تُمثّل الفترة التي عاشها سيد درويش البحر "1892-1923" المولود بعد عشرة أعوامٍ على الاحتلال البريطاني لمصر، اقتطاعةً موسيقية، كانت كفيلة بإظهار صحوةٍ فنية استطاعت لأول مرة تقريباً، التعبير عن المجتمع المصري الحيّ والمتنوع رغم ما قاساه منذ بدايات القرن التاسع عشر من تقلباتٍ سياسية واحتلال واستقطابٍ رجعي بدأ يلقي بظلاله على مصر منذ بدايات القرن العشرين.
ما جعل درويش يتميز عن غيره هو وقوفه على مسافةٍ من التراث الموسيقي الذي كان سائداً في زمانه
وخلال فترةٍ شهدت انحسار الحكم العثماني، وتوسع الاحتلال البريطاني لمصر، استطاع درويش خلال ستّ سنوات فقط، هي عمر مسيرته الفنية، أنْ يُقدّم لمحة موسيقية عن مصر القادرة على التحدث بأصواتٍ مختلفة وتجمع في داخلها لغاتٍ متنوعة وطوائف عرقية ودينية تعيش كلها جنباً إلى جنب، رغم أنّه لم ينل أي تعليم مدرسي في الموسيقى سوى القليل الذي حصّله من التحاقه بضعة أشهر بمدرسة إيطالية للموسيقى في الإسكندرية.
ولعلّ مؤتمر الموسيقى العربي الذي انعقد بمصر العام 1932 حاول إعطاء درويش صفة الملحن الذي عمل على "تمصير الموسيقى" أو إضفاء طابع خاص على الألحان الموسيقية المصرية، إلا أنّ ما يميز أعماله كان التبسيط، والقدرة على إبراز التعايش في المجتمع.
عبّر درويش عن صوت مصر الراغبة بالانعتاق من التراث الذي لم يعد يعبر عن رغبتها بنبذ الرجعية والتصلب والاحتلال
الفنان الذي ولد في مدينة الإسكندرية في 17 آذار (مارس) 1892، ودرس في كتاتيبها، وكبر محاولاً الالتحاق بالفِرَق الموسيقية بعد عامين على هجرته للدراسة بسبب إدراكه أنّها سوف تبعده عن حبّه للموسيقى والغناء، لكن الحياة التي لم تسمح له بذلك في ذلك الحين، كان من شأنها أن تعينه على البدء بتحقيق حلمه، إضافة إلى زواجه المبكر في سن السادسة عشرة والحاجة إلى إعالةِ نفسه وأسرته، مما حوّله إلى "عتّال" في أحد مشاريع البناء.
طوائف موسيقية وتنوع
لكنّ الحظّ سرعان ما ابتسم لصاحب "شد الحزام على وسطك غيره ما يفيدك" حين انتقل لتعلم الموشحات والتلحين على آلة العود في سورية، بمساعدةٍ من الأخوين أمين وسليم عطا الله الّلذين سمعا صوته يصدح وهو على رأس عمله ذات يوم.
ما جعل درويش يتميز عن غيره، هو وقوفه على مسافةٍ من التراث الموسيقي الذي كان سائداً في زمانه، وتعبيره عن صوت مصر الراغبة بالانعتاق من ذلك الإرث الذي لم يعد يعبر عن رغبتها بنبذ الرجعية والتصلب، والاحتلال وشوفينيته في الآن ذاته، فموسيقياً، جرّب درويش كما يرى الكاتب اللبناني فادي العبدلله في حوارٍ معه، نُشر على موقع معازف في حزيران (يونيو) عام 2017 أنّ درويش "عمل على الربط بين الغناء والموقف المسرحي، وتشكلت ألحانه على يد موسيقيّ محترف يملك قدرة على التنقل ما بين المقامات وتركيب الأجناس، وهو ما يختلف عن الموسيقى الفولكلورية رتيبة التوزيع والأسلوب".
اختار درويش إبراز جمال مصر في كونها تضم صوراً متعددة من المراحل الإنسانية المختلفة بأفكارها ومعتقداتها وأصولها
ويشير العبدالله، أثناء الحوار معه، إلى غنى أفكار درويش الفنية بتلحينه موسيقى حديثة تعبر عن كون المصريين أصحاب ذوقٍ حضاري خاص يعبّر عنهم في مواجهة الاستعمار البريطاني، ويوضّح مدى استيعاب المجتمع المصري للتنوع الطائفي والعرقي.
ونجد في أغنية واحدة لدرويش مثلاً، اللهجات المختلفة والأديان والأعراق المختلفة أيضاً، فينطق من خلالها السوداني والمصري والسوري واليوناني والأرمني، مسيحياً أو مسلماً أو سواهما، وتتبادل الأصوات والثقافات المختلفة رسم سياقٍ كامل لا تكتمل الأغنية إلا من خلاله.
وهنا أغنية.. مثالاً على ما ذُكر في الفقرة السابقة:
وعلى عكس المسار السياسي الذي بدأ يتشكل في مصر بعد العام 1919، واتخذ طابعاً قومياً منغلقاً على مصريّته في أحد الجوانب بسبب الاستعمار، وآخر دينياً يدعو لسوق المجتمع إلى تجربةٍ دينية "صحوية" تكون رمز نهضتها بالعودة إلى الوراء تاريخياً، وستعاني مصر من آثارها إلى يومنا هذا، فإنّ درويش اختار دون الاستناد على وعيٍ مبالغٍ فيه، إبراز جمال مصر في كونها تضم صوراً متعددة من المراحل الإنسانية المختلفة بأفكارها ومعتقداتها وأصولها، ليقوم بعكسها من خلال مرآة موسيقية يمكن لها الانسياب في آذانِ وعقول مستمعيها دون أن تسبب أي جرح.
أسطورة فنية مستحقة
حكايات عديدة حيكتْ حول تجربة درويش في الحياة والموسيقى، من أشهرها أنّه عايش فئات مختلفة من شرائح شعبه البسيطة؛ الحمّالين والسقّاين والبوابين والفلاحين والعمال..، حتى تمكن من إبرازهم في تجربته الموسيقية، كما أنّه لحن خلال فترة الاحتلال ما أصبح يُعرف فيما بعد بالنشيد الوطني المصري "بلادي بلادي"، وتحايلَ على الاحتلال وسخر منه حين لحّن أغنية "يا بلح زغلول" التي انتشرت بين أفراد الشعب من أجل عودة القائد الوطني سعد زغلول الذي نفاه الاحتلال العام 1921.
ويضاف إلى كل هذا قصص حبه وزواجه، واندثار العديد من ألحانه وأغانيه أو بقاء معظم ما بقي منها بتسجيلاتٍ صوتية رديئة، والكتب الثلاث التي كتبها عنه أبناؤه وأحفاده وتضاربت فيها الحكاياتُ عنه.
كل هذا أسهم في تحويل الرجل إلى أسطورة فنية مستحقة، بينما تختلف تأويلاتُ حياة وموتِ مغني "على قد الليل ما يطول"، فمنهم من أعاد سبب رحيله إلى جرعة مخدراتٍ زائدة، ذهبت روايةٌ أخرى لتقول إنّ الاحتلال البريطاني قام بتسميمه والتخلص منه، خاصة أنّه تم منع تشريح جثته من قِبل السلطات آنذاك. وهو ما يتوازى مع تعريف الأسطورة التي تظل قابلة للتأويل ولا تموت، بما قدمه من جمال وتجديد وتنوع خلال حياته القصيرة التي بدأها من حي فقير بالإسكندرية، لا يعكسها بيته الذي تحول إلى خرابة اليوم.
عايش فئات مختلفة من شرائح شعبه البسيطة حتى تمكن من إبرازهم في تجربته الموسيقية الفريدة
تقول رتيبة الحنفي في كتابها "موسوعة الموسيقى العربية": "وصل الأمر بذلك الثائر الجسور المقتحم الواثق من عبقريته إلى أن يستعمل في بعض ألحان أوبريتاته المتأخرة مثل: "شهرزاد"، و"البروكة" قالب الهرموني الكونترابونت التي لم تعرفها الموسيقى الشرقية من قبل"، مؤكدة أنّ أعمال سيد درويش في هذا الباب هي "الأولى والأخيرة فلم يتجاسر بعده حتى اليوم أحد من الملحنين على أن يخطو خطوة نحو هذا الباب العريض من أبواب الموسيقى".
مهمة ألحانه تركزت على الجمال وتمكين المجتمع من الاستماع إلى صوت فئاته كلها، مشكّلاً مع كلمات محمد القاضي تراثاً فنياً شعبياً مستقلاً مثل: "أهو ده اللي صار"”، "بلح زغلول"، "زوروني كل سنة مرة"، "أنا هويته وانتهيت" وغيرها من الأغاني التي التقطهتا الأمة المصرية وغدت نشيدها اليومي في الشوارع والبيوت والمقاهي والمظاهرات.
استطاع درويش خلال ست سنوات فقط هي عمر مسيرته الفنية أن يكرس نفسه أسطورة فنية مستحقة لا تتكرر
كانت لأغاني درويش الوطنية دور كبير في ثورة 1919، إلا أنه وسط انشغال الناس باحتفالات استقبال محبوبه سعد زغلول في الإسكندرية، لم يشعر أحد بوفاة "مجدد الموسيقى العربية"، لتشيع جنازته في مسيرة متواضعة لم يشارك فيها سوى عدد محدود من أهله وأصدقائه، لكنه رحل مؤمناً بأنّ هذا الشعب الذي طالما آمن به لن يخذل بلده "قوم يا مصري مصر دايماً بتناديك.. خد بنصري نصري دين واجب عليك..".