ترجمة: محمد الدخاخني
حلّت نهاية الصّيف إلى إسطنبول في شكل نسائم دافئة الأسبوع الماضي، بعد إجازة دفعتها الجائحة. انطلق "قطار الشّرق" السّريع إلى المدينة، للمرة الأولى منذ عام 2019، ورحّبت به فرقة على الطّراز العثماني في محطّة باكيركوي، بعد رحلة استغرقت خمسة أيّام من باريس.
بدا الاحتفال مُلائماً؛ شوارع العاصمة الماليّة والثّقافية لتركيا ازدحمت بالزّائرين في الأسابيع الأخيرة، بما في ذلك الممثل والمخرج الفرنسي جيرارد ديبارديو، الذي، بحسب ما ورد من تقارير، استمتع بالمنظر وأكل قدراً كبيراً من المأكولات البحرية في مطعم معروف على سطح بالقرب من ميدان تقسيم.
هذا الصّيف، تجاوز عدد السياح القادمين إلى إسطنبول مستويات ما قبل الجائحة، حيث وصل إلى أعلى مستوى له في عشرة أعوام، ممّا دفع عائدات السّياحة الوطنيّة بنسبة 190 بالمئة. بعد أعوام من الشّكاوى، من كونه كبيراً جدّاً، وبعيداً جدّاً عن المركز، ومن سوء إدارته، حقّق مطار إسطنبول الضّخم هدفه في أن يصبح أكثر مطارات أوروبا ازدحاماً.
ساعد هذا في دفع الاقتصاد التّركي إلى نموّ قوي بنسبة 7.6 في المئة في الرّبع الثّاني، بما يتفوّق على التّوقّعات ومعظم الدّول النّظيرة. بدعم من هذا النّمو، وانقلابات دبلوماسيّة مثل صفقة الحبوب الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا، شَهِد حزب العدالة والتّنمية الحاكم في تركيا، الذي سيحتفل بمرور 20 عاماً على وجوده في السّلطة في تشرين الثّاني (نوفمبر)، أرقامه في الاستطلاعات تتعافى من الهبوط.
للمرة الأولى منذ شهور، تجاوز دعم حزب العدالة والتّنمية وشريكه البرلمانيّ حزب الحركة القوميّة المتطرّف (حيث حصلا على نسبة 35 في المئة) الدّعم الموجّه لحزبي المعارضة الرّئيسَين، حزب الشّعب الجمهوريّ وحزب الخير (حيث حصلا على نسبة 32 في المئة).
ولزيادة تعزيز الثّقة، أفادت تقارير واردة من الخطوط الأماميّة في أوكرانيا إلى محو طائرات تركيّة من دون طيار من طراز "بيرقدار" عشرات الملايين من المعدّات الرّوسية في غضون أيّام قليلة.
مشكلات في المستقبل
لكن هناك مؤشّرات على وجود مشكلات في المستقبل؛ سفينة تنقل ثلاثة آلاف طن من الذّرة من أوكرانيا، بفضل صفقة الحبوب، جنحت في البوسفور في الأوّل من أيلول (سبتمبر)، ممّا أوقف حركة المرور البحريّة لساعات وربما أشار إلى تغيير في الطّقس.
بعد حوالي ثلاثين ساعة، عانت سفينة شحن متّجهة إلى أوكرانيا لنقل الحبوب من مشكلة في المحرّك في الموضع نفسه من مضيق البوسفور، ممّا أوقف حركة المرور مرّة أخرى على ممرّ الشّحن الإقليميّ الرّئيس.
في نهاية الأسبوع، ظهرت تقارير عن نشاط إجراميّ مُقلِق، وألقت شرطة إسطنبول القبض على مشتبه به بالإرهاب قالت إنّه تلقّى تدريباً في مخيم للّاجئين بالقرب من أثينا يديره حزب العمّال الكردستانيّ المسلّح وتدعمه الحكومة اليونانيّة، وهي أخبار، إن كانت دقيقة، تشير إلى تعاون جديد مُقلِق.
كما أفادت وكالة إخباريّة غربيّة رفيعة المستوى أنّ أنقرة، التي أشادت بها كييف لمنعها مرور سفن بحريّة روسيّة عبر المضيق التّركي، ربما تسمح لروسيا بنقل أسلحة ومركبات مدرّعة عبر مضيق البوسفور إلى البحر الأسود على سفن تجاريّة روسيّة.
كما أوضح محلّل شؤون البوسفور والخبير البحريّ الكبير، يوروك إيشيك، لصحيفة "وول ستريت جورنال"؛ فإنّ هذا من النّاحية الفنّية ليس انتهاكاً لاتفاقيّة مونترو؛ لأنّ السّفن غير عسكريّة. لكنّه أضاف: إذا كانت لديها الإرادة السّياسيّة، يمكن لتركيا أن توضح لروسيا أنّ مثل هذه المراوغات غير مقبولة، وحقيقة أنّها لم تفعل ذلك بعد تُشير إلى أنّ أنقرة ربما كانت تأمل في مساعدة موسكو بهدوء.
لن تكون هذه المحاولة الأولى للحزب الحاكم في "خفّة اليد"، كان زعيم المافيا التّركي، سيدات بيكر، قد أثار ضجّة كبيرة على الإنترنت العام الماضي عبر سلسلة مقاطع فيديو أوضحت بالتّفصيل فساداً حكوميّاً مزعوماً وانتشرت بقوّة. في 50 تغريدة من حساب باسم "الرّقيب المجنون" على تويتر، استأنف عمله الأسبوع الماضي وزاد جوّ التوجس بسلسلة مزاعم جديدة شملت مستشاري الرّئيس رجب طيب أردوغان.
أحمد سيك
الصحفي السّابق الذي تحوّل إلى سياسيّ، أحمد سيك، وهو أيضاً برلمانيّ عن حزب معارضٍ في إسطنبول ومؤلّف كتاب عن الفساد، قال في مقابلة بعد أيّام؛ إنّ بيكر سلّط الضّوء على مئات الجرائم المزعومة، لكنّ القضاء التّركي لم يتّخذ أيّ إجراء، وتوقّع سيك أنّه "سيتمّ إغلاق حزب العدالة والتّنمية باعتباره منظّمة إجراميّة".
قد يجد آذاناً متعاطفة بين العديد من المواطنين الأتراك الذين يكافحون لدفع فواتيرهم ويتعثّرون في أزمة اقتصاديّة لا نهاية لها على ما يبدو، على الرّغم من التّوسّع الاقتصادي؛ فإنّ التّضخّم في إسطنبول ما يزال يقترب من نسبة المئة في المئة، أعلى من المعدّل الوطنيّ بنحو 80 في المئة، ووصل الدّولار الأمريكيّ إلى 18.2 ليرة خلال العطلة الأسبوعيّة، ممّا يهدّد بالانخفاض إلى مستوى قياسيّ آخر.
تواصلُ شركات الخدمات الاستثماريّة، مثل وكالة موديز، تخفيض التّصنيف الائتمانيّ لمعدّلات الائتمان المنخفضة بالفعل. وإنفاق بطاقات الائتمان قفز بهدوء بنسبة 112 في المئة في الرّبع الثّاني من العام، ممّا يؤكّد وجود يأس متزايد. ويتوقّع محلّلون أن يتباطأ النمو الاقتصادي في تركيا بشكل حادّ إلى حوالي 1 في المئة بحلول نهاية العام، ويرجع ذلك جزئيّاً إلى الرّكود المحتمل في أوروبا.
في اليوم التّالي لتغريدات سيك، رفع حزب العدالة والتّنمية دعوى قضائيّة ضدّه، مطالباً فيها بتعويض قدره 100 ألف ليرة عن هجومه على "محتَرَميّة" الحزب. في اليوم نفسه، وفي خطوة مفاجئة، استقال كوركماز كاراجا، عضو مجلس السّياسة الاقتصاديّة لأردوغان المذكور في مزاعم بيكر الجديدة، من مهمّاته كافّة.
قال كاراجا، وهو الشخصيّة الأولى في حزب العدالة والتنمية سقطت بسبب هجوم بيكر؛ إنّه لم يتلقَ أيّة رشاوى قطّ، لكنّ "الإعدام خارج نطاق القانون" الذي حفّزته تغريدات بيكر شكّل تهديداً على صحّته. بعد يومين، في الأوّل من أيلول (سبتمبر)، سقطت قطعة الدّومينو الثّانية لحزب العدالة والتّنمية عندما أقال أردوغان المستشار الكبير، سيركان تاران أوغلو، المذكور أيضاً في اتّهامات بيكر بالفساد.
امتنع الزّعيم الرّاسخ لتركيا حتّى الآن عن انتقاد بيكر، الحليف السّابق لحزب العدالة والتّنمية، الذي تجنّب بدوره توريط أردوغان في أيّة حيلة، لكن نادراً ما يخجل أردوغان من ملاحقة الصّحفيين والأعداء السّياسيين، ويمكن اعتبار سيك من كليهما.
من سينتصر؟
في نهاية الأسبوع، قال الزّعيم التّركي عن سيك إنّه "إرهابيّ". وأضاف: "دعونا نرى كيف سيُنقذ نفسه".
أنقذ سيك نفسه بالفعل مراراً، بعد أن واجه تُهماً جنائيّة بسبب عمله الصّحفي أربع مرّات في عهد حزب العدالة والتّنمية، وقضى مدّتين في السّجن، قبل أن يفوز بمقعد برلماني، عام 2018. وردّاً على سؤال على تويتر، أكّد سيك أنّه في تركيا ما بعد حزب العدالة والتنمية، القضاء "سيقرّر من الإرهابيّ".
أكّد بيكر مراراً أنّه يُبقي على مزاعمه الأكثر إثارة للاهتمام إلى الوقت المناسب، الذي يفترض معظم المراقبين أنّه الفترة التي تسبق الانتخابات البرلمانيّة التّركية التي تلوح في الأفق، والتي من المقرّر إجراؤها في حزيران (يونيو) المقبل، وانتشرت إشاعات حول الشّخصيّة التي قد يُسقطها، وما إذا كان يمكن أن يظهر كـ "صانع ملوك".
من سينتصر في النّهاية؟ تأهّبوا.
مصدر الترجمة عن الإنجليزية:
ديفيد ليبيسكا، ذي ناشونال، 6 أيلول (سبتمبر) 2022