كيف أصبحنا مهووسين بذواتنا؟

كيف أصبحنا مهووسين بذواتنا؟


12/07/2018

نعيش في عصر الفرد، من المفترض أن نكون رشيقين، مزدهرين، سعداء، منفتحين، وشعبيين؛ هذه هي صورة الذات المثالية، نحن نرى هذا الشخص في كل مكان: في الإعلانات، في الصحافة، في وسائل الإعلام الاجتماعية، لقد قيل لنا إنّه كي تكون هذا الشخص، عليك فقط أن تتبع أحلامك، وإنّ إمكاناتنا لا حدود لها، وإننا مصدر نجاحنا الخاص، هذا مدخل واسع يختلط فيه النقد الثقافي بالاجتماعي ضمن نسيج من عمل صحافي مبهر، جاء عليه كتاب "سيلفي: كيف أصبحنا مهوسين بذواتنا وكيف سيؤثر هذا علينا"، للمؤلف البريطاني ويل ستور.

وجد استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب أنّ 89٪ من الأمريكيين يرون أنّ احترام الذات مهم جداً للنجاح في الحياة

لكن هذا النموذج من "الذات المثالية" يمكن أن يكون خطيراً للغاية، الناس يعانون تحت تأثير قاسٍ من تلك الصورة الخيالية المستحيلة التحقق، ما يؤدي إلى الضغط الاجتماعي غير المسبوق؛ بل إلى زيادة الاكتئاب والانتحار، فمن أين تأتي هذه المثالية؟ لماذا هي قوية وجارفة في تأثيرها؟ وهل هناك طريقة لكسر الطوق الضيق الذي تصنعه تلك الصورة المثالية والسعي المحموم من أجل الوصول إليها في الواقع؟

اقرأ أيضاً: هل الإنسان عنيف وشرير بصورة مطلقة؟

هنا، في باب الإجابة عن هذه الأسئلة، يأخذنا المؤلف ويل ستور، وهو صحافي وروائي ومصوّر، وظهرت أعماله في العديد من الصحف، بما في ذلك "الغارديان"، "التايمز"، والأوبزرفور"، إلى رحلة عن الذات والهوس بها نفسياً واجتماعياً وتاريخياً، بدءاً بالفردانية اليونانية القديمة ومفهوم البطل، والعصور الوسطى؛ حيث الذات المسيحية، فمساهمات سيغموند فرويد وبعض علماء النفس المنافسين له، وتأملات بعض علماء الأعصاب والفلاسفة الذين اقترحوا حديثاً أنّ الذات، وإرادتها الحرة المفترضة، هي أقرب ما تكون إلى الأسطورة، وصولاً إلى فكرة احترام الذات التي بدأت كتيار ثقافي في ثمانينيات القرن الماضي، حتى صعود النرجسية وجيل الصور الذاتية "سيلفي"، كما يتجسد في عهد النيوليبرالية الفردية المفرطة التي نعيشها اليوم.

غلاف كتاب "سيلفي: كيف أصبحنا مهوسين بذواتنا وكيف سيؤثر هذا علينا"

يخلق المؤلف ببراعة قروناً من المواقف والمعتقدات حول الذات، في الفكر الغربي بالدرجة الأولى؛ من أرسطو وجون كالفن وفرويد، إلى سارتر وآين راند وستيف جوبز، ويجعل منها نثره المباشر والنوادر الشخصية، قابلة للفهم وبشكل ممتع.

اقرأ أيضاً: أين يقف الإنسان العربي؟

ستور، الذي وضع من قبل أربعة كتب نالت استحسان النقاد، ويواظب على التدريس في صفوف الصحافة، و"علم سرد القصص" في مناطق مختلفة من العالم تمتد من بانكوك إلى إسطنبول، وحتى دول أوروبية عدة، بدا منغمساً بإنفاق الكثير من وقته في بحث معمَّق عن احترام الذات ونقيضه، لكنه لم يبق أسير التفسيرات النفسية والتاريخية عن الذات الإنسانية وتحولاتها؛ بل قابل أنواعاً من البشر: أمريكية شابة منهمكة بالتقاط صور السيلفي ونشر مئات الآلاف منها. البريطاني جون، وهو عضو مجموعة عنيفة في لندن قرّر التوبة ووضع حدّاً لأنانيته المفرطة. راهب بنديكتي في دير منعزل بإسكتلندا، وعلماء نفس أكاديميين يتحدث إليهم بصراحة حول عملهم.

في كل تلك اللقاءات حاول المؤلف أن يكون فظّاً وفضولياً ومتشائماً، في استقصاء ميداني لفكرة الذات المعاصرة.

"بدعة" احترام الذات

وقضى المؤلف، الذي عمل على تغطية الحرب الأهلية في جنوب السودان، وعصابات المخدرات في غواتيمالا، ومجتمعات السكان الأصليين في المناطق النائية في أستراليا، ووصفته صحيفة "الإندبندنت" بأنه: "صحافي طويل ومتنوع ومبتكر، كاتب موهوب وطموح"، مضى في كتابه الصادر في شهر حزيران (يونيو) الماضي، إلى مناقشة ما أصبح يُعرف بـ "حركة الإمكانات البشرية" عبر معهد "Esalen" في كاليفورنيا، الذي كان يتردد عليه المشاهير الباحثون عن غور أعماق النفس وقلق الذات، بمن فيهم: الممثلتان جين فوندا، وناتالي وود (انتحرت).

فكرة الإفراط بالتقدير الذاتي تتوافق مع الأفكار الاقتصادية لآين راند والفردية السائدة في السياسة النيوليبرالية

وتلك الحركة، روّجت فكرة مفادها: إنّ "العلل الشخصية والمجتمعية يمكن علاجها من خلال تشديد القيود المفروضة على الأديان والحلول السائدة في المجتمعات التقليدية لإطلاق العنان للطاقات الواثقة في داخلنا، وإنّ كلّ ما تحتاجه أيها الإنسان هو الحب، خاصة من نفسك"، هنا يرى ستور بدء "بدعة احترام الذات"، التي سادت في أواخر الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وتطورت إلى وباء من اليقين الذاتي المبهرج رقمياً الذي يقال إننا نعاني منه اليوم.

اقرأ أيضاً: هل يرغب الإنسان حقاً في الحد من انتشار العنف بأشكاله؟

تلك البدعة، وجدت من يحاول تأصيلها كحقيقة علمية، فقد وجد استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "غالوب" المعروفة: أنّ 89٪ من الأمريكيين يرون أنّ احترام الذات "مهم جداً" للنجاح في الحياة، وسرعان ما انشغلت مدارس ومؤسسات تربوية وثقافية في أمريكا وبريطانيا بمحاولة تثبيتها كواقع لا يقبل الدحض.

الكاتب البريطاني ويل ستور

تأثير السياسة النيوليبرالية

لكن في الواقع لم يثبت صواب تلك الخلاصات فإساءة استعمال الكحول، على سبيل المثال، قد تتسبب في تدني احترام الذات بدلاً من العكس. ليس هذا وحسب؛ بل ثمة جانب مظلم لحركة الإنسان ومشاعره، فإذا كان الاتجاه الإيجابي والشعور بالقيمة الذاتية هما المهمان للنجاح، فإن الفشل هو بالتالي خطأ يتحمّله الفرد، وفي هذا يجادل ستور بأنّ فكرة الإفراط بالتقدير الذاتي تتوافق مع الأفكار الاقتصادية لآين راند، والفردية السائدة في السياسة النيوليبرالية، مؤكداً أنّ "جنون احترام الذات كان ذا جاذبية مستمدة من أفكار آين راند والليبرالية الجديدة".

تمكن ستور من مقاربة التنظير الفكري والأبعاد الثقافية لقضية فهم الذات والولع بها

وفي أقوى مضمون نقدي، يكتب ستور: إنّ "الكذب في عصر الفردانية المثالية هو أنّنا نستطيع أن نكون أيّ شيء نريد أن نكون عليه"، معتبراً ذلك نهاية للسعي البشري نحو محاولة تغيير أنفسنا، والتركيز بدلاً من ذلك، على وسائل لتغيير العالم. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ إحدى النتائج القوية في بحث ستور هي أنّ ازدهار بدعة احترام الذات كان فيها ما يرقى إلى الاحتيال.

ورغم عنوانه العصري، إلا أنّ كتاب "سيلفي" ليس كتاباً ساذجاً عن التقاط صور ذاتية، ونشرها بطريقة مبالغ فيها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل هو من الجدية والعمق بحيث يتناول في فصله الافتتاحي موضوعاً يختلف تماماً عن الاحتفالات الأنانية التي قد تعنيها ظاهرة الـ "سيلفي"، فهو فصل عن الانتحار أو محو الذات.

سباق الفئران المثالية!

تمكن ستور من مقاربة التنظير الفكري والأبعاد الثقافية لقضية فهم الذات والولع بها، فاستشهد بدراسات تربط بين تعظيم الأنا وصعود وسائل الإعلام الاجتماعية، مشككاً بـ "مقاصد بعض أقطاب التكنولوجيا الأثرياء، من أجل خلق ذوات أفضل، وربما "مثالية، وذلك عن طريق التلاعب بالكود الوراثي البشري".

اقرأ أيضاً: الاستلاب في ظل العولمة: كيف أفقر الإنسان نفسه؟

ويخلص المؤلف إلى أنّ الحلّ يكمن في التخلي عن "سباق الفئران المثالية"، الذي يهدف أساساً إلى تجميد القدرة البشرية: "أنت محدود وغير مثالي، ولا يوجد شيء يمكنك فعله حيال ذلك".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية