
مع ثورات الربيع العربي وانفتاح عالم الفضاء المرئي والمسموع أمام جماعات الإسلام السياسي انتشر العديد من القنوات الموجهة للأطفال والتي تمتزج برامجها بمناهج التربية المعتمدة لتلك الجماعات، فبعد أن كانت المناهج التربوية للنشء داخل الجماعات الدينية مقتصرة على من يحضرون من الأسر والتجمعات المغلقة، أصبح من السهل جداً إيصال محتوى أيّ جماعة عن طريق نشيد إسلامي أو فيلم كارتون أو برنامج ديني موجه للأطفال. وتخصصت قنوات أخرى في النشيد الإسلامي الموجه للطفل؛ مع إدراكهم لقوة النشيد في إيصال الرسائل المطلوبة بشكل أفضل وأسرع.
تأثير النشيد الإسلامي في الأطفال
قوة تأثير النشيد الإسلامي في الأطفال دفعت أحمد أبو خليل أحد العائدين من جنة الإخوان إلى أن يجعل النشيد عماد كتابه "يوماً ما كنت إسلاميّاً"، عن رحلة خروجه من الجماعات، إذ تخلل كل فصل في الكتاب الذي سرد طفولته داخل التيار الديني مقطع من نشيد يدلل من خلاله على نقضه ونقده للتجربة التي خاضها معهم، وكان التدليل الأهم حين أنشد في بداية الكتاب قائلاً: "غرباء ولغير الله لا نحني الجباه...غرباء وارتضيناها شعاراً في الحياة... إن تسل عنا فإنا لا نبالي بالطغاة... نحن جند الله دوماً دربنا درب الإباء". والأبيات كانت تعليقاً على لحظاته الأولى داخل الجماعات الدينية وهو في الـ (10) من عمره، هي نفسها الأبيات التي نظمها سيد قطب وأنشدها للمرة الأولى المنشد السعودي سعد الغامدي وهو في الـ (18) من عمره عام 1987، لكنّها لم تلقَ الرواج المطلوب إلا حين استخدمها عضو جماعة الجهاد المصري محمد النجار، بعد أن صدر ضده حكم بالإعدام عام 1993 لاتهامه باغتيال رئيس مجلس الشعب في القاهرة رفعت المحجوب، ليقف خلف القضبان مردداً كلمات سبق أن سطرها سيد قطب المنظر الأشهر للجماعات الجهادية في قوة وثبات يوحيان بشدة تأثير النشيد الإسلامي في نفوس أعضاء تلك الجماعات.
أناشيد بروح الأغنية الوطنية واللحن الحماسي
الأناشيد الموجهة للأطفال من خلال تلك القنوات دشن لها في سبعينيات القرن الماضي شاب كان قد فارق الطفولة منذ شهور؛ فعلى مشارف حي المجاهدين بدمشق وداخل مسجد "المرابطون" أقنع مجموعة من الشباب زميلهم (رضوان خليل عنان) أن يسجل بصوته أناشيد إسلامية تحفز أبناء الصحوة الإسلامية؛ كان ابن الـ (15) في حينها مغرماً بالأغنيات الوطنية التي يصدح بها المطربون العرب في الإذاعات المختلفة، أحب محمد عبد الوهاب والسنباطي، وتأثر بالنغمة القومية التي أغنت الكلمات المغناه في تلك المرحلة، فعمل على تلحين وغناء أناشيد إسلامية حديثة ممزوجة بروح الأغنية الوطنية واللحن الحماسي اختلفت عن شكل النشيد الديني القديم، ليصبح ذلك الشاب الصغير في أدبيات الجماعات الإسلامية رائداً لما اصطلح على تسميته بـ "النشيد الحركي"، أو "النشيد الإسلامي الحديث"، واشتهر على إثر ذلك بين أبناء الصحوة الإسلامية في العالم باسم "أبو مازن".
في الـ (18) من عمره كان أبو مازن قد انتهى من تسجيل (9) أشرطة تضمنت أناشيد حركية كتب أشعارها سيد قطب وأحمد حسن الباقوري وعبد الحكيم عابدين وإبراهيم عزت ومحمد إقبال.
اشتهرت "غرباء" حين استخدمها عضو جماعة الجهاد المصري محمد النجار.
ثم حدث في أوائل الثمانينات من القرن الماضي أن قرر أبو مازن ترك سوريا والاختفاء في مدينة القاهرة على خلفية أحداث مدينة حماة عام 1982، وعلى مدار (20) عاماً ابتعد خلالها أبو مازن عن أنظار الجميع، ليختفي بين زحام القاهرة، حتى ظن محبوه أنّه ربما قتل في أحداث حماه. كانت أناشيده تجد طريقها بين الشباب في الوطن العربي بشكل أكبر من المتخيل، وبدأت ترددها حناجر شباب وشيوخ وأطفال مستنهضين الروح في نفوس أبناء تلك الجماعات، وخرج من عباءة أناشيده الحركية مئات المنشدين في سوريا والأردن ومصر.
ورغم أنّ النشيد الديني معروف ومتواجد تاريخياً منذ عهد النبوة، إلا أنّ رغبة جماعات الإسلام السياسي في أسلمة تفاصيل الحياة على طريقتهم الخاصة دفعتهم لتدشين النشيد الإسلامي الحديث، المعتمد على الإنشاد الحماسي والكلمات الرسالية، والقائم على ألحان أشبه بنسق المارشات العسكرية والأناشيد الوطنية.
أول فتاة تخترق عالم النشيد الإسلامي
اللافت للانتباه أنّه حين عاد أبو مازن مرة أخرى للظهور بعد اختفاء عقدين من الزمان عام 2002 كان هناك صوت آخر يجد سبيله بين الأطفال في المحيط العربي والدولي متلحفاً النشيد الإسلامي سبيلاً للزود عن أبناء الحركة الإسلامية المعاصرة؛ ففي ذلك العام الذي عاد فيه أبو مازن من غيبته كانت الطفلة الأردنية من أصل فلسطيني ميس شلش تتلمس طريقها في عالم الأنشودة الإسلامية وهي فى الـ (11) من عمرها، لتصبح أول فتاة عربية تخترق عالم النشيد الإسلامي الحركي. تشابهت شلش مع أبو مازن في أنّ كلّاً منهما قد اقتحم عالم النشيد الإسلامي في مرحلة الطفولة، وأنّهما لا ينتميان لجماعة أو تيار ديني معيّن، لكن على جانب آخر يشتركان في أنّ الأناشيد التي قدّماها كانت رفيق رحلة أيّ منتمٍ للجماعات الإسلامية. حتى أصبح لا يخلو بيت من ترديدها، دون أن يدركوا من كتب أو من لحن، أو ما الفكرة التي تخللت السطور.
غرباء مرة أخرى
أحمد أبو خليل في نهاية كتابه الذي سرد فيه رحلته داخل الجماعات الدينية قال: "كل ما أعرفه أنني لم أعد قادراً على الإنشاد، لم تعد كلمات الأناشيد في فمي تذوب بالحلاوة ذاتها التي كانت في سالف تلك الأيام". والفقرة في سياق رفضه لشكل الجماعات الدينية التي هي عليه الآن، غير أنّه لم يجد أفضل من الأناشيد ليُعبّر عن ذلك التخبط الذي أصبح يعيش داخله بعد (10) أعوام قضاها طفلاً داخل الجماعات الدينية، وعاد مرة أخرى ليسطر في نهاية الكتاب أبيانات من نشيد غرباء. الأبيات نفسها التي قدم بها كتابه ولحظاته الأولى داخل جماعة الإخوان.
رصد نشأة النشيد الحركي وتتابع تطوره تاريخياً، وصولاً إلى انتشار قنوات الأطفال التي تنشر تلك الأناشيد داخل كل بيت، إلى جانب ذلك الأثر التي تركته في نفوس أعضاء جماعات الإسلام السياسي، يطرح سؤالاً مهمّاً عن الأبواب الخلفية التي تنتهجها الجماعات لنشر أفكارها والوصول إلى أكبر قدر من معتنقي أفكارها، حتى وإن كانت مجرد قناة للأطفال تقدم أناشيد دينية لا تجد الأسر أيّ غضاضة من أن يستمع لها أطفالها، فهي في عُرف الأسر، أوّلاً وأخيراً، مجرد أناشيد إسلامية.