"سفر برلك"... قصة مجاعة ابتلعت الشام والحجاز

"سفر برلك"... قصة مجاعة ابتلعت الشام والحجاز

"سفر برلك"... قصة مجاعة ابتلعت الشام والحجاز


04/05/2023

سنا الشامي

"وسعوا المرجة، والمرجة لينا، شامنا فرجة. وهي مزينة"، أبيات راقصة تغنى بها أهل الشام لعقود، حيث كانت تعكس حقيقة استخدام ساحة المرجة في وسط دمشق كملعب لسباق الخيل، لكن ما حدث في مايو (أيار) منذ 108 أعوام غير المعنى وصنع مناسبة ما زال يذكرها التاريخ حتى هذه اللحظة، وهي حملة إعدامات في دمشق وبيروت صبيحة يوم السادس من مايو 1915، فبعد فترة قصيرة من توليه الحكم في بلاد الشام ومحاولاته التودد لأهلها عله يكسبهم وقوداً لجيشه في الحرب العالمية الأولى، كشر جمال باشا (السفاح) عن أنيابه وأمر بإعدام عدد من السوريين واللبنانيين في الساحات، وهكذا تحولت الكلمات من "وسعوا المرجة" إلى "زينوا المرجة" تكريماً لأبنائها الذين ضحوا بحياتهم لأجل بلادهم.
ولكن لم يكتف العثماني بإعدام البعض منهم حينها، بل ساق الأكثرية العظمى من الرجال إلى ما عرف بـ"السفر برلك"، حيث مات كثير في غياهب النسيان، وتركت البلاد من شمالها الشامي إلى جنوبها الحجازي عرضة لإحدى كبرى المجاعات هولاً في تاريخ البشرية.

الوضع العام قبيل المجاعة

لم تكتف الدولة العثمانية بقتل وملاحقة رجالات البلاد الوطنيين من مثقفين وثوار، بل عمدت إلى إدخالها هي وأهلها في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وحملتهم كل تبعاتها، ولعل أخطرها وأشدها قسوة كانت المجاعة التي أكلت الأخضر واليابس، فمع وصول جمال باشا إلى الحكم في بلاد الشام والحجاز، وبدء الحرب العالمية الأولى، وقرار العثمانيين الدخول في الحرب إلى جانب ألمانيا ضد الحلفاء (الفرنسيين والبريطانيين)، حاصرت أساطيل الفرنسيين والإنجليز شواطئ سوريا ولبنان وفلسطين، ومنعت دخول الإمدادات والمؤن بجميع أشكالها إلى القوات العثمانية، فانعكست آثار الحصار مباشرة على حياة أهل البلاد، الذين جردهم العثمانيون من كل شيء وبخاصة طعامهم ومؤنتهم لحاجة العسكر (العصملي) لها، بحجة إعلان النفير العام أو ما عرف بالسفر برلك.

لم يترك رجل في البلاد السورية إلا وسحب على أخذ العسكر، لدرجة أن البعض ولشدة خوفه من بطش الأتراك بادر لأذية نفسه، كما أورد الكاتب السوري ممدوح عدوان في مسرحيته "سفر برلك"، بعد إعلان خبر النفير العام من قبل أحد دركيي (شرطيي) الجيش العثماني.

ففي إحدى القرى السورية يدخل أحدهم ويدعى سليم ويده على عينه والدم يسيل منها، فيفاجأ الدركي بأن سليم قلع عينه كي لا يذهب إلى العسكرية، ولم تمض عدة دقائق حتى سمع الحاضرون صراخ شخص آخر ليتبين أنه قد قطع إصبعه للسبب ذاته.

الجوع يلتهم الناس

في هذا الوقت اجتاح الشام الجراد، حتى دعي عام 1915 بعام الجراد، وقد وصل الحال إلى درجة لا توصف من السوء والمعاناة، ولم تبدأ سنة 1916 إلا وقد عم الجوع سوريا ولبنان، بعد أن قضى الحر الذي شهدته تلك السنة على ما تبقى من زرع نجا من تلك الآفة، فتروي مجلة "الحرب العظمى" - التي صدرت لنقل أخبار الحرب العالمية الأولى - "أن أعداداً كبيرة من السكان كانوا يلتهمون البلوط والخروب من الجبال، وأصول النباتات والأعشاب مما تأكله البهائم".

ويذكر أيضاً أن امرأة عاشت في حرش أربعين يوماً وهي تقتات ما تيسر لها من عشب الأرض، وكانوا يبتاعون بزر المكانس والقنب فيطحنونه ويصنعون منه خبزاً، كما أخذ الناس يبيعون ما عندهم من المنازل والأثاث والأراضي بأسعار من دون قيمتها المالية الحقيقية، وباعت النساء حليها وأثوابها وكسوتها.

وأخذت المجلة حينها تروي الوضع في دمشق "كان المار في شوارع دمشق وفي كثير من المدن السورية يرى مئات من الناس وقوفاً على أبواب الأفران من الفجر حتى الظهر يطالبون بنصيبهم من الخبز بحسب ما بأيديهم من وثائق الإعاشة، وهذا الزحام من الناس لم يكن يخلو من الشتم والضرب واللكم، أما نوعية الخبز الذي يتقاتلون عليه فتلك قصة أخرى".

وعن هذه المجاعة كتبت الرواية اليتيمة "الرغيف" للروائي اللبناني توفيق يوسف عواد، فقال في وصفه حال صبي وأمه "قضى بقية نهاره متنقلاً في الأرض كالحيوان، وكانت أمه قد كفت عن اللحاق به منذ حبست الأيدي الرزق عنه وعنها، ففتش عليها يوماً ليجدها في الوادي تأكل من جيفة بغل منتنة، وبغتها يوماً آخر تذبح قطة وتلتهم لحمها المطاط نيئاً، ثم دب الورم في رجليها فعظمتا وقعدتا بها لا تقوى على الخروج ولا القيام من مطرحها على باب المراح، وكأن الجوع افترس جنونها فيما افترس، فانقطعت عن الزغردة واعتصمت بصمت هائل لا يتكلم فيها إلا عينان تنفتحان كبيرتين على الأشياء حيناً وفي عرض الفضاء أحياناً، تناديان شبح الرغيف".

وفي هذا السياق، يذكر المؤرخ اللبناني يوسف معوض أن عدد الضحايا وصل إلى 200 ألف ضحية في لبنان وحده، أما في دمشق وحلب فوصل إلى نحو 500 ألف ضحية.

 

وضع أرض الحجاز

أما على المقلب الآخر وباتجاه جنوب بلاد الشام، كانت أرض الحجاز تمر بأوقات صعبة جداً، فقد توالى على حكمها في فترة قصيرة حكام عدة علهم يحكمون قبضتهم عليها، وبخاصة بعد معرفة الأتراك بنية الشريف حسين الثورة عليهم، فأعلن فخري باشا في أبريل (نيسان) 1917 بيانه الشهير القائل بضرورة إخلاء أهل المدينة المنورة والرحيل عنها بالقطار باتجاه الشام وتركيا، ومن أراد البقاء عليه ألا يطالب بالطعام والمؤن، لأنه سيؤول إلى الجيش والسلطات التي ستتفرغ للقتال.

ويقول الكاتب السعودي سعيد بن وليد طوله في كتابه الذي حمل اسم "سفر برلك وجلاء أهل المدينة المنورة"، إن "الأمر بعد بلاغ فخري باشا بدأ يأخذ منحى جدياً، فقد كان الرجل يخشى أن يستولي الأشراف على خط السكة الحديدية من الشمال، بالتالي يمنعون وصول القطار إلى الشام، فأراد أن يسرع عملية التهجير قبل أن يتوقف القطار، وتقرر إخراج الناس إجباراً".

وهكذا بدأ الأتراك يجمعون الناس من الطرقات ويرمون بهم في القطار، وبذلك فقد فصلوا أهل المدينة عن أسرهم وأبنائهم وآبائهم، إذ يقول طوله في كتابه إن "من المآسي التي رواها الشيخ خليل ملا خاطر عن المعمر زكي أبوربيعة، أن امرأة ولدت في ليلة من الليالي، فخرج زوجها يبحث عن طعام فلقيه العسكر فأخذوه قسراً إلى محطة القطار، فطلب منهم أن يحمل زوجته وطفله فمنعوه، ولما رأت المرأة تأخر زوجها خرجت لتأخذ ماءً من عند باب الدار، فرآها العسكر فساقوها ولم يمكنوها من أخذ الطفل مع شدة بكائها وتوسلاتها، وبقي الطفل في المنزل حتى توفي".

مأساة المدينة المنورة

بعد البيان، أصدر فخري باشا أوامر صارمة جداً، أدت إلى تفاقم المجاعة بين أهالي المدينة المنورة، حيث أمر بإغلاق الدكاكين ومنع الناس من الشراء والبيع، وأمر بجمع التمور من نخيل المدينة وبساتينها لادخاره للعسكر، ولم يسمح للقبائل البدوية بإدخال القوت إلى أسواق المدينة، ومن يقبض عليه يحاسب حساباً عسيراً.
ونتيجة هذه الإجراءات التعسفية خرج كثير من أهالي المدينة المنورة قاصدين الشام، ومنهم عائلة الكاتب السعودي ضياء عزيز، الذي يتحدث في روايته "حياتي مع الجوع والحب والحرب" عن معاناته وأسرته خلال هذه المجاعة، ففي الصباح الذي ركبوا فيه القطار ليسافروا من المدينة المنورة إلى مدينة حماة السورية، شاهد لأول مرة دموع جده، المتعلقة روحه بالمدينة "رفعت بصري إلى جدي الشيخ، فرأيته ينظر إلى بعيد وفي عينيه وعلى لحيته يسيل الدمع من عينيه عبرات".

ويتحدث ضياء عن حالهم في الشام، وعن إصابته بالتيفوس وشفائه منه، ويروي في حديث
دار بينه وبين والدته عن حبة القنيطة (الكعك) التي استطاع جده إيجادها في أحد الأيام "يا ترى تظن أننا أكلنا هادي الحبة ساعة ما جات؟ لا أبداً... دي أكلنا منها أربعة أيام، وتضحك لما أقول لك إني أشمها بس لما أجوع وأشتهيها، ما آكل الفتفوتة (قطع صغيرة) منها إلا مع أبويا، بعد أن نقطع حصتك، ولما سألتها كيف يمكن تكفي القنيطة الواحدة ثلاثتنا أربعة أيام؟ أذكر كانت تقول: الجوع يا ولدي علمنا كيف نعرف قيمة النعمة... كيف نحافظ عليها".

هزيمة العثمانيين وسرقتهم الخيرات

بعد الوصول إلى قناة السويس فوجئ الجيش التركي بالقصف العنيف من قبل الإنجليز، فقد تراجعوا بعد أن حاصرتهم الهزائم، وهنا يصف الكاتب ممدوح عدوان مرة أخرى في مسرحيته المشهد على لسان شخوصه، إذ "يفاجأ أحد العساكر بضابط بعد الهزيمة يخرج من أحد الأماكن وبيديه كيس مملوء بالذهب. ويقول له الضابط: ادخل خذ ما تريد من طعام واحرق ما تبقى كي لا يحصل عليه الإنجليز، فدخل العسكري إلى مستودع كبير مملوء بالطعام، ووقف مذهولاً وهو يردد، كل هذا الرزق هنا ونحن نموت من الجوع؟!".

وهذا ما حصل في الحجاز، فبعد خروج الأتراك يذكر الدكتور طوله أن علي بن الشريف
حسين "أمر بإخراج التمر الذي خزنه فخري في المستودعات والمخازن، فتعاقب الرجال على نقل أكياس التمر، وتكومت حتى صارت كالجبل، وبجانبها وضع كوم آخر للخبز المجفف".
يبدو أن هذه الهزائم كانت بداية نهاية الدولة العثمانية التي كان كلما تقهقر جيشها في مكان
جمع رجالها ما يستطيعون من الذهب والطعام، وأعطوا أوامرهم بحرق المخازن الممتلئة طعاماً وغلالاً، والتي لو وزعت على الناس لكانت قادرة على إشباع بطون زحف الجوع إليها فأفقدها كل شيء، وعن هذه المجاعة كتب جبران خليل جبران "مات أهلي جائعين، ومن لم يمت جوعاً بحد السيف... ماتوا في الأرض التي تدر لبناً وعسلاً... ماتوا لأن الثعبان الجهنمي قد التهم كل ما في حقولهم... ماتوا لأن الأفاعي أبناء الأفاعي قد نفثوا السموم في الفضاء الذي كانت تملأه أنفاس الأرز وعطور الورد والياسمين".

عن "اندبندنت عربية"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية