تنظر الشريعة التي نزل بها الإسلام إلى الناس بمنظار العدل، وأن حدود الله ومحارمه يعاقب من ينتهكها كائناً من كان، مصداقاً لقوله، صلى الله عليه وسلم، "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد".
قيادات "معصومة"
لكن بعض الجماعات التي تدّعي الصلة بوحي السماء وترفع شعارات نصرة الدين والأخلاق والشريعة، تريد أن تطبق على غيرها القوانين دون قيادتها "المعصومة"، والأبرز في هذا المجال جماعة الإخوان المسلمين التي تسامحت قياداتها مع كل خطأ أو جريمة، ما دامت تقترفها قيادات الصف الأول، التي بدت محصَّنة ضد العقاب أو المساءلة حتى لو ارتكبت أفظع الأوزار والخطايا.
لم تقف جرائم الجماعة عند الأخطاء السياسية، أو خلط الدين بالسياسة أو الاختباء خلف الشريعة للوصول للحكم، وخداع البسطاء بشعارات تحكيم الشريعة والتمكين لقيم الدين، أو تقسيم المجتمعات وإطلاق الفوضى في ربوعها؛ بل تورّطت بعض قياداتها في جرائم مرّت دون حساب، وظلّ سيف الجماعة لا يطال سوى من ينتقد أخطاءها أو جرائمها، أو من يطرح أية صيغة للتصويب أو الاستدراك.
جماعة الإخوان المسلمين تسامحت مع كل خطأ أو جريمة ما دامت تقترفها قيادات الصف الأول
صندوق الجماعة المغلق لم يكشف بعد كل تجاوزات قيادات التنظيم الذي يعتبر القيادة هي الجماعة، وأنّ أية مؤاخذة لشخص القيادة هي مؤاخذة وتخطئة للجماعة المعصومة التي لا تخطئ؛ بل ذهب البعض منهم إلى أنّ الجماعة إنْ أخطأت تُنصَر بأخطائها، تماماً كما نُصرت الأمة بعد غزوة أحد في مسلسل لا ينتهي من الإسقاطات الباطلة على تاريخ الإسلام الذي يعتقد الإخوان أنّهم ورثته الحصريون.
مغامرات صهر البنّا
فى العام 1945 يوم كانت جماعة الإخوان هي الأكبر ضمن الأحزاب السياسية والجماعات الدينية، بدأ بعض أعضاء الجماعة ممّن ينتمون إلى شعبة عابدين يتداولون حكايات هامسة عن مغامرات نسائية لوكيل الجماعة عبدالحكيم عابدين صهر المرشد العام حسن البنّا؛ حيث اتّهم بانتهاك شرف أسرة إخوانية وممارسات غير أخلاقية تحت ستار التزاور بين الأسر الإخوانية، فبادر البنّا إلى تشكيل لجنة للتحقيق في الأمر، ولخّص تقرير رفعته للمرشد العام نشر لاحقاً في جريدة "صوت الأمة" لسان حزب الوفد؛ حيث انتهت اللجنة المشكلة من أربعة ممّن كلفهم البنّا بالتحقيق في الأمر، أنّها لم تستطع تحديد المسؤولية بشكل قاطع (من المعروف في مثل تلك الاتهامات أنّ الأمر يحتاج شرعاً إلى شهود أربعة وتفاصيل يصعب إثباتها حتى أمام القضاء)، لكنها رأت أنّه انسجاماً مع ما توفر لها من معلومات فقد اطمأنت إلى أنّ عابدين مذنب، خصوصاً أنّه اعترف لبعض أعضاء اللجنة، لكن اللجنة لم تفصل تلك الاعترافات، ورأت فصل عابدين من الجماعة، وقد وقع على التوصية قيادات بوزن أحمد السكري، وكيل الجماعة، ود.إبراهيم حسن، الوكيل الثاني، وأفضى التصويت إلى فصل عابدين بموافقة 8 مقابل رفض واحد هو حسن البنّا.
تورطت بعض قيادات الجماعة بجرائم مرّت دون حساب وظلّ سيفها لا يطال سوى من ينتقد أخطاءها أو جرائمها
المفاجأة الصادمة أنّ الأمر انتهى بفصل عضو اللجنة أحمد السكري واستقالة إبراهيم حسن احتجاجاً على هذا التمييز والعدوان على القيم والأخلاق.
الواقعة أكدها محمود عبدالحليم فى كتابه "الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ" وهو من الكتب التي أرّخت للجماعة، وإن حاول حصر المسألة في مساحة الشبهات التي ردّدها البعض عن عبدالحكيم عابدين حسداً من بعض الأسر على عابدين لمصاهرته البنّا، وبالطبع لم يذكر عبدالحليم شيئاً عن اللجنة وما آلت إليه الأمور بعد ذلك.
أما صلاح شادي أحد كبار الإخوان فقد سجل فقرة في كتابه "صفحات من التاريخ" تشير بوضوح إلى تلك الواقعة؛ إذ يقول "شهدت أحداثاً اتهم فيها بغير دليل قاطع أحد أقطاب الجماعة بتهمة تمسّ الخلق والسلوك، وأسفر التحقيق عن براءته من تلك التهمة وإن لم تعفه من اللوم (كان البنّا قد اكتفى بتوجيه لوم خجول لصهره دون أن يعاقبه بشيء)، لكنني عجزت عن المواءمة بين إكباري لأحد أقطاب الإخوان وبين اللمم الذي نُسب إليه، واستوحشت نفسي من الإمام الشهيد حسن البنّا"!
سرقات دون حساب
وإذا كان البعض لم يحاسب على سرقة الأعراض، فلن يحاسب آخرون على نهب الأموال، المتمثلة باشتراكات الأعضاء وقد كانوا من ملايين حول العالم يظنون أنّها توجَّه لنصرة الدين؛ فلم يكن مشهد سطو بعض قيادات الإخوان فى الخارج على أموال بعض فضائيات التحريض التي انطلقت في أعقاب ثورة 30 يونيو 2013 في مصر، سوى مشهد متكرر لسرقة قيادات لأموال الجماعة دون أن يحاسبهم أحد، فالأمر يجري تسويته دائماً في غرفة مغلقة تضمّ عدداً لا يتجاوز أصابع اليد يسمّون الأمانة العامة برئاسة المرشد ونائبيه وعضوين من الموثوق في ولائهم، لذلك لم يكن غريباً أن تمرر جريمة أحد هؤلاء الأعضاء الخمسة.
انتهت فضيحة صهر البنّا بفصل عضو حقق في القضية واستقالة آخر احتجاجاً على التمييز والعدوان على القيم والأخلاق
نائب المرشد العام جمعة أمين عبدالعزيز الذي توفي في لندن في أعقاب هروبه من مصر قبل ثورة 30 يونيو وكان يُسمّى حارس الأصول في إشارة إلى أفكار البنّا الرئيسة، رفضت الجماعة التحقيق فى اتهامات بالجملة وجهت له بالاستيلاء على أموال الإخوان المسلمين بالاسكندرية، وقد لاحقته تلك الاتهامات قبل اندلاع ثورة 30 يونيو مباشرة، ورفض المكتب الإداري للجماعة بالإسكندرية الذي كان يرأسه مدحت الحداد شقيق عصام الحداد مستشار مرسي للشؤون الخارجية التحقيق في الأمر.
وتقدم عدد من القيادات بمذكرات تتهمه بالاستيلاء على أموال الجماعة من مدارس وشقق وشاليهات عبر ما قيل إنّه عمليات نصب وانتهاكات خطيرة.
في سبيل سمعة الجماعة
صدرت تعليمات شفهية لقيادات الجماعة بإسدال ستار من السرية حول الأمر، حتى لا يعرف الرأي العام بالموضوع رغم أنّ الكثير من أموال الجماعة يتمتع بها ورثة بعض القيادات، خصوصاً أنّ تدبير الجماعة اتجه إلى تأمين أموال الجماعة عبر وضعها فى عهدة بعض القيادات كما لو كانت أموالاً خاصة بهم.
رفضت الجماعة التحقيق في اتهامات بالجملة وُجّهت لنائب المرشد بالاستيلاء على أموال الإخوان المسلمين بالإسكندرية
وفي محاولة يائسة لوقف سرقة أموال الجماعة عبر بعض قياداتها، دارت مفاوضات وصفتها مصادر إخوانية بأنّها كانت شاقة للحصول على نصيب الجماعة من ثروته، التي كان يتصرف فيها باعتبارها ملكية خاصة؛ حيث اكتشفوا اختلاس نصف مليون جنيه من أرباح مدرسة المدينة المنورة الخاصة بمنطقة السيوف بالإسكندرية، التي أنشئت في العام 1987 بمشاركة القيادي خالد داود الذي استقال لاحقاً، ومحمود شكري رئيس المكتب الإداري بالإسكندرية سابقاً.
رفض جمعة أمين تسليم أوراق تثبت أحقية الجماعة في المدرسة التي تبلغ قيمتها 50 مليون جنيه؛ حيث اكتشفت الجماعة أنّ بحوزته فضلاً عن المدرسة دار نشر وشقة فاخرة، رغم أنّه يتقاضى مرتباً شهرياً يتجاوز 35 ألف جنيه، إلا أنّه رفض الاعتراف بحقوق الجماعة، واشترط أن يكتب جزءاً من المدارس كوقف خيري مدى الحياة يدفع منه مرتبات شهرية لأبنائه من بعده، وهو الشرط الذي رفضته لجنة سرية كالعادة تفاوضت معه، وانتهى الأمر بقرار من محمد بديع المرشد العام بإغلاق الموضوع بدعوى حماية سمعة الجماعة وهيبتها بين أعضائها.
تاريخ الجماعة حافل بمثل تلك المشاهد، لكن ستار السرية الكثيف الذي تفرضه كان كافياً لحجب الكثير من الحقائق عن بسطاء الناس المخدوعين فنجحت قياداتهم في أن يتخفّوا طويلاً خلف مظهر التقوى الزائف بعد أن أدمنوا الكذب حتى على أنفسهم.