المخرجة اللبنانية نادين لبكي على قدر مشهود له من الجرأة لسببين: في فيلمها الجديد "كفر ناحوم" استطاعت أن تتخلى عن الإبهار البصري وبذخه الجمالي بعكس فيلميها السابقين "كراميل" و"هلأ لوين"، بالإضافة لكونها سبرت غور الأحياء الشعبية والعشوائية باقتدار وهذه المرة مع أناس حقيقيين وليسوا ممثلين.
اقرأ أيضاً: "عمارة الفقراء".. ماذا تعرف عن مشروع حسن فتحي المعماري؟
استغناء لبكي عن الإبهار البصري جعل الفيلم، بفكرته وأداء الشخصيات فيه، هو الرافعة الوحيدة، وفي هذا تحد قائم بذاته، لا سيما حين يكون العمل مرئياً.
في "كفر ناحوم" استطاعت نادين لبكي أن تتخلى عن الإبهار البصري وبذخه الجمالي بعكس فيلميها السابقين "كراميل" و"هلأ لوين"
على الرغم من جرأة لبكي، فقد وقعت في مطبات عدة في فيلمها الذي ترشح لجائزة الأوسكار، من بينها: الفكرة التي قام عليها بل الرسالة الواضحة التي قيلت فيه هي: توقفوا يا فقراء عن الإنجاب، وهذه بحد ذاتها جملة جدلية؛ إذ بوسعك أن تحثهم على التنظيم، لكن أن تدعوهم بألا يتكاثروا فهذا مفهوم مناف للإنسانية وغير مبرر؛ إذ هو موجّه لمن لديه "دزينة" أطفال في الفيلم، ولمن لديها طفل واحد.
الأمر الآخر يتعلق بجدلية توظيف العرق الأسود في الفيلم. كان بوسع لبكي اختيار خادمة من أي عرقية أخرى، لكن الاستخدام كان ذا مغزى وقد ظهر هذا في توظيف وجود الطفل من هذا العرق. وهذا استخدام فيه لي لعنق النص؛ لاسترعاء مزيد من انتباه المتلقي الغربي تحديداً.
الأمر الثالث، كان في جعل الفيلم ساحة لتفريغ الخطاب العنصري، بذريعة تعريته ومن يطلقونه، لكنها هنا وقعت في المحاذير ذاتها التي يقع فيها الإعلام عند نقله خطاب الكراهية مثلاً؛ إذ يغدو منبراً للنقل والترويج، أكثر من كونه يمارس دور التوعية.
اقرأ أيضاً: فيلم "أولاد الفقراء".. عندما بشّر يوسف وهبي بثورة البسطاء
أمر آخر تمثّل في استخدام كم مدهش من الشتائم البذيئة، بذريعة النقل الواقعي، لكن هذا الإفراط أخرج الفيلم عن مساره، لا سيما حين ترافق هذا العنف اللفظي الفج بكثير من مشاهد العنف الجسدي، وهذا بحد ذاته يعيد جدلية التطبيع مع مشاهد العنف وجعلها اعتيادية لدى المتلقي، عوضاً عن قوننتها بغرض التوعية.
مثلبة أخرى ظهرت في فيلم لبكي، وهي الإسهاب في الشرح عن كيفية طحن الحبوب المخدرة وتذويبها بالماء والمضيّ بها في الأزقة الشعبية؛ لأجل توزيعها على الشباب المتسكعين، وهذا بحد ذاته يعيد المحاذير التي يمارسها الإعلام في مرات وأهمها الشرح بالتفصيل عن كيفية ارتكاب جريمة ما أو مخالفة أخلاقية أو عمل إرهابي. ولطالما أهاب الخبراء بالقائمين على شؤون الإعلام والتواصل والخطاب برمّتها، بما فيها السينما، ألا ينزلقوا لهذه التفاصيل الخطيرة.
الفيلم عمل على تنميط اللاجئ السوري ووضعه في الخانة التي حشره بها الرأي العام اللبناني بذريعة نقل الواقع
المثلبة الأخرى قد تكون في تنميط اللاجئ السوري في لبنان ووضعه في الخانة التي حشره بها الرأي العام اللبناني، وإن كانت الذريعة هي نقل الواقع والمساعدة على تقويم الخلل، فلماذا لم يظهر الأنموذج الآخر: السوري المستنير الناجح الواعي؟
على الرغم من ذلك، يحسب للبكي عملها المضني ضمن قيود ميزانية محدودة، كما أنّها واحدة من الأسماء العربية البارزة سينمائياً والتي تمكنت من إيجاد موطئ قدم للسينمائيين العرب في الغرب، بأفكار مميزة تنسحب على الإنسانية برمتها.
اقرأ أيضاً: كيف حرم "احتكار البث" الفقراء من مشاهدة الساحرة المستديرة؟
بعد ثيمة النسوية، وثيمة التمييز الديني، وهما الثيمتان الرئيستان في أفلام لبكي السابقة، يأتي "كفر ناحوم" بثيمة متفردة جديدة، هي التعامل السلبي مع اللاجئ والوافد، وعدم وعي الطبقة الفقيرة بضوابط الإنجاب، لكن أمام هذه الفكرة المهمة تقف أخطاء الخطاب الذي استخدمته لبكي في بعض مقاطع فيلمها، فخرجت به نحو جملة من المخالفات الأخلاقية التي شابت الخطاب المتوقع من السينما والإعلام تصديره في قضايا حساسة كتلك المرتبطة بالطبقة الفقيرة ومجتمع اللاجئين والوافدين.
مزيد من الحذر لدى لبكي في مرات قادمة لن يضر؛ إذ هي مخرجة متميزة ذات باع طويل، لكنه سينفع في حال أرادت لبكي تخليد اسمها من خلال أفلام تخدم الإنسانية وترتقي بها وتسهم في حل قضاياها العالقة.