سلام أردوغان أم مناورة سليم العثماني: هل يسير التلميذ على نهج الأستاذ؟

سلام أردوغان أم مناورة سليم العثماني: هل يسير التلميذ على نهج الأستاذ؟


20/03/2021

حسن حافظ

تتوالى تصريحات التودد التركي الراغبة في استعادة العلاقات مع مصر بعد التوتر والسجال السياسي الذي استمر لسنوات. التصريحات التركية التي تأتي من رأس النظام في أنقرة وكبار رجاله، تكشف عن تغير في سياسة تركيا أردوغان على السطح، فأنقرة التي كانت ترفض الاعتراف بشرعية النظام المصري القائم على ثورة يونيو 2013، التي أطاحت نظام محمد مرسي، عادت فجأة خطوة إلى الوراء، وبدأت السير في عكس اتجاه سياساتها السابقة نحو القاهرة، وغيرت نغمة التصريحات من العدائية إلى طلب الود. فهل ما تشهده سياسة تركيا هو تغيير حقيقي؟ أم أن رجب إردوغان الذي يواجه أزمات في الداخل والخارج يسعى لتحالف مؤقت مع القاهرة يحقق مصالحه ثم يعود إلى سياسته الأولى؟ أي يحقق مصالح مرحلية له عبر البوابة المصري دون أن يقدم شيئا في المقابل.

 التاريخ الذي يعشقه إردوغان ويعيش على استعادته، يقدم بعض الإجابات للقاهرة لفهم ذهنية النظام التركي، ويقدم لها منظورا مختلفا لفهم عروض إردوغان السخية والمفاجئة، التي تأتي على العكس تماما من سياسته السابقة في دعم جماعة “الإخوان” بلا تحفظ، حتى ولو على حساب مصالح العلاقات التركية المصرية، لذا الشك في نوايا إردوغان سيظل مطروحا للنقاش، خاصة أن قدوة الرئيس التركي التاريخية في التعامل مع مصر، وهو السلطان العثماني سليم الأول، امتاز بالخداع والمناورات السياسية لتحقيق أهدافه في بناء إمبراطورية شرقية، فهل يسير التلميذ على نهج الأستاذ؟ وهل ما نشده الآن من سيل التصريحات التركية هو مجرد مناورة لا يجب الانجرار خلفها إلا بعد التأكد من النوايا وحدوث تحول نوعي على الأرض؟

علاقة الإعجاب الإردوغاني بسليم الأول، محل ملاحظة ومتابعة كما هو حال التقرير الصادر عن مجلة التايم الأمريكية بتاريخ 3 سبتمبر الماضي، والذي رصد مخاطر محاولات الرئيس التركي المضي قدما على خطى السلطان العثماني الذي أسس الإمبراطورية في الشرق، إذ تميز الأخير بسياسة عنيفة وتوسعية وعدائية ضد جميع جيرانه، وهي سياسة يبدو أن إردوغان يسير عليها بكل دقة، في ظل إعجاب معلن بسليم الأول، ظهر بوضوح في زيارة لقبر السلطان، من قبل الرئيس غداة الإعلان عن فوزه في الاستفتاء الدستوري لعام 2017، والذي وسع صلاحياته وسلطاته. كانت الزيارة ذات رسالة ضمنية لا تخطئها العين، فإردوغان يرى أنه يمضي في طريق سلفه، وأنه بات أقرب ما يكون من استعادة ما احتله سليم قبل 500 عام، لذا لا غرابة أن يصف نفسه هو وأعضاء حزبهم باعتبارهم ورثة “العثمانيين” أو “العثمانيين الجدد” ببساطة، ولا عجب إذن من أن يستوحي إردوغان بعض سياساته من نهج السلطان العثماني.

ماذا يخبرنا التاريخ؟

إردوغان يستذكر دروسه التاريخية جيدا، فهو عاشق كبير لتاريخ العثمانيين، لذا لا غرابة أن نتحسب من أن تكون رؤيته لمصر محكومة بميراث الصراع العثماني المملوكي قبل 500 عام تقريبا، فهو يدعي ليل نهار وبشكل عملي أنه سليل سليم خان الرجل الذي غزا مصر والشام، بعدما مهد لنفسه بمؤامرة ومناورة لخداع السلطان المملوكي في القاهرة، كان وجهها الود والعمل المشترك لمواجهة التمدد البرتغالي في الهند، وباطنها تقسيم الجيش المملوكي لتسهيل عملية الغزو العثماني المرتقب للشام ومصر، في عامي 1516-1517م (لاحظ أن زيارة إردوغان لقبر سليم تزامنت مع الذكرى الـ 500 لغزو مصر).

كانت الأسباب الاقتصادية المحرك الأساسي لسليم الأول لكي يغزو مصر والشام، فتحول طرق التجارة من داخل آسيا إلى الطرق البحرية الجنوبية بعد التفاف البرتغاليون حول رأس الرجاء الصالح، أنزل ضربة قاسية باقتصاد الدولة العثمانية الأمر الذي رأى سليم الأول أن حله يكمن في السيطرة على أقاليم مصر والشام الغنية، ويعيد السيطرة على طرق التجارة بالتمدد صوب البحار الجنوبية، وهو أمر شبيه بما يمر به إردوغان الآن مع إحساسه بالفشل مع إنهاك اقتصاد تركيا بأزمة لا تخطئها العين، خصوصا بعدما كرست سياساته عزلة أنقرة في منطقة شرق المتوسط، وخروجها خاوية الوفاض من عمليات تقاسم ثروات المنطقة بين مصر وعدة دول على رأسها قبرص واليونان، خاصة بعد تدشين منتدى غاز شرق المتوسط، وهو تحالف إقليمي مقره القاهرة، ولا مقعد فيه لتركيا حتى الآن.

أما أوجه التشابه بين إردوغان وسليم فهو اتباع سياسة مراوغة تقوم على ادعاء غير ما تبطن، بل تظهر الود والتحالف وتخفي الغدر والخيانة، فسليم الأول تعامل مع الدولة المملوكية في إطار المناورات الخادعة لإدخال مصر المملوكية في حالة استرخاء من أجل التمكين لغزوه المرتقب، وليس أدل على ذلك من إرساله لقوة بحرية مشتركة مع المماليك صوب الهند لمقاتلة البرتغاليين، وقد خرجت هذه الحملة في وقت شهد قمة التوتر بين سليم الأول وقانصوة الغوري، خاصة أن الأخير أرسل في هذه الحملة 600 مجند كانوا القوة الوحيدة التي تستخدم البنادق في الجيش المملوكي، فحُرم من هذه النخبة التي كان من الممكن أن تغير مصير معركة مرج دابق.

ويقدم الدكتور أحمد فؤاد متولي مادة وثائقية ضخمة ومهمة في كتابه “الفتح العثماني للشام ومصر”، عن كيف أظهر سليم الأول سياسة قوامها الخداع ومد يد المحبة في الظاهر والاستعداد في الواقع لبداية غزو الشام ومصر، وهي مادة لا تحتاج إلا قراءة سريعة للكشف على أن سليم وهو أحد رموز العثمانيين الجدد، لم يتورع في استخدام كل الأساليب لشرعنة غزوه لدولة مسلمة سنية، عبر جمع الفتاوى وتأويلات المشايخ المتعسفة للآيات القرآنية لتبرير أطماعه في مصر والشام، في نفس الوقت الذي كان يراوغ فيه السلطان قانصوه الغوري من أجل خداعه، هكذا كانت مناورة أستاذ إردوغان، فما هو سلام الأخير؟

لماذا يرى إردوغان في سليم الأول مثله الأعلى؟

من الواضح أن إردوغان يلعب على المشاعر العثمانية ذات الخلفية الإسلامية ممزوجة بأفكار القومية التركية، من أجل تثبيت دعائم سلطته الشعبوية التي ضمنت له حكم تركيا مع تقليص مستمر لمساحة حرية الرأي، لذا لا غرابة أن يرى في سليم الأول قدوته في إطار انبعاث تيار العثمانيين الجدد، الذي يريد إحياء إمبراطورية العثمانيين عبر التوسع في محيط تركيا، وإن لم يكن بالغزو المباشر، فبتثبيت نفوذ أنقرة على حساب دول الجيران، في ظل أطماع تركية صريحة في شمالي سورية والعراق، لذا لا غرابة في أن يجعل إردوغان من سليم الأول الرجل الذي بنى الإمبراطورية مثله الأعلى ومن فكره السياسي ينهل.

يتدخل إردوغان في المنطقة العربية من منطلق الحق التاريخي الذي أسسه غزو سليم الأول للأقاليم العربية، ويرى أن تدخله في شؤون المنطقة العربية حقًا لا يمكن التفريط فيه، لذا يتم تغطية النوايا التوسعية لنظام إردوغان العدواني باستدعاء عصر سليم والاحتفاء بالنموذج الذي يمثله السلطان العثماني الذي عرف عنه انتهاج سياسات عدوانية،وقد جرت عادة اردوغان أنه مع كل تدخل عسكري تركي في الشؤون الداخلية للدول العربية فإنه يقوم باستدعاء التاريخ العثماني إما لتبرير هذا التدخل، أو كمحاولة لإقناع القواعد الشعبية التي تقع تحت سطوة خطابه.  ومثال ذلك أنه لما أراد صناعة مظلة لتبرير تدخله عسكرياً في ليبيا فإنه قال علناً في خطاب جماهيري أن تركيا تذهب إلى ليبيا لاستعادة أمجاد أمير البحار العثماني خير الدين بربروس. وهو نفس الأمر الذي فعله في سوريا عندما قام باستدعاء تاريخ العثمانيين هناك بالحديث عن أن واحدة من مهام الجنود الأتراك استعادة جثة القائد السلجوقي سليمان شاه ألب. عوضاَ عن أنه للوصول إلى غايته السياسية فإن اردوغان كان على استعداد للانقلاب على أقرب رفقائه السياسيين ممن رافقوه رحلة صعوده السياسي، وهو نفس الأمر الذي فعله سليم الأول العثماني عندما قام بالتضحية بأخوته وأبنائهم، وفي ذلك لا يختلف التلميذ عن الأستاذ ، فانعدام الوازع الأخلاقي قاسم مشترك بين سليم وإردوغان.

في هذا الإطار كان لافتًا أن تحتفي وكالة أنباء الأناضول الرسمية مطلع مارس الجاري، بالاستعدادات المستمرة للبدء في تصوير فيلم يجسد حياة السلطان العثماني سليم الأول (ياووز سليم)، والذي من المخطط أن يتم عرض الفيلم على شاشات السينما بحلول العام 2023، وهو العام ذاته الذي يشهد الذكرى المئوية الأولى لمعاهدة لوزان والتي تروج الدعاية العثمانية الجديدة أنه سينتهي العمل بها في ذكراها المئة، وأن انطلاقة تركيا لاستعادة الإمبراطورية العثمانية التي أسسها سليم الأول ستكون بداية من هذا العام! أي في الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية، أو بعبارة أخرى يرغب إردوغان في جعل العام 2023 مناسبة احتفالية لإحياء إمبراطورية سليم الأول.

 وسيتحول الفيلم الذي يتناول “فترة فتح العثمانيين مصر وضم الحجاز، وأنه يهدف للتعريف بالسلطان ياووز سليم في كل العالم”، إلى بوق دعائي في يد نظام إردوغان الذي يريد من الفيلم بعث رسالة مباشرة إلى مصر والسعودية، بأن سليم الأول يحضر من جديد في صورة إردوغان ممثل أحلام الإمبراطورية العثمانية الجديدة، إذ يؤكد رجب إردوغان على أنه السليل المباشر لسليم ومعيد أمجاده إن لم يكن على أرض الواقع فعلى الأقل على مستوى نفسي ودعائي، في تجاهل تام لتغير الظروف والملابسات التاريخية التي تقول إن أحداث جرت منذ 500 عام أصبحت في ذمة التاريخ، وأن مياه كثيرة جرت في نهر سياسة الشرق الأوسط ولم تعد هناك مساحة لأحلام إردوغان.

ماذا على القاهرة أن تفعل؟

أمام سياسة إردوغان التي تقتبس من روح عدوانية سليم الأول، يجب على القاهرة أن تقف عند هذه النقطة عند التعاطي مع عروض الرئيس التركي، فالأخير يتقن المناورات السياسية والتحالفات الوقتية، من أجل الوصول إلى حلمه وأهدافه التي يعمل عليها منذ سنوات، بإعادة بناء إمبراطورية سليم الأول، قد تكون أحلام إردوغان مغرقة في الخيال، ولا مكان لها بحكم متغيرات الزمن ومعطيات الحاضر، إلا أن التعامل مع إردوغان ونظامه بحذر واجب وأمر ضروري إلى أبعد الحدود، فكل ما يقدمه هذا النظام من عروض لا بد وأن تفحص وبدقة، ولا تعني تصريحاته أنه سيخلص الود منذ أول بادرة، وينقلب على سياساته العدائية ضد القاهرة بالكامل.

من الواضح أن أنقرة تخطب ود القاهرة من أجل أهداف محددة، فعلى ما يبدو أن تركيا إردوغان باتت تحصد عزلة إقليمية، وتوترات مع أطراف عدة في مقدمتها الاتحاد الأوروبي، فضلا عن أزمة في الأفق مع إدارة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن بسبب صفقة منظومة الدفاع الروسية، فأنقرة تحتاج القاهرة لتحقيق تهدئة في ملفين أساسين، الوضع في ليبيا وشرق المتوسط، في المقابل يبدو احتياج مصر لتركيا أقل أهمية، لذا على دوائر صنع القرار المصري قبل الجلوس على طاولة التفاوض، أن تحدد بدقة ما تريد من تركيا، وما يمكن أن تضيفه الأخيرة من مصادر قوة إقليمية للقاهرة في مشهد سياسي يعاد ترسميه على خريطة الشرق الأوسط فيما بعد عشرية “الربيع العربي”، والأهم أن تكون التعهدات التركية مكتوبة، ومحل تنفيذ على الأرض، حتى لا تقع في حبال ألاعيب إردوغان السياسية.

ومن حسن الحظ، أنه يبدو أن القاهرة تعي تماما مناورات إردوغان وإتباعه لنهج سلفه سليم، فلا تسلم بالود الطارئ ولا تبادر بالعداء السافر، فمن الواضح أنها لا تنخدع بسلام إردوغان ولا مناورة سليم، بل على العكس ترى -في كل ما يرشح عن دوائر صنع القرار المصري- أنها لا تقبل بالتصريحات المعسولة إذا لم تساندها تغيرات حقيقية على الأرض، فإذا ما كان إردوغان جادا في مد يد التعاون والتنسيق وطي صفحة التوتر والتحريض فعليه أن يخلع عباءة سليم الأول عند تعامله مع مصر.

عن "مركز الإنذار المبكر"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية