هناك على الترعة الإبراهيمية بمدينة ملوي بصعيد مصر، يقع "مسجد التوبة"؛ الذي كان مركزاً من مراكز الجماعات المتطرفة، وهو الذي ألقى فيه عمر عبد الرحمن خطبته الشهيرة في تفسير سورة "نون"، وكفّر فيه الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، داعياً للخروج عليه، فبلدنا التي تبعد عن القاهرة أكثر من 300 كيلومتر، هي من مراكز الجماعات التكفيرية المتطرفة، فمنها خرج قتلة الرئيس المصري الأسبق، محمد أنور السادات، وفيها نشأت الجماعة الإسلامية المسلحة، التي خاضت حرباً مع الشرطة، وفرض فيها حظر التجوال لمدة عامين تقريباً، سقط خلالهما أكثر من 450 قتيلاً، كما ترعرع فيها قادة جماعة التكفير والهجرة، وتنظيم طه السماوي، وهذا ما مكنّني من لقاء عدد منهم.
في هذا المسجد، خلع عمر عبد الرحمن عمامته، وطوّح رأسه يميناً وشمالاً، وقبل أن يلقي خطبته، هتف المصلّون:
"عمر يا عبد الرحمن... يا مزلزل عرش الطغيان... وإن قتلوك يا عمر بن أحمد... فإنّ الله يختار الشهيد."
كان لشوقي فتاوى غريبة منها؛ أنّ المنتمية للجماعة، عليها ترك زوجها المرتد، والزواج من أي عضو في الجماعة
الهتاف زلزل المسجد، واجتهد الرجل في إيصال ما يصبو إليه، لم أدرك شيئاً ممّا قاله، سوى كلمات حفظتها منه، هي: خفافيش الظلام الذين يأتون في الليل، الطواغيت والظلمة، الحاكم المستبد الذي لا يحكم بما أنزل الله.
عقب الخطبة، أحاطوا به في دائرة حتى أركبوه السيارة، وصل إليه أحد زملائي بأعجوبة، وقال له: أنا دخلت كلية التربية الرياضية، واجتزت الاختبارات، لكن من شروط القبول فيها حلق اللحية، فهل تسمح لي بحلق اللحية؟ فردّ قائلاً: "أتريدني أن أفتي بشيء حرّمه الله؟!"
اختفت سيارته بين الزحمة، تجمّد زميل دراستي مكانه، وقال لي: لن أقدم على أية كلية، وكان صادقاً فقد ترك دراسته نهائياً!
طه السماوي، أصغر معتقل في عهد عبد الناصر فترة الستينيات، مع جماعة الإخوان، فعل أدهى من ذلك، فقد كان يحرّم التعليم بالجملة، والوظائف الحكومية، والعمل السياسي، وفي مصلى صغير ببلدنا أيضاً، اسمه (الغر المحجلين) أسّس جماعته، التي كان يطلق عليها (جماعة المسلمين)، وأفتى لجيران لي، أحدهم بكلية الطب اسمه (عمر.م) بحرمة التعليم بالمجتمع الجاهلي، وهو الآن يعمل في ورشة للنجارة، وآخر يعمل بائع عسل، وآخر عمل بسوق الخضار، واستقر المقام به أخيراً في مدينة 6 أكتوبر، يبيع الطماطم في محلّ خاص به!
قال لي عضو من أتباعه (ج. ع. ا): إنّ طه السماوي كلّفه أن يكون أميراً للبذل، فقلت له: وما البذل؟! قال: أي جمع اشتراكات شهرية من الأعضاء تبذل في سبيل الله، كنّا نجمعها ونقدمها للشيخ طه، الشهير بـ "عبد الله" السماوي، وكان الأخير كلّما جلس مع أي أحد طلب بيعته، وحينما يبايعه نسجل اسمه في كتيب صغير، وتأتي الشرطة لتأخذه، وتسجن كلّ هؤلاء بسهولة، ويضيع مستقبل المئات من الشباب.
م.ن: السماوي دعاهم قبل اغتيال السادات إلى أن يهجروا بيوتهم ويذهبوا إلى أرض الصالحية يستصلحوها ويعيشوا فيها
أخبرني آخر (م.ن): بأنّ "السماوي" دعاهم فجأة، قبل اغتيال السادات، إلى أن يهجروا بيوتهم، ويذهبوا إلى أرض الصالحية، يستصلحوها ويعيشوا فيها، من أجل أن يشكلوا مجتمعاً بعد ذلك للمؤمنين، يغير على الدولة الجاهلية، ويقيم دولة الإسلام!
من الذين انضموا فترة من الزمن للسماوي، هو شوقي الشيخ مؤسس جماعة الشوقيين، وهو وفق أحد من أتباعه كان يسير في شوارع القرية بسيارته بسرعة، ويخرج رأسه من نافذتها صارخاً بأعلى صوته "ابتعدوا عن الطريق يا كفار".
معظم سكان مصر، في وجهة نظر شوقي، "كفرة مرتدون"، إلّا أنّه كان لا يؤمن بالعزلة، وكان يرى أنّه لا بدّ من الدعوة، والسيطرة على المساجد، والإمامة فيها.
كان 99% من أتباع شوقي أميين، لا يعرفون القراءة أو الكتابة، وكنت أرى بعضهم وهم يتلقون في المساجد دورات في تعلّم القراءة والكتابة، عدا أميرهم الحاصل على ثالثة كلية الحقوق، الذي تولى القيادة عقب مقتل شوقي الشيخ.
روى أحد أتباعه: إنّ أحد الأهالي اعتادوا فتح دكانه في الصباح للبيع والشراء، وهو في الوقت نفسه، يسمع القرآن من الراديو، تحديداً إذاعة القرآن الكريم، وهذا الدكان كان في مواجهة المسجد الصغير، مقرّ اجتماع شوقي وجماعته. شوقي أزعجه صوت القرآن من الراديو؛ حيث كان يعدّ قارئي القرآن من غير الجماعة "مرتدين"، لذا طلب من أحد أتباعه الذهاب إلى صاحب الدكان، وأمره بغلق الراديو، فقالوا للرجل: يا كافر، أغلق المذياع وإلّا ضربناك، الرجل غضب، وأخرج حديدة ضربهم بها، لكن شوقي لمّا وجد ثلاثة من أتباعه تمّ ضربهم، تصرف بهدوء، وسحب مسدسه، وأطلق طلقة واحدة على المذياع فأسكته إلى الأبد.
التقيتُ أمير الشوقيين، الذي لم يكمل تعليمه بكلية الحقوق، وعرفتُ أنّه يتعامل مع الناس بأدب إلّا أنّه يكفرهم
كان لشوقي فتاوى غريبة منها؛ أنّ المرأة التي تنتمي للجماعة، عليها ترك زوجها المرتد، والزواج مباشرة من أي عضو في الجماعة.
في إحدى المرات، استشير شوقي في حلّ مشكلة عائلية تخص والدة أحد أتباعه من الشباب؛ حيث تقدم لها رجلٌ ليتزوجها، لكنّ أفراد العائلة، ومنهم تابع شوقي، كانوا ضدّ الزواج، وفي المساء اصطحب الفتى، شوقي إلى منزلهم، بعد أن اجتازوا عدة حقول وشوارع ضيقة، وجلسوا وتناولوا طعاماً، بعد ذلك جاءت الأم التي اشتكت ابنها وباقي أفراد أسرتها للشيخ، من منطلق أنّها لا تزال صغيرة، ويحق لها الزواج، فوقعت المرأة في نفسه، فقال بهدوء وثقة: "أنا عندي حلّ يريح الجميع، لقد عزمت وتوكلت على الله أن أتزوّجها، وبذلك نحلّ المشكلة، وأعتقد أنكم لن تعترضوا".
التقيتُ "محمد السيد" أمير الشوقيين، الذي لم يكمل تعليمه بكلية الحقوق، وعرفت أنّه يتعامل مع الناس بأدب، إلّا أنّه يكفرهم، وسألته: بماذا تحكم عليّ، هل أنا مسلم؟ فردّ قائلاً: "أنت محترم".
علمتُ أنّه مصرّ على تكفيري، لكنّه كان أقلّ تطرفاً من "عماد"، وهو عضو في جماعة التكفير والهجرة، فهو يكفر بالمعصية، ولا يعطي اعتباراً إلا للقرآن، الذي يقومون بتفسيره بأنفسهم، وكان يرى أنّ كلّ من حوله طواغيت، ويرفض أن يتناول الطعام من والدته، التي يكفّرها.
وللحديث بقية ...