وليد شقير
كل يوم يمر تتضح لدى معظم الأوساط السياسية في لبنان صعوبة إنجاز الاستحقاق الرئاسي في موعده، على الرغم من استنفار القوى الذي سيتصاعد عند بدء مهلة الستين يوماً التي حددها الدستور من أجل انتخاب الرئيس الجديد في الأول من سبتمبر (أيلول) المقبل، تحت عنوان ضرورة تجنب الآفة التي اعتاد اللبنانيون عليها في العقدين الماضيين وهي الفراغ الرئاسي.
ففي كل مرة حصل هذا الفراغ نتج من تأزم سياسي ترتفع ذروته في كل مرة ليكون ضاغطاً على ملئه بحيث تسلم قوى تكون معارضة لترجيح شخص معين بالقبول به بحجة الانتهاء من تعطل مؤسسات الدولة وأثرها على الاقتصاد. إلا أن للفراغ هذه المرة نتائج كارثية تضاعف الأزمة الاقتصادية التي انفجرت في عام 2019، من دون أن يتفق أركان الطبقة السياسية على سبل معالجتها تحت وطأة الأزمة السياسية التي تعصف بالبلد والتي كانت سبباً لتراجع مداخيل الدولة وإفلاسها، وانسياق لبنان في صراع المحاور الخارجية مع سيطرة قوة مسلحة هي من الأدوات الإقليمية لإيران على قراره السياسي عبر تحالفها الوثيق مع الرئيس المنقضية ولايته ميشال عون.
دول تعتبر الرئاسة خاضعة
نجح "حزب الله" طوال السنوات الست الماضية من ولاية عون في ضمان التغطية الشرعية لمقتضيات تدخله بالاشتراك مع إيران في حروب وصراعات إقليمية، ما دفع دولاً في الإقليم وفي العالم معنية بلبنان وبمساعدته، إلى اعتبار السلطة في لبنان تابعة بالكامل له، مع تباين مقارباتها بين دول ترى ضرورة التغيير في السلطة السياسية تحت عنوان الإصلاح لتقليص نفوذ الحزب وصولاً إلى نزع سلاحه، ودول ترى أن الإصلاح الاقتصادي والمالي لا بد منه لكن بالتعايش مع نفوذ الحزب والحوار معه.
وإذا كانت محطة الانتخابات النيابية التي جرت في مايو (أيار) الماضي أفقدت "حزب الله" الأكثرية التي كان يتمتع بها في البرلمان، فإن الأكثرية المقابلة بقيت غير متجانسة ومشتتة حتى تتمكن من حسم اختيار الرئيس الجديد، فيما بقي الحزب يتمتع بعدد من الحلفاء والنواب في البرلمان يمكنه من استخدام الثلث المعطل للحؤول دون اجتماع البرلمان، لأن الدستور يفرض نصاب الثلثين ليجتمع من أجل انتخاب الرئيس.
"حزب الله" اعتاد على التأثير في الرئاسة
المعضلة الأولى في انتخاب الرئس الجديد أن "حزب الله" اعتاد في السنوات الماضية على امتياز التأثير في الرئاسة اللبنانية لا سيما في السياسة الخارجية، بالتالي على انحياز الرئاسة إلى سياسته بالكامل على الرغم من التباينات مع حلفائه في العناوين المتعلقة بالسياسة الداخلية، التي كان يهمه منها إحكام نفوذه في المؤسسات لدوافع إقليمية، في ظل اندفاعة عربية ودولية نحو تقليص نفوذ إيران وأدواتها في دول المنطقة، لا سيما اليمن والعراق وسوريا ولبنان.
لكن الظروف الإقليمية والدولية الراهنة أشد حراجة بالنسبة إلى الحزب على مشارف تغيير في الرئاسة اللبنانية، بعد الانقسام الدولي الذي رتبته الحرب الروسية على أوكرانيا، وفي ظل صعوبات التفاوض على النووي الإيراني، والوساطة الأميركية حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، واستمرار الغارات الإسرائيلية على ميليشيات إيران في سوريا والاتهامات للحزب في التدخل في غير دولة عربية ومحاولته إنشاء منظومات أمنية لصالح طهران... وفي وقت يحتاج لبنان إلى الخروج من أزمته الاقتصادية المالية الخانقة إلى مساعدات الدول الغربية والعربية.
"القلق" والتدقيق في خيارات الرئيس
في هذا الخضم، ليس اختيار الرئيس اللبناني الجديد بمسألة تفصيلية للحزب، بدليل قول رئيس كتلته النيابية النائب محمد رعد في 27 أغسطس (آب)، إن "رئيس الجمهورية اللبنانية هو الذي يوقع الاتفاقات والمعني بالتفاوض مع الآخرين، فإما أن يكون لدينا رئيس قوي يلتزم السيادة الوطنية ويدافع عنها ويضحي من أجلها وإما أن يكون لدينا رئيس مبرمج من أجل أن يوقع اتفاقات مع الذين يريدون أن ينتقصوا من سيادتنا وهذا هو أفق المعركة الرئاسية ونأخذها من هذا البعد".
ورأى رعد أنه "قبل أن نفكر في تسمية الأشخاص يجب أن نفكر في الغاية التي نريد أن نحميها من خلال اختيارنا للرئيس وهذا تحد، لأن الخيارات "بدك تفلِّيها" (التدقيق بأصغر التفاصيل)، حتى نعيش من دون قلق وخوف على المصير ومن دون إحساس بأنك غُبِنتَ في مرحلة من المراحل".
إذاً، يبدو "حزب الله" قلقاً من التخلي عن نفوذه على الرئاسة الأولى، في حال وقع الخيار على رئيس غير منسجم مع خياراته. ولا يعني كلام النائب رعد، الأكثر وضوحاً في تعبير قيادة الحزب حتى الآن عن نظرتها إلى الرئاسة اللبنانية، إلا أنه (وحلفاءه) سيأخذ وقته في التدقيق بالمرشحين. وبحسب الأوساط السياسية المراقبة، يعني هذا انتظار النتيجة التي سترسو عليها مفاوضات فيينا التي قد تمتد إلى ما بعد المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس.
التسويات الإقليمية تسهل ترجيح فرنجية؟
انتهاء المفاوضات على النووي إلى اتفاق يعني بحسب أوساط المحور الإيراني، إراحة طهران على الصعيد الإقليمي، يؤدي إلى الإفراج عن الأموال المحتجزة لإيران التي تقدر بحوالى مئة مليار دولار، ويعني أيضاً حصول ترتيبات إقليمية تخفض من التوترات بين الدول المعنية. وهذا لا يستبعد حصول تفاهمات على ترجيح كفة مرشح الحزب في لبنان النائب السابق سليمان فرنجية، الذي وإن لم يعلن أنه مرشحه حتى الآن، تشير المعطيات وسلوك فرنجية نفسه إلى أنه يتمتع بتأييده وكذلك بتأييد رئيس البرلمان نبيه بري. وفي رأي هؤلاء أن غلبة التهدئة في المنطقة تؤدي إلى اقتناع قوى سياسية لبنانية معارضة لنفوذ الحزب وكتلها النيابية بالتصويت لفرنجية في هذه الحال انسجاماً مع التسويات الممكنة في المنطقة.
أما إذا تأجل اتفاق فيينا فإن التأزم السياسي في لبنان يصبح جزءاً من المعادلة الإقليمية التي يمكن أن تشهد منحى تصعيدياً، الحرب أحد احتمالاته، مهما كانت آثاره سلبية على لبنان. وفي هذه الحال، قد يذهب الحزب نحو إطالة الفراغ الرئاسي إلى أن يصبح ضاغطاً على القوى السياسية نتيجة تفاقم الأزمة الاقتصادية بحيث تقبل بخياره للرئاسة، كما حصل بالنسبة إلى خيار ميشال عون في عام 2016، بعد شغور في الرئاسة دام سنتين وخمسة أشهر ونيف. وترجح الأوساط السياسية أن يبقى مرشح الحزب في هذه الحال، سليمان فرنجية، الملتزم المقاومة ودعم سياسة الحزب، على الرغم من اتباعه خطاباً تسووياً وإعلانه أنه سيسعى إلى المصالحة الوطنية وإلى تحسين علاقات لبنان مع الدول العربية والخليجية.
تقاطع "التيار" و"القوات" ومسؤولية التعطيل
إلا أن أمام ملء الفراغ الرئاسي بخيار فرنجية، معضلة أخرى في سياق التنافس على الزعامة بين القيادات المسيحية، فلا رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع يوافق على التصويت لفرنجية لأنه استبعد منذ زمن تأييد أي مرشح من قوى 8 آذار الحليفة للحزب، ويصر على ترجيح مرشح مستقل عن التركيبة السياسية التي حكمت لبنان خلال السنوات السابقة، ولا حليف الحزب، رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل الذي يشترط رئيساً له قاعدة شعبية مسيحية واسعة، أو أن يستند إلى كتلة نيابية وازنة، قابل للتصويت لفرنجية. وإذا كانت خصومة جعجع وفرنجية قديمة، فإن خصومة باسيل مع الأخير على الرغم من أن كليهما حليف لـ"حزب الله"، وينتميان إلى محور الممانعة، تعمقت خلال عهد عون نتيجة استئثار "التيار الحر" بالمغانم وميله إلى تقليص حصة فرنجية في الحكومات وتحجيمه، تحت عنوان أنه يملك الكتلة النيابية الأكبر، متسلحاً بتوقيع عون على أي قرار.
ويرى مصدر سياسي بارز أن الدعوة المفترضة لجلسة نيابية لانتخاب الرئيس في ظل هذا الخلاف قد يؤدي بالكتلتين النيابيتين إلى مقاطعتها، ما يعني أن أكثر من نصف النواب المسيحيين يعارضون خيار فرنجية، أما النواب المسيحيون الآخرون (27 ) فمعظمهم ليس متحمساً لهذا الخيار، ما يعني أن فوزه بالرئاسة سيعتمد على أكثرية أصوات من النواب المسلمين بافتراض أن "حزب الله" اتفق مع النواب الدروز وبعض النواب السنة، إضافة إلى نواب "الثنائي الشيعي" وعدد من النواب المسيحيين، وهو أمر لا يبدو متوافراً حتى الآن، مقاطعة الكتلتين النيابيتين المسيحيتين الأكبر لأي جلسة لانتخاب فرنجية ضمن المهلة الدستورية هي مخرج للحزب، جراء تقاطع موقفي جعجع وباسيل في رفض انتخابه، يبعد عنه تهمة التسبب بتعطيل المجلس النيابي. وهو أمر يرفع عنه مسؤولية التعطيل، ما يعينه على إطالة الفراغ في انتظار انقشاع التطورات الخارجية.
هل يمون "حزب الله" على باسيل؟
في اعتقاد أوساط سياسية مواكبة عن كثب للمناورات المحيطة بالاستحقاق الرئاسي، أنه عندما يحين وقت إنهاء الفراغ، يراهن محيط "حزب الله" على ممارسة ضغوطه على باسيل كي ينحاز إلى خيار فرنجية، في حال عدم التوصل إلى تسوية مع الخصوم نتيجة الظروف الإقليمية، مع ذلك، تطرح هذه الأوساط السؤال عما إذا كان "حزب الله" قادراً على أن يمون على باسيل كي يماشيه في التصويت لمصلحة فرنجية؟ فمع أن الحزب يسعى إلى تقطيع مرحلة الفراغ المحتملة المقبلة بقيام حكومة جديدة كاملة الصلاحية، تفادياً للجدل الذي أطلقه عون وباسيل حول عدم قانونية أو شرعية تولي حكومة تصريف الأعمال برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي لتولي صلاحيات الرئاسة عند شغورها، فإنه لم يستطع تغيير مطالب باسيل التي تعقّد تأليف الحكومة وفق الأسس التي اقترحها ميقاتي على الرئيس عون، إذ إن رئيس "التيار الحر" يريد الثلث المعطل فيها بأي ثمن، سواء كانت من 30، أو من 24 وزيراً، ويشترط قرارات رفض الرئيس المكلف الاستجابة لها، ويطمح إلى مواقع مفصلية في الإدارة خلال العهد الرئاسي المقبل، تحصن نفوذه بعد انتهاء ولاية عون.
فالفريق الرئاسي يريد تجنب تهميشه مع انتخاب رئيس جديد، وهمه أن يضمن شراكته في تركيبة الولاية الرئاسية، ويمارس شتى أنواع الضغوط سواء في تأليف الحكومة أو في التمهيدات لانتخاب الرئيس لمقايضتها بضمان موقعه المستقبلي، بحجة ضمان الشراكة والميثاقية في توزيع الحصص الوزارية. و"حزب الله" في وضعية حرجة لأنه ليس مع طموحات الحليف العوني، خصوصاً أن قيادته أبلغت رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط في اللقاء الحواري معه في 11 أغسطس، أنه ليس مع دعم ترشيح باسيل للرئاسة، ما يفقد الأخير حتى القدرة على المقايضة على ترشيحه للحصول على أثمان وضمانات، لكن الحزب يحرص في الوقت نفسه على أن يحافظ عليه نظراً إلى حاجته إليه في المرحلة المقبلة، إذا ترتب على الظرف الإقليمي تصعيد في صراع إيران مع الدول الغربية وإسرئيل.
تأليف الحكومة بين ميقاتي وعون وباسيل
الرئيس ميقاتي، بحسب قول من التقوه من السياسيين قبل أيام لـ"اندبندت عربية"، لا يرى أفقاً لتأليف الحكومة في ظل شروط رئيس "التيار الحر" عليه، الذي تلقى نصيحة من رئيس البرلمان نبيه بري بعدم القبول بها. فالأخير ضد التساهل مع أي مكاسب لصالح الفريق الرئاسي. كما أن المرجعية السياسية الدينية السنية الممثلة بـ"المجلس الشرعي الإسلامي" برئاسة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان أصدرت موقفاً في 27 أغسطس أشار إلى "ظاهرة شاذة تتمثل في الالتفاف حول قضية انتخاب رئيس جديد للجمهورية والاهتمام بقضية مصطنعة لتشكيل حكومة جديدة، أو تعديل الحكومة الحالية"، واعتبر المجلس الشرعي أن "لبنان يحتاج بعد سلسلة العثرات والمواقف الارتدادية عن روح الدستور اللبناني واتفاق الطائف وميثاق العيش المشترك، إلى رئيس جديد يحترم قَسَمه الدستوري ويلتزمه، غير أن ما يجري في الوقت الحاضر هو الالتفاف على هذه القيم والمبادئ، بالطعن بشرعية الحكومة الحالية، وبطرح شعارات التمثيل الطائفي والمذهبي".
وأثار هذا الموقف الرئيس عون لتلميحه إلى أنه لا يلتزم قسمه الدستوري، فأصدر بياناً أكد فيه أن مواقفه "من تشكيل الحكومة الجديدة تستند إلى ضرورة حماية الشراكة الوطنية والمحافظة على الميثاقية، وتوفير المناخات الإيجابية التي تسهم في مواجهة الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد". وفي وقت أخذ تبادل المواقف منحى طائفياً مارونياً - سنياً، دافع عون عن موقفه بنفي اتهامه بعرقلة قيام الحكومة، في وقت يصر "حزب الله" على تأليفها لضمان توليها الشغور الرئاسي.
عن "اندبندنت عربية"