماعية وثقافية، تجد -بغضّ النظر عن الخلاف السياسي مع الأنظمة السياسية- أهمية وضرورة لما تفعله أيضاً، في مراجعة الإسلام السياسي الجماعاتي، حتّى وإن قيل، وكان صواباً هذا القول: إنّ الحكومات نفسها تمارس تدييناً للسياسة وتسييساً للدين، وإن قيل أيضاً، وكان صواباً أيضاً، إنّ الحكومات تستخدم مواجهة الإسلام السياسي لتمرير سياسات أخرى فاشلة واستبدادية، لكنّ المقاربة السياسية والاجتماعية، الوسطية والسلمية، تقوم على الجمع، بين التأييد والمعارضة والمراهنة على الإصلاح والأمل بالإصلاح، فلا نملك سوى ذلك غير التطرّف والفوضى والمغامرة!
ليست الأزمة الحقيقية بين الإخوان المسلمين والأنظمة السياسية في مقاومة التطبيع، أو في التنافس الانتخابي على مقاعد المجالس النيابية والبلدية، ولا يعقل أن تكون مثل هذه الاختلافات تستحقّ أن تفسّر الاختلاف بين السلطة التنفيذية والإخوان المسلمين، فالحكومات قادرة بأدواتها وإمكانيّاتها، المتفوّقة بأضعاف مضاعفة، أن تدير الحياة السياسية والعامة، باتجاه الأهداف والنتائج التي تحدّدها، ولا يمكن أن يشكّل أداء الحركة الإسلامية تهديداً سياسياً، أو أمنياً، للحكومة.
نحن اليوم في مواجهة موجة دينية غامرة حوّلت كلّ شيء إلى مقدس وأصاب الهوس الديني المجتمعات والأفراد
كانت الحكومات تحتاج إلى الإخوان المسلمين، كي يحرّكوا نوازع الدين والتدين في نفوس الناس، بعدما أعرضوا عن الدين، وانحسر التدين من حياة الأفراد والمجتمعات، وتشكّلت أساليب الحياة والعلاقات الاجتماعية، والثقافات، والفنون، والمؤسسات التعليمية، مستقلّة عن التأثير الديني، لكنّنا اليوم في مواجهة موجة دينية غامرة، حوّلت كلّ شيء إلى دين ومقدس، وأصاب التطرّف والهوس الديني المجتمعات والأفراد، وأصبحت الأنظمة السياسية في حاجة ملحّة إلى من يشاركها، ويساعدها في ترشيد التديّن ليكون مصدراً للتسامح والإنتاج والعمل والإبداع، ومحفزاً على الاعتدال والسلوك الاجتماعي الصحيح والانضباط القانوني، وبالتأكيد؛ إنّ الإخوان المسلمون ليسوا شريكاً ملائماً في هذه التحدّيات، فعلى العكس هم شركاء في التديين الذي لم يطلبه الله، ولم يأمر به، وفي الخلط بين المقدّس والدنيويّ، وفي تحويل حياة الناس إلى سلسلة من التعاليم الدينية المنضبطة، وما هي كذلك، ولم تكن كذلك في يوم من الأيام، لقد صنع الإخوان المسلمون، أو شاركوا في صنع، حالة دينية غير مسبوقة، أصبحت في حاجة إلى مواجهة لترشيدها وتصحيحها، هكذا أصبح الإخوان المسلمون عبئاً على أنفسهم، ودولهم، ومجتمعاتهم، وسوف نديم الصراع بلا فائدة أو طائل، إذا بقينا مصرّين على وضعها في سياق التنافس السياسي، وأسوأ من ذلك؛ إذا ظهرت الأزمة كأنّها بين حكومات معادية للإسلام، وجماعات إسلامية تقول "ربي الله".