هل يرغب الإنسان حقاً في الحد من انتشار العنف بأشكاله؟

هل يرغب الإنسان حقاً في الحد من انتشار العنف بأشكاله؟

هل يرغب الإنسان حقاً في الحد من انتشار العنف بأشكاله؟


31/10/2024

كثيراً ما تندرج كلمة العنف في أحاديثنا اليومية كمفردة لغوية، ولا نقصد بها إلّا العنف المادي الظاهر على أرض الواقع؛ أي العنف الجسدي كالضرب والقتل، والعنف الواقع على الأشياء نتيجة النزاعات والحروب كتدمير المباني وحرق المحاصيل وغير ذلك من أنواع العنف الشديد، ويعود ذلك كلّه إلى ما تشهده المنطقة العربية اليوم من حروب واقتتال طائفي وسياسي واجتماعي، لكن في الحقيقة إنّ جوهر هذه المفردة؛ أي العنف، ينطوي على معانٍ كثيرة غير ظاهرة وغير مرئية، وهذا النوع من العنف يسمى العنف الرمزي، حسب بيير بورديو.
لو حفرنا بقليل من الوعي والتفكير في عمق الأنظمة الاجتماعية، ومن ثمّ، الأنظمة السياسية التي تدير شؤون المجتمعات وتسيّسها على هواها، والعقائد الدينية والحزبية والنوادي الرياضية ومناهج التعليم الدراسية والتنظيم الإداري في المؤسسات والدوائر الرسمية، لوجدنا أنّ العنف هو غذاؤنا اليومي، وغير مفصول عن شخصية الفرد منذ نشأته في مجتمع كالمجتمعات العربية الخاضعة للعنف بكليتها، والممارسة له على الدوام، فمن الصعب أو المستحيل أن نتحدث عن مجتمع من المجتمعات يخلو من العنف، على الرغم من اختلاف الثقافات السائدة فيها، فبعض المجتمعات المتقدمة يستتر فيها العنف تحت غطاء الحرية والمساواة، وإن تمكنت بعضها من تقليص العنف وتجريمه.

نشأ العنف منذ نشأة الاجتماع البشري لكنه بقي موضع جدلٍ وشك لدى الفلاسفة والباحثين في العلوم الإنسانية

قبل الحديث عن العنف الرمزي؛ لا بد من الإشارة إلى الأسباب المؤدية لممارسته، يقول علي الوردي: "ماذا لو أخبرتكم أن الكتب المدرسية عندنا تُعلم التلاميذ أن يكونوا ضباطاً عسكريين لا علماء باحثين"، هذه الدرجة الثانية في سلم العنف، سواءً الرمزي أو المادي، أما الدرجة الأولى فهي التربية المنزلية، من ثم تأتي الشروط الحياتية الملائمة لتنمية العنف وعدم كبح جماحه؛ وأهمها الظروف الاقتصادية المتردية وتفشي الفقر والبطالة في المجتمعات المتخلفة، بسبب استحواذ السلطة على الثروة الوطنية.

نشأ العنف منذ نشأة الاجتماع البشري، لكنه بقي موضع جدلٍ وشك لدى الفلاسفة والباحثين في العلوم الإنسانية؛ التي أولته اهتماماً كبيراً منذ ابن خلدون إلى الوقت الراهن، هل العنف من أصل الطبيعة البشرية، أم أنه مكتسب من البيئة الخارجية المحيطة بالإنسان؟
أعتقد أنّ العنف ليس من خصائص الطبيعية الإنسانية، التي هذبتها الحضارة والمدنية، إنما هو من خصائص الحياة البدائية الموسومة بالحاجة إلى البقاء والنزوع إلى السلطة، منذ الصراع الأول بين الإنسان والطبيعة؛ مروراً بالعصر الزراعي والصناعي انتهاءً بالعصر الحالي الذي تحكمه العولمة.

العنف ليس من خصائص الطبيعية الإنسانية التي هذبتها الحضارة والمدنية بل من خصائص الحياة البدائية الموسومة بالحاجة إلى البقاء

يعرّف بيير بورديو العنف الرمزي بالقول: أنه "هو ذلك الذي يمارس على فاعل اجتماعي ما بموافقته" وبلغة أخرى "فإن الفاعلين الاجتماعيين يعرفون الإكراهات المسلطة عليهم وهم حتى في الحالات التي يكونون فيها خاضعين لحتميات يساهمون في إنتاج المفعول الذي يمارس عليهم نوعاً من التحديد والإكراه" وبالنظر إلى أنّ هذا العنف رمزي فإنه يمارس بوسائل رمزية؛ أي في  التواصل الاجتماعي وتلقين المعرفة. وقد عرّف ابن خلدون المؤسس الأول لعلم العمران والاجتماع في مقدمة مؤلفه التاريخي الشهير (كتاب العِبر، وديوان المبتدأ والخبر..)، والتي اشتهر اسمها بمقدمة ابن خلدون؛ بأن علم الاجتماع: "ما يعرض لطبيعة العمران من مثل التوحش والتأنس والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من المُلك والدول ومراتبها ..." استعرضنا هذا التعريف لعلم الاجتماع، لأنه يبحث في الظواهر الاجتماعية الطبيعية والمكتسبة، كما يؤكد أن من أهم أسباب (التوحش) أي العنف عند البشر، هو النزوع إلى المُلك.

يرى الفيلسوف الفرنسي توني جيرار أن جذر العنف هو التنافس في الرغبات، "كلما كانت رغبة الآخرين في شـيء ما قوية وشديدة كانت رغبتي أنا أيضاً قوية وشديدة فيه ينتج عن ذلك احتمال اندلاع العنف". يتقاطع جيرار مع هوبز الذي حدد جذر العنف بالتنافس من أجل المنفعة الفردية أو الجماعية، والحذر من أجل الأمان أي (حفظ الكينونة الإنسانية)، والكبرياء ومن أجل الحفاظ على السمعة وحمايتها.

لا بد أن يبتكر الإنسان كوابح تحدّ من انتشار العنف إن رغب في ذلك كما ابتكر الزراعة والصناعة والتكنولوجيا

ويرى محمد أركون أنّ "الجماعة مستعدة دوماً للعنف من أجل الدفاع عن حقيقتها المقدسة. الإنسان في حاجة إلى عنف، وتقديس، وإلى حقيقة لكي يعيش ولكي يجد له معنى على الأرض. العنف مرتبط بالتقديس والتقديس مرتبط بالعنف وكلاهما مرتبطان بالحقيقة أو ما يُعتقد أنه الحقيقة". يتعارض أركون مع هوبز وجيرار في قوله إنّ العنف "حاجة" وليس رغبة؛ إذ الحاجة تنفصل عن الرغبة في كونها خاصة مشتركة بين جميع الكائنات الحية، أما الرغبة فهي خاصة بشرية صرفة. هذا هو العنف بشكل عام، أما العنف الرمزي الذي تحدث عنه بيير بورديو مطولاً فله أشكال عديدة أيضاً منها العنف اللفظي، المتمثل في تعريف الآخر سلبياً، أو تعريف الآخر لنا، أو بنزع الصفة الإنسانية عن الآخر وإضفاء صفة الحيوان عليه، وقد تستعمل في المديح أيضاً، لكن من دون إدراك المتكلم والمتكلمة بأنه عنف مبطن (فلان كالنمر)، وكأن النمر خارج نطاق النوع الحيواني، فقط الحمار حيوان عندما يريد المتكلم والمتكلمة هجاء الآخر، كما أنه؛ أي المتكلم؛ لا يدرك بأنه ينزع عن نفسه صفاته الإنسانية قبل أن ينزعها عن الآخر.
وكذلك العنف الحركي أو الإشارات التعبيرية، كالتهديد برفع السبّابة في وجه الطفل أو الشخص البالغ، والنظر إليه إما بالتحديق المُضمر للعنف أو بالرمق بنظرة إزدرائية تنتج فيما بعد عداوة حتمية.
لا بد أن يبتكر الإنسان كوابح تحدّ من انتشار العنف، كما ابتكر الزراعة والصناعة والتكنولوجيا، لكنه قد لا يرغب في كبح العنف خوفاً من ضياع السلطة والتحكم بالآخرين.

مواضيع ذات صلة:

الإخوان المسلمون من الدّعوة إلى العنف

الخطاب التربوي القائم على الإلغاء.. هل يولد العنف؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية