عولمة ابن تيمية

عولمة ابن تيمية


27/11/2019

محمد المحمود

لم يكن الشيخ الحنبلي/ ابن تيميّة معروفا على نطاق واسع في المؤسسات العلمية الكبرى على امتداد العالم الإسلامي قبل منتصف القرن العشرين. بل كان لا يكاد اسمه يذكر؛ عندما يُذْكر خلاف العلماء المُحَقِّقين حول مسألة من المسائل الشرعية، خاصة في مسائل الأحكام.

وبصراحة، لم تكن له سوق رائجة قبل أن تجري دماء خطابه في عروق الحركات الأصوليات المعاصرة التي ازدهرت منذ منتصف القرن العشرين، وأصبح لها طابع عَوْلمي/ أُمَمِيّ، تجاوز حدود العالم الإسلامي المنكوب بها، إلى حيث الأصوليات المهاجرة في العالم الغربي.

قبل ثلاث أو أربع سنوات، كنت أمرّ بظروف صعبة، مادية ومعنوية، تطوّرت إلى ظروف نفسيّة قاهرة، ضاقت عليّ فيها الأرضُ بما رَحُبت؛ كما يُقال؛ في مثل هذه الحال. أتقنت فَنَّ السفر والاغتراب، بل والتشرد أحيانا، كملاذ نفسي، وكنت آنذاك قد اتخذت مدينة طنجة ـ واسطة عِقْد المدن المغربية مكانا للنأي عن النفس أو للنأي بالنفس؛ لا فرق.

ففي السفر الأقصى، في المدى المُتَباعد، تأخذ الأرواح مداها اللاّمتوقع بانفتاحها على المجهول الذي يكسر رتابة الأشياء/ رتابة الأحوال، وبالتالي، يكسر رتابة الآلام؛ كما يكسر رتابة الآمال.

في طنجة، عروس الشمال المغربي؛ كما يلقبها المغاربة، كنت أعيش فيما يُشبه العزلة التامة على مستوى الروح، كما على مستوى الحراك الجسدي. كنت قد اتخذت مَسْكنا متواضعا/ اقتصاديا، بحيث لا تُلاحقي ضغوط الغلاء التي قد تُجْبرني على المغادرة سريعا، والعودة من حيث أتيت، بعد أن "يصبح الثراء مسفوتا" كحال أبي العلاء المعري حينما غادر بغداد. لهذا، كنت أقضي الأشهر المتطاولة على مثل هذه الحال، ولا أغادر طنجة إلا إلى وطني؛ للقاء وَالِديّ ـ حفظهما الله ـ، ولقضاء هذا الأمر أو ذاك من فرائض الأشغال، ضاربا عن نوافلها صفحا. كنت لا أغادر إلا ريثما أرجع سريعا للانفراد بكآبتي التي أجْترّها ـ ليلَ ونهار ـ في مكان هو عنوان الجمال، بل هو عنوان إبداع الجمال.

كنت أقضي كل وقتي تقريبا في شقتي الصغيرة بين القراءة والاستماع للندوات والمحاضرات والأفلام الوثائقية على شبكة الإنترنت، وأحيانا الأخبار والحوارات السياسية على التلفزيون. لا أخرج إلا ساعة في وسط النهار، وساعتين قبل الغروب، أقضيهما مُتَسكّعا؛ مَشْيا على الأقدام، أو منزويا في زاوية من زوايا هذا المقهى أو ذاك.

اعتدتُ أن أخرج من شقتي ـ قربَ محطة القطار ـ في حدود الحادية عشر صباحا، أمشي في طريق محمد الخامس الصاعد نحو منطقة البوليفار وسط المدينة، مرورا بساحة الأمم، أمشي بلا هدى/ بلا هدف، أتجوّل في الأسواق، وأتصفح الوجوه، وأنظر ـ متأملا ـ ناحية المحيط الأطلسي، وبوابة المضيق، والبَرّ الإسباني القريب، أعانق السماء الصافية، وأتنفس صفاء الحياة وصفاء الهواء معا، وأنزل أحيانا إلى المدينة العتيقة لأعود قرونا إلى الوراء، ثم أعود صاعدا لأركب الحافلة/ الباص إلى منزلي؛ بعد أن تكون ساعة التجوال شارفت على الانتهاء.

وفي جولة المساء التي تبدأ في حدود السادسة أو بعدها بقليل، تكون ساعة المقهى وسطا بين صعود هذا الطريق وهبوطه. وربما تأخذني فورة في الهموم الطارئة لإضافة ساعة في التسكّع؛ لأذيب هموم النفس وانفعالات العقل على صفيح الإرهاق الجسدي.

في أحد الأيام، وفي جولتي المسائية، تعبت من المشي في منطقة البوليفار، فتوجهت إلى المَطَل العتيق "سور المعاكيز/ سور المعكازين"، حيث يُشرف المرء منه على المدينة القديمة، ومن ورائها على المضيق، فالبر الإسباني. جلست على طرف السور الحجري، حيث يجلس العشرات، وكنت أنشد في نفسي بيت أبي الطيب المتنبي: بما التعلل...، كنت أحاول أن أشغل بصري بما يخرجني من جحيم عقلي.

أسوار الوحدة تحاصرني، قد يمضي شهر، وربما شهران أو ثلاثة، دون أن أكلم أحدا أو يكلمني أحد في هذه المدينة الرائعة التي لا تنزل الأحزان ساحتها ـ كما يقول النواسي. وحدة بالغة الصمت، بالغة السكون، إلا من تلك التحيات المتبادلة بيني وبين حارس العقار في الدخول والخروج.

كان الجو ساحرا، "دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف"، وحال جلوسي كان السور العتيق لا يكف عن استقبال زائريه وتوديعهم، هذا يجلس وهذا يقوم، وأنا في مكاني. أقبلَ رجل ذو لحية خفيفة، مع بسطة في الجسم، فجلس قريبا مني، ثم أتت امرأة فجلست بيننا، لاحظت رقيّ أخلاقه؛ عندما أفسحَ لها من المكان أكثر مما تحتاج، وكأنه "يتورّع" عن الاقتراب منها كثيرا. بعد ربع ساعة تقريبا، نهضت المرأة، فوجدته يقترب مني. بدا وكأنه يريد أن يحادثني ولكنه متردد. لهذا، بمجرد أن نظرت إليه، بادرني بالسلام. سألني من أين أنا، وعندما أجبته، أخرج هاتفه وفتح الصور، فإذا هو بلباس الإحرام واقفا بجوار الحرم المكي، ومعه أربع نساء، قال: هذه أمي وهذه زوجتي، وتلك ابنتاي، لقد كنا وفي عمرة قبل بضعة أشهر. سألني عن رأيي في المغرب، ومتى جئت...إلخ الحديث، وعرف ـ من تفاصيل الحديث ـ أن لدي معرفة دينية / شرعية أكثر مما توقّع؛ فسرّه ذلك، وبدا له أن بيننا كثيرا من نقاط الالتقاء.

ليس من عادتي الاسترسال مع أحد على هذا النحو، لكنني كنت في حال لو تحدث معي فيها "أبو بكر البغدادي" لجاذبته أطراف الحديث. ومع هذا، وبعد الحديث لأكثر من نصف ساعة، هممت بالقيام، فقال: إلى أين أنت ذاهب؟، قلت: إلى منزلي، قال: أين هو؟، فأجبته. قال: ما رأيك أن نسير معا إلى منزلك؛ لنستكمل حديثنا، قلت: لا بأس. سرنا منحدرين في تجاه ساحة الأمم، وطوال الطريق كان يشرح لي ما يظنه يخفى عليّ من أمر المغرب، ويعلق على ما نراه من الناس والأشياء. وعندما اقتربنا من سكني، ودعني، بعد أن أخذ رقم هاتفي، ووعدني بالاتصال غدا.

اتضح لي من خلال حديثنا أن الشيخ/ عثمان (وسأختار له هذا الاسم المستعار) سلفي أصولي متشدد؛ مع أن مهنته الأصلية لا علاقة لها بالدعوة والوعظ الشرعي. كان في الثالثة والخمسين من عمره، ولكنه كان يبدو ـ بجسده الرياضي الضخم ـ وكأنه في الثالثة والثلاثين، ممتلئا حيوية ونشاطا، وانفتاحا على الحياة. هو مغربي الأصل، ولكن أباه هاجر به وببقية إخوته منذ أكثر من أربعين عاما إلى هولندا. يقول: أعيش في هولندا منذ اثنين وأربعين عاما، ولكني لم أنقطع عن المغرب، فأنا أزور المغرب كل أربعة أو خمسة أشهر، ولي بيت من خمسة طوابق، ولدي سيارة هنا، وأفكر في مشروع تجاري. ومن تفاصيل حديثه، اتضح لي أنه يحب الله ويحب المال.

في حدود العاشرة من صباح اليوم التالي، وجدت الشيخ/ عثمان يتصل بي، ويقول: ما رأيك أن أمرّ عليك بسيارتي، لأطلعك على ضواحي طنجة، ونتناول الغداء في مطعم رائع في طريق الرباط. قلت له: يسعدني ذلك، بعد نصف ساعة كنا نأخذ طريقنا إلى "أشقار"، ويأخذنا الحديث عن الدين إلى مناطق "الشأن التقوي"، بقدر ما يأخذنا إلى مناطق "الشأن العقدي".

كنت أجاريه في كل أمر فكري، كنت بحاجة لصحبته، وكان لطيف المعشر مهذب الأخلاق جدا. ثقافتي السلفية جعلته يعتقد أنني إن لم أكن سلفيا قحا، فأنا ابن عائلة سلفية لا ريب فيها. قلتُ في نفسي: "ماذا لو عرف مَن أنا؛ لربما ألقى بي من أعلى جبل، أو رماني تحت عربة قطار!".

بعد ساعات قليلة، عرفت أنه قد يتسامح ـ نسبيا ـ في المسلكيات، ولكنه متشدد فيما يراه يدخل في دوائر الاعتقاد/ الإيمان. أذكر عندما زرنا بيته ليطلعني عليه، وبينما نحن نخرج، فُتِح الباب المجاور، وخرجت امرأة في السبعين من عمرها تقريبا، وعندما رأته، هتفت: أهلا "عثمان"، متى جئت؟، سلم عليها مصافحة، وقبّل رأسها، وتساءلا عن الأحوال، وعندما ركبنا السيارة، قال وكأنه يعتذر عما يعتقد أنني ـ كسلفي! ـ أراه مُحرّما: يا أخ محمد، هذه جارتنا، وهي امرأة كبيرة، وعندنا في المغرب، من الطبيعي أن تسلم على غير محارمك، وتقبل رأس امرأة في عمر والدتك.

تناولنا الغداء في المطعم كما اتفقنا، وكان لذيذا جدا (طاجن باللحم البقري)، وبدا "عثمان" مبتهجا جدا. أثناء انشغالنا بشرب الشاي الأخضر بعد الغداء، قال والسرور يطفح من أسارير وجه: أنا أحب الطعام والنساء. ثم كشف لي سِرّا من أسراره. قال لي وهو يبتسم في استرخاء: أنا متزوج هنا في طنجة من فتاة في الخامسة والعشرين. قلت: هل تعلم زوجتك/ أمّ أولادك في هولندا أنك متزوج هنا، فَزِع، وقال: لا. ثم قال، زوجتي هنا لا أسمح لها أن تلتقط أية صورة لي معها؛ حتى لا تُهدّدني في يوم ما بإبلاغ زوجتي في هولندا!

عُدْنا ذلك اليوم إلى وسط مدينة طنجة، مررنا بحي المصلى، ثم بالبوليفار، لنأخذ طريق محمد الخامس إلى منزلي. لا زلت أذكر ذلك اليوم بكل تفاصيله الدقيقة، فبينما كنا نسير، والحديث ـ في محوره ـ عن الدين، وهذا يبعث في نفسه غاية السرور، لا أدري كيف انحرف الحديث إلى مسألة صيام يوم عاشوراء.

المهم، أننا كنا نتحدث ونحن نتفرّج، هو يتحدث بحماس، بينما يقود السيارة في طريق مزدحم بالمركبات وبالبشر، لكنه رغم حديثه كان مشدودا إلى الطريق أمامه؛ لأن أية غلطة قد تكون كارثة. قال لي مسترسلا، وكأنه يقول كلاما لا ملامة عليه: يا أخ محمد، ألا ترى ما يفعله الشيعة الكفار في هذا اليوم؟ أذهلتني هذه الجملة، كنت أعرف أن الفكر الذي يؤمن به يقول بها صراحة أو ضمنا، ولكن لم أتصور أن أسمعها منه بهذه الصراحة. قلت، محاولا ضبط أعصابي إلى أقصى حد، ومتنازلا أن بعض قناعاتي: يا شيخ عثمان، هناك بعض الأخطاء، ولكن التكفير خطير. لم أكد أكمل جملتي القصيرة، حتى وجدته ينسى الطريق أمامه، ويلتفت إليّ في ذهول شديد، ويقول ـ مُتَعجّبا ومُنْكرا: ألا تعرف أنهم مُشركون وثنيون، يا أخ محمد، ألم تقرأ ما كتبه عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة؟ قال هذه الجملة وعيناه زائغتان من الدهشة والعجب، وربما من الغضب، كانت يداه ترتجفان وهما يمسكان بمقود السيارة، يَشدُّ عليهما وهو يحاول أن يؤكد لي ما قاله شيخ إسلامه، كدت أصرخ به: لا يهم الآن الشيعة ولا ابن تيمية، تَبّا لهم وله ولك ولي، المهم الطريق أمامك، لا تدهس أحد الراجلين أمامك، وما أكثرهم. حاولت تهدئته بمحاولتي الوقوف في منزلة بين المنزلتين، حاولت تقديم عُذْر الجهل، حاولت وحاولت...إلخ، حتى أوقفني أمام منزلي، ونزلت، بعد الاتفاق على موعد في الغد؛ ليقنعني بكفر الشيعة، بعد أن حيّره ترددي في تكفيرهم.

في مساء يوم غد، كنت أنا والشيخ/ عثمان في مقهى فخم في الدور الثاني في البوليفار على ضيافته (بعد إلحاح منه، وكأنما هي رشوة إقناع!)، كان الجو ماطرا، وصوت الرعد صاخبا، والشيخ عثمان، ولمدة ثلاث ساعات، يفتح جوّاله على صور من كتب ابن تيمية، محاولا إقناعي بكفر الشيعة كفرا لا مراء فيه، وأنا أخرجه إلى عموميات. لم أرد أن أقول له: لا يعنيني ابن تيمية في شيء؛ وإن كنت أعرفه أكثر منك بعشرات المرات، لو قلتها لصدمته، ولربما كان آخر لقاء. أيضا، أطلعني على فتوى الواعظ (ع) التي يطالب فيها مواطنيه باضطهاد الشيعة قَدْرَ ما يستطيعون.

قلت للشيخ عثمان: كيف عرفت كل هذا، كيف جمعت وتتبعت كل هذه النصوص التيموية، وغير التيموية؛ مما هي من ذيول التيموية، قال: نحن في أوروبا، في المراكز الإسلامية، نتدارس كتب شيخ الإسلام؛ لأن "الإسلام الصحيح" هو المُحقّق في كتب شيخ الإسلام (يقصد: ابن تيمية). يقول: نحن لا نعترف بالمراكز الإسلامية التي لا تعترف بابن تيمية؛ لأن هذا يدل على أن لديها خللا عقديا، والحمد لله أن أكثرها أصبح ينشر فكره بحماس. ثم قال: أبشّرك، إذا انتشرت كتب ابن تيمية، سيظهر الإسلام الصحيح، حتى في المغرب هنا سيزول الشرك، سيصبح المغاربة موحدين، مسلمين بحق، ويتركون عبادة الأولياء.

(لهذه القصة أجنحة وذيول، لا تتسع المساحة هنا لسردها، وما ذكرته هنا فهو مختصرها المبتور. ويبقى أن بعض التفاصيل أهم من المتن؛ خاصة لِمَن يُتْقن اقتناص فرائس الإشارات).

عن "الحرة"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية