الإخوان المسلمون من الدّعوة إلى العنف

الإخوان المسلمون من الدّعوة إلى العنف


16/11/2017

يرصد كتاب ''النقط فوق الحروف، الإخوان المسلمون والنظام الخاص'' فترات مهمة من تاريخ تكوّن جماعة الإخوان المسلمين في مصر، ويقدّم ملامح التّجربة الشّخصية من خلال انضمام الكاتب أحمد عادل كمال إلى التنظيم والعمل في صفوفه، بعد التأثر بمنهجه والاقتناع بأطروحاته، وهو ما يوفر للقارئ فرصة للاطّلاع على طرق تسيير الجماعة من الدّاخل ووسائل عملها وأهدافها القريبة والبعيدة، من خلال تعاملها مع الواقع المصري بمختلف تناقضاته ومشاكله من جهة، والتنظيم الملتزم بالمفاهيم الإسلامية العامة في الظاهر والذي يرمي في حقيقته إلى بسط النفوذ والهيمنة من جهة أخرى، ولعلّ هذه المحايثة تفيدنا أيضاً من خلال الكشف عن البيئة العامة التي اختار الإسلاميون أن ينشطوا فيها، كما توفّر لنا نموذجاً من نماذج تقبّل خطاب الجماعة في صفوف المنتمين إليها، ذلك أنّ الكاتب يعمد إلى نقل شذرات مهمّة من الخطب الدّعوية التّأسيسية التي كان يلقيها حسن البنّا في الجمهور، ويصف ما كانت تخلّفه في نفسه وفي نفوس المتابعين من إعجاب وميل، كما ينقل لنا الأحداث بترتيب خاص وبتعاطف كبير مع الجماعة يظهر في دفاعه عن المنهج الذي تتبناه في الدعوة والتغيير سواء ما تعلّق منه بالعنف والتصفية الجسدية أو المنهج الفكري والتعليمي. ما يجعل إعادة قراءة الكتاب من الخارج تكشف للقارئ أساليب التنظيم وتشكيلاته وأهدافه.

وينبني تصوّر الجماعات الإسلامية لمفهوم الفرد والمجتمع وعلاقة كلّ منهما بالآخر، على اعتبار الفرد جزءاً من الجماعة ولا يمكن أن يكون خارجها، فلا أهمّية له في المجتمع إلا عند ارتباطه بالجماعة والالتزام بها والتعبير عنها من داخلها؛ والمجتمع حسب هذا التصوّر لا يعدو أن يكون سوى الجماعة الإسلامية التي تهيمن على الفرد وتحتويه بناء على إيهامه بامتلاكها الأحقية الدّينية المتضمّنة للمشروعية السّياسية التي تخوّل لها امتلاك الفرد وصهره في إطارها وتوجيهه نحو ممارسة العنف المعنوي والمادّي بمختلف أشكاله.


لذلك فإنّ عمل جماعة الإخوان المسلمين اتّجه منذ بداياتها إلى تسييج المواطن المصري الذي يكدّ وراء لقمة عيشه، والبحث عن مفاتيح الدّخول إلى قلبه وعقله والتّأثير في عواطفه، وبالتّالي إخضاعه ليكون مادّة طيّعة قابلة لإعادة الصّياغة الفكرية والأيديولوجية من ناحية، والسّلوكية والاجتماعية من ناحية أخرى، عبر أساليب الإقناع بفراغه الرّوحي وببعده عن ''الدّين الصّحيح'' وبجهله بالقيم الرّوحية التي يختزنها الإسلام والتي تتضمّن جميع الحلول لمشكلاته اليومية ولهمومه الحياتية، ومن ثم العمل على إقناعه بتقبّل القيم ''الثابتة'' والتصوّرات الإسلامية ''الصحيحة'' التي يذهب في ظنّه أنّه مغيّب عنها بدافع الخطأ والظّلال.
ويشير الكاتب إلى ذلك عبر عرض محتويات بعض المعلّقات الحائطية بإحدى شعب الإخوان، وفيها أن السرّ في تأخّر المسلمين ابتعادهم عن دينهم، وأن أساس الإصلاح العودة إلى تعاليم الإسلام وأحكامه، وأن ذلك ممكن لو عمل المسلمون له، وأن فكرة الإخوان المسلمين تحقق هذه الغاية.
ويركّز خطاب الدّعوة على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والتركيبة النّفسية المتنوّعة التي تجمعها خصائص محدّدة مثل؛ فقدان الأمن النفسي والمعاناة من البطالة والفقر والإحساس بضياع الهوية وتراكم الظلم الاجتماعي وضياع الكرامة القومية في مواجهة إسرائيل والغرب، وتستغل الجماعة هذا الجانب، بشكل أساسي في عملية الاستقطاب، ما يمكّنها من التدخّل في جزئيات حياة الأفراد الخاصة ومنها طرق التّخاطب والسلام والتحية وطرق الطّعام واللباس والعلاقات الأسرية وكسب الرزق والإنفاق... وبهذا المنهج الاحتوائي التعبوي ترمي الجماعة إلى عزل الفرد عن المحيط الاجتماعي السائد وإكسابه المبرّرات لرفضه والاحتجاج عليه وبالتالي السعي نحو تغييره باللين تارة وبالقوة تارة أخرى.

جماعة الإخوان كانت منذ بداياتها حركة سياسية عنيفة سعت إلى الاستحواذ على المجتمع وعلى الدّولة، واستخدمت في سبيل تحقيق ذلك أساليب عديدة تبدأ بالدعوة والاستقطاب وتنتهي إلى العنف والإقصاء والتطرّف الدّيني


وتستخدم لذلك آليات تبدأ من الوعظ والإرشاد وممارسة التربية العقائدية والرّوحية للأعضاء، والدّعوة إلى أفكار بعينها تدور حول ضرورة إعادة مجد الأمة الإسلامية الضّائع، وعدم القبول بحالة الضّعف والاستسلام، وصولاً إلى الدّعوة المباشرة إلى تغيير المجتمع عبر استخدام أنماط من العنف العشوائي الفكري كالإرهاب والتكفير والإخراج من الملّة، والعنف المادي الذي يبدأ بتنظيم الإضرابات والمظاهرات والاعتصامات ومحاولة السيطرة على المجتمع بشتى الوسائل، وينتهي بالتفجير والقتل وسفك الدّماء. 
وعلى هذا الأساس تقوم جماعة الاخوان المسلمون بتعبئة قطاعات اجتماعية واسعة من الجماهير وتصوغ أحلامها الجماعية ومطالبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتحرّكها في اتجاه محدد هو الإصلاح أو التغيير الجذري من أجل تأسيس المجتمع والدولة الإسلاميين اعتماداً على استراتيجيات متنوّعة بين الانخراط في العمل الاجتماعي والدعوي والتربوي والسّياسي والاقتصادي وبين ممارسة العنف المباشر وغير المباشر ضد الدولة ورموزها وضد الخصوم السياسيين والفكريين على اختلافهم.
ويتأسس الانتماء إلى الجماعة على مجموعة شروط أوّلها تقديم البيعة وأركانها -كما وضعها حسن البنا- عشرة وهي: ''الفهم والإخلاص والعمل والجهاد والتضحية والطاعة والثبات والتجرد والأخوّة والثقة''، ولئن كان القبول بشروط البيعة واجباً على كل منتم، فإنّ هذه الشروط تتفاوت في ما بينها في مستوى القوة؛ ولعل شرط الطاعة وشرط الجهاد يتقدمان على بقية الشروط الأخرى، ومن ثم فعلى المنتمي إلى الإخوان أن يلتزم طاعة القيادات ما أمروه ويكون مستعدا للجهاد ''وأوّل مراتب الجهاد إنكار القلب وأعلاها القتل في سبيل الله''.

تعتبر جماعة الإخوان الفرد جزءاً من الجماعة، ولا أهمّية له في المجتمع إلا عند ارتباطه بها

وكان العمل الميداني للإخوان تبعاً لذلك يعتمد على الاجتماعات اليومية المفتوحة التي تباشرها القيادات والرموز الخطابية، في الشُّعب والمراكز العامة وبيوت الإخوان والمساجد والزوايا والجامعات وحتى في مجالس العزاء، كما يعتمد على الاجتماعات السرية التي لم يكن يُسمح بحضورها إلا للمنتمين إلى الجماعة، ولا يحبّذ فيها وجود غرباء. وكان النظام التشكيلي للجماعة يقوم على نظام الكتائب وهي مجموعات مختارة من الشباب تلتزم بتعاليم القيادات وتبرمج للقيام بأعمال العنف، وعلى نظام الجوالة من خلال حشد طوابير من الشباب المتحمّس والمعبّأ والموجّه والمنظّم من أجل القيام باستعراضات ضخمة في الشوارع، ويذكر الكاتب أنّ أعداد المشاركين فيها كانت تصل إلى العشرة آلاف جوال، وكان الغرض من تلك الاستعراضات إظهار قوة الجماعة ووزنها المتنامي في المجتمع المصري، ويعتمد التنظيم أيضا على نظام الأسر، وهي عبارة عن خلايا من الأفراد تمارس الدّعاية والتحشيد والاستقطاب والتأطير في صفوف الطلاب الجامعيين. ولم يكن ذلك في معزل عن محاولات التغلغل في أوساط أجهزة الدولة والسيطرة عليها من الداخل وتوجيهها وفق خطط مجموعات النّظام الخاص، التي تتكوّن من عناصر منتقاة  تتلقى دروسا في بيوت أعضاء الجماعة حول مختلف أنواع الأسلحة ولا سيما المسدسات والقنابل اليدوية والمتفجّرات والعبوات النّاسفة، وكانت تلك المجموعات تتدرب في معسكرات في جبال مثل جبل المقطم المطل على القاهرة، وتقوم بعمليات نوعية تستهدف منشآت الدولة، وتنفذ اغتيالات سياسية تستهدف كبار المسؤولين والسياسيين... ومع أن النّظام الخاص وهو تنظيم الإخوان العسكري السرّي كان هو التشكيل الذي يقوم بالعمل المسلّح، فقد كان هناك جهاز آخر وهو قسم الوحدات والذي كانت مهمته نشر الدّعوة الإخوانية بين عساكر وضباط البوليس وعساكر وضباط الجيش، ويشير الكاتب إلى أن ضباط الجيش من الإخوان كانوا يمثلون شعبة من النظام الخاص.

ولعل ما يذكره الكتاب حول النظام الخاص للجماعة لا يختلف في مادته عمّا يمكن أن يلاحظ اجتماعياً من أساليب التحرك التنظيمي المباشر للجماعة وتغلغلها في صفوف أجهزة الدولة وشرائح متعدّدة من مكوّنات المجتمع المصري، بناء على أشكال من العنف السّياسي والاجتماعي القائم على تجميع مصادر القوة والسّلطة وبناء النّفوذ السّياسي على نطاق واسع يشمل المجتمع بأسره؛ حيث تصبح عملية امتلاكهم للسلطة السّياسية بمفعول الزمن مجرد تقرير لأمر واقع لا بد منه وخطوة منطقية تعكس بناء اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً محدّداً، تعمل الجماعة على الاستثمار فيه وبناء معالمه وتوفير شروطه العملية المباشرة. لذلك فإن الكتاب يذكر كيف واجه حسن البنا في إحدى خطبه سؤالا يقول ''إنكم تنادون بقيام الدّولة الإسلامية وعودة الخلافة الضّائعة، فمن يكون الخليفة المرشّح وفق برامج الإخوان ومناهجهم؟'' بالقول: ''يا أخي نحن مطالبون بأداء رسالة وحمل أمانة ولا نبحث عمن يتصدّر ويترأس ولكننا دعوة وحين يحين الحين لتصبح الدعوة دولة سوف يصنع الله لها قائدها الذي يتزعمها...''.
يتعامل الكتاب حينئذ مع خطاب حسن البنا تعاملاً مرجعياً باعتباره مصدراً للمعرفة الدينية والإلهام الرّوحي ومن ثم فهو يتقبّله تقبلاً عقائدياً يصل إلى درجة الإيمان القلبي، وعلى هذا الأساس يتعامل المنتمون إلى جماعة الإخوان عموماً مع قياداتهم، فينزلونهم منزلة صدق لا يخالطها الشك ولا يطالها النّقد، وعلى هذا الأساس أيضاً يؤمن حسن البنا نفسه بابن حنبل وابن تيمية وابن القيم وغيرهم، إلى درجة تتغلّب عادة على إيمانه بالقرآن، الذي ينادي بضرورة اعتباره مصدر التّشريع المطلق في المجتمع،  ويرفض في المقابل المصادر التشريعية الوضعية الحديثة ويقف في فهم النّصوص الدينية وتفاسيرها عند الحواف الظاهرة لها، ولا يتجاوز ذلك إلى المضمون والجوهر؛ أي أنه يُغفل كل ما يمكن أن يثير التساؤل من قضايا خلافية يمكن أن تشوّش ذهنية المتلقي وتلهيه عن السير في ركاب الجماعة.
نخلص في ختام هذه القراءة إلى حقيقة أنّ جماعة الإخوان المسلمين كانت منذ بداياتها حركة سياسية عنيفة سعت إلى الاستحواذ على المجتمع وعلى الدّولة، واستخدمت في سبيل تحقيق ذلك أساليب عديدة تبدأ بالدعوة والاستقطاب وتنتهي إلى العنف والإقصاء والتطرّف الدّيني، ولكنّها وسمت نفسها بطابع ديني إسلامي لأسباب عديدة لعلّ أهمّها أنّ الثقافة الدّينية هي الأقرب إلى تمكينها من تجسيد مطامح الهيمنة والتسلّط، ففي متون المأثور الإسلامي توجد مساحات كبيرة تخوّل لها الانتقاء والتّلاعب وصولاً إلى إقناع النّاس واستمالتهم ومن ثم تحشيدهم وتعبئتهم لخدمة أغراضها، ولأن البعد الديني يشكل في وجدان الفرد المصري ركيزة أساسية، فقد لجأت الجماعة إلى التدثّر بردائه وإخضاعه لمنطق التوظيف والمغالطة والتلاعب.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية