محمد عبد الكريم
تمر منطقة القرن الأفريقي بتحولات بالغة التعقيد يمكن تلمسها عند الاستقراء الشامل لها، والنظر لديناميات هذه التحولات في ضوء ارتباطاتها وتأثيراتها المباشر وغير المباشرة على المدى القريب والمتوسط على الأقل. وتمثل حالة تفاعلات العلاقات السودانية الإثيوبية نموذجًا مثاليًا لهذه الصورة العامة وجزءً أكبر بها؛ حيث تمتد تأثيراتها من المستوى الثنائي إلى مستوى إقليمي أكبر، خاصة على دولة بحجم مصر.
ماذا يحدث بين السودان وإثيوبيا؟
جاءت الأزمة في إقليم التيجراي (نوفمبر 2020) لتضع تحديات حقيقية أمام مسار العلاقات السودانية الإثيوبية، لاسيما أنها تلت توترات حدودية متكررة بينهما في منطقة القضارف بالسودان، وصلت إلى مرحلة انتهاك علني لسيادة السودان وقواته ومواطنيه في عمق أراضيه، بينما اقتصرت استجابته وقتها على مواقف كلامية متفاوتة القوة.
ويمكن تلمس الوضع الحالي في مسارين: تقارب تقليدي شابه توتر “مكتوم” مؤخرًا بين رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك ونظيره الإثيوبي آبي أحمد، اتضح في تقليص جدول أعمال زيارة الأول لأديس أبابا منتصف ديسمبر فيما اعتبر رفضًا إثيوبيًا لأداء حمدوك في أزمة التيجراي وما تلاها، تم تداركه جزئيًا في قمة “إيجاد” بجيبوتي مؤخرًا.
أما المسار الثاني فإنه يتمثل في حالة استقطاب واضحة في علاقة المكون العسكري بأديس أبابا، وتمكنه من خلخلة الاصطفاف الشعبي واجتذاب قطاعات أكبر وراء مواقفه داخليًا وخارجيًا؛ مما مثل تهديدًا حقيقيًا لإثيوبيا كقوة مهيمنة في المرحلة الانتقالية، مع تبني مواجهة العناصر الإثيوبية المعتدية على سيادة السودان عسكريًا.
وفي قراءة ذكية عمد آبي أحمد إلى امتصاص الغضب العسكري والشعبي السوداني ضد نظامه في قمة “إيجاد” بجيبوتي برئاسة حمدوك، باتفاق البلدان على استئناف اجتماعات لجنة الحدود المشتركة (22 ديسمبر)([1])، وحشد مواقف “إيجاد” وراء فكرة حل أفريقي للمشكلة، رغم التواضع سابقًا ومرارًا على فكرة ترسيم الحدود المعترف دون مخرجات جدية حتى الآن.
ما حدود التأثير الإثيوبي في المرحلة الانتقالية بالسودان؟
بادرت إثيوبيا بدور رئيس في التأثير في السودان بوقوفها المبكر خلف قطاعات واسعة من القوى المدنية والمسلحة المعارضة للرئيس المعزول عمر البشير؛ الأمر الذي مكنها لاحقًا من استمرار تأثيرها في المرحلة الانتقالية، كما يتضح في التنسيق المستمر بين حمدوك وآبي أحمد في أكثر من ملف سوداني، والتحيز الإثيوبي الواضح لحمدوك.
لا يتوقع تخلى إثيوبيا، التي خرجت من أزمة التيجراي أكثر جنوحًا لتعزيز هيمنتها الإقليمية، عن تأثيرها عبر قنوات الاتصال “الآمنة” مع حمدوك وبعض المكونات المدنية، واحتواء المعارضة المسلحة في المنطقتين (شمال كردفان والنيل الأزرق)، بعد إعلان أديس أبابا (أكتوبر 2020) تدريب مقاتلين من إقليم بني شنقول-قمز المجاور بهما([2]).
فيما يتعلق بحدود التأثير حاليًا فإنه يواجه مشكلات طارئة لعدة عوامل أهمها تآكل صورة آبي أحمد كقائد إقليمي للسلام، والتقارب الواضح بين قوى الحرية والتغيير والجبهة الثورية السودانية مع المكون العسكري؛ مما يؤشر على اصطفاف شعبي متزايد وراء القيادة العسكرية السودانية، وتقارب القاهرة مع الخرطوم في ملفات عدة.
وتظل قدرة أديس أبابا على استمرار دورها كقوة إقليمية رئيسة في المنطقة دافعًا لدورها في السودان ومساعي اندماجه في النظام الدولي سياسيًا واقتصاديًا. الأمر الذي يمكن ملاحظته في استخفاف إثيوبيا المستمر بما تتوصل له مع حكومة حمدوك لاسيما في مسألة ملف سد النهضة، كما تم في 13 ديسمبر الجاري من اتفاق على استئناف المفاوضات خلال أسبوع وعدم تحقق ذلك([3]).
ما أهم سمات القوى الإثيوبية الناعمة في السياسة السودانية؟
تحظى التجربة الإثيوبية بتقدير فريد في أوساط تيارات ونخب سودانية تصدرت المشهد السياسي بعد سقوط البشير. ويمكن رد ذلك إلى تشابه “تنموي” بين البلدين سواء من جهة الأوضاع القائمة أم المقدرات مستقبلًا؛ وقناعة بقيادة إثيوبيا مشروع تحول القرن الأفريقي؛ والتسليم بالدور الكبير الذي لعبته الأولى في “تسليم السلطة” للمدنيين بعد الثورة.
وقد ألهم ترويج آبي أحمد -منذ وصوله للسلطة- للنموذج الإثيوبي إقليميًا قطاعًا سودانيًا لا يستهان به، لاسيما خصوصية ما اعتبره “ديمقراطية تحولية” في دولة فقيرة، “وتصفيرًا” للمشكلات الداخلية ومع دول الجوار، وإعادة إطلاق التكامل الاقتصادي الإقليمي، ما اعتبره سودانيون فرصة لاستكمال اندماجه بعد عقود من العزلة.
ووصل تأثير قوة إثيوبيا الناعمة إلى الخطاب الرسمي لحكومة حمدوك حيث تكرر مرارًا ضرورة استلهام التجربة “الاقتصادية” الإثيوبية سودانيًا منذ إعلان الأخير في أغسطس 2019 ضرورة تبني تجربة إثيوبيا الرشيدة “التي قادتها لتحقيق أعلى معدل نمو اقتصادي في العالم”، في تحليل اقتصادي متهافت لا يعكس سوى حجم هذا التأثير.
ما أهم آفاق التعاون الاقتصادي السوداني الإثيوبي؟
تطرح إثيوبيا نفسها كقوة اقتصادية رائدة في المنطقة، وشريك اقتصادي نشيط مع قوى دولية وإقليمية مثل الصين والهند وتركيا والإمارات؛ مما يؤهلها لقيادة التكامل الاقتصادي، إضافة إلى سعيها لتوظيف قطاعات كاملة لخدمة هذا الهدف (مثل إنتاج الطاقة الكهرومائية، وتشييد الطرق والسكك الحديدية)، الأمر الذي يمثل فرصًا محتملة للخرطوم.
وتتمثل أدوات التعاون الاقتصادي بين البلدين فيما تطرحه إثيوبيا من دمج السودان في مشروعات البنية الأساسية (الثنائية والإقليمية) مثل خطط مد سكك حديد بين أديس أبابا والخرطوم، وإمداد السودان لاحقًا بكهرباء من سد النهضة بترتيبات ثنائية تفضيلية. بينما يسعى السودان للاستفادة من تجربة إثيوبيا في الزراعة وإقامة المناطق الصناعية.
وفي الوقت الحالي تقف التجارة البينية بين البلدين عند حدود متدنية، وتكتسب سمة النشاط المعيشي المحلي؛ إذ تستقبل المناطق الحدودية السودانية منتجات: السكر وزيت الطعام والقهوة والصابون والعطور خاصة في ولاية النيل الأزرق، ووصلت حصة إثيوبيا من صادرات السودان في العام 2018 نحو 2.5% (تتم عبر ثلاثة معابر حدودية)([4]).
لماذا تضغط إثيوبيا على المكون العسكري؟
تمثل المؤسسة العسكرية السودانية، بمكوناتها غير النظامية، العمود الفقري للدولة، ونجحت إلى حد كبير في إخراج البشير سلميًا من السلطة ثم إدارة تفاعلات المرحلة الانتقالية في مجتمع عرف تاريخيًا بالتنوع السياسي والأيديولوجي. في المقابل عمدت إثيوبيا إلى اختبار استجاباتها بمجموعة من الاستفزازات والمساومات واختبارات القوة.
ربما كان طلب أديس أبابا من السودان غلق حدوده مع إقليم التيجراي قبيل اندلاع المواجهة العسكرية في الأخير أبرز هذه الأمثلة، حيث استجابت السلطات السودانية في بداية الأزمة قبل أن تعيد فتح الحدود تحت ضغط موجة لاجئين تيجرانيين والمطالب الدولية المتكررة([5])، الأمر الذي اعتبرته إثيوبيا عدم امتثال لمطلبها.
وتصاعدت ضغوط إثيوبيا رغم اتفاق حمدوك وآبي أحمد في ديسمبر الجاري على تسوية المشاكل الإقليمية خلال قمة “إيجاد” (منها الحدود بين البلدين)، تلاه بساعات قليلة حادث قتل فيه 4 جنود سودانيين وجرح 12 جنديًا في “كمين نصبته القوات والميليشيات الإثيوبية داخل الأراضي السودانية” (15 ديسمبر)، حسب الجيش السوداني.
وعلى الفور غرد آبي أحمد مدينًا الحادث الذي قامت به “ميليشيا محلية”، وأنه لن يؤثر على “العلاقات التاريخية”، بينما رد رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان بزيارة للقضارف لتفقد قوات الأمن بها (17 ديسمبر)، وواصلت القوات المسلحة السودانية عملياتها لاستعادة أراضي سودانية “متنازع عليها”([6]).
في المحصلة، من الواضح أن أديس أبابا، التي تستضيف عددًا من قادة حركات المعارضة المسلحة لاسيما الناشطة في دارفور وتؤثر على سياسات أخرى في “المنطقتين”، تنظر للقوات المسلحة السودانية كقوة صد ضد ما يمكن وصفه بمشروع احتواء السودان بالكامل واصطفافه خلف السياسات الإثيوبية الإقليمية.
ما هي أدوات المكون العسكري السوداني لمواجهة المقاربة الإثيوبية؟
يملك المكون العسكري السوداني قدرة تفاوضية فائقة وتتزايد رسوخًا في المدة المتبقية من المرحلة الانتقالية بفضل الانفتاح على قوى مدنية، إضافة إلى المضي قدمًا في مسار التحول الاحترافي في أبنية الجيش والمكونات شبه النظامية. أتاح هذا الوضع، مقابل حالة اضطراب إثيوبية، أفضلية للمكون العسكري السوداني في مواجهة سياسات أديس أبابا.
وتتركز أهم أدوات الجيش السوداني في تنويع التعاون العسكري مع القوى التي تملك علاقات تقليدية قوية على مستوى الجيوش، وفي مقدمتها مصر. إضافة إلى توظيف التقارب العسكري مع السعودية، ومع الإمارات، للبناء على الخبرات القتالية التي يتمتع بها الجيش السوداني. إضافة إلى المضي قدمًا في البرنامج المبدئي للتصنيع العسكري مع مصر([7]).
أهم تداعيات العلاقة السودانية الإثيوبية على مصر؟
يمكن رصد أهم تداعيات العلاقات السودانية الإثيوبية، بتشابكاتها المتنوعة، في عدد من الملفات أبرزها:
سد النهضة: حيث يراوح السودان في مواقف متضاربة أحيانًا في هذا الملف، مما يعكس –ربما- غموض عملية صنع القرار السياسي في المرحلة الانتقالية. وتعول مصر بقوة، ضمن استراتيجية مصرية أشمل للتقارب مع دول حوض النيل، على الموقف السوداني وثباته في مواجهة المراوغات الإثيوبية التي يدعمها الاتحاد الأفريقي.
ويجسد حالة الاضطراب هذه إعلان الخرطوم مقاطعتها للمحادثات ذات الصلة، ثم إعلان رئيس الوزراء حمدوك خلال زيارته لأديس أبابا (13 ديسمبر) التوصل لاتفاق مع إثيوبيا لاستئناف المفاوضات (في ظل صمت مصري)، واتفاق الجانبان على منح الاتحاد الأفريقي دور أكبر في المحادثات([8])، الأمر الذي يعبر عن عدم تفهم للموقف المصري.
أمن البحر الأحمر: كان ملف أمن البحر الأحمر من القضايا الشائكة بين القاهرة والخرطوم في السنوات الأخيرة من عهد عمر البشير، ويرجح أن يقود أي تقارب إثيوبي سوداني في سياق سعي إثيوبيا لاستغلال موانئ سودانية إلى تجديد هذا التوتر، أخذًا في الحسبان التعاون العسكري التركي- الإثيوبي.
موقف القوى السياسية السودانية من مصر: شهدت المقاربة المصرية تجاه السودان تحسنًا ملفتًا في الفترة السابقة على صعيد تفهم أكثر لتطلعات الشعب السوداني، وتحاول القاهرة مواصلة هذه الجهود ومد جسور التواصل مع قوى ثورية سودانية طالما عرفت بأنها “راديكالية”، ويمكن أن تتأثر هذه المقاربة، من حيث القوة والانتشار، بنمو النفوذ الإثيوبي وسط قوى سياسية تنظر لمصر بشكوك ربما يرتبط أغلبها بصورة نمطية موروثة، الأمر الذي تمثل في إثارة بعض القوى والأصوات السودانية مسألة “مثلث حلايب” في خضم استعادة القوات السودانية لأراضي تقر إثيوبيا بأنها سودانية.
كيف يمكن أن توازن مصر قدرات السودان التفاوضية في علاقته بإثيوبيا؟
يمكن رصد أهم الأدوات والخطوات في هذا المسار، وبإيجاز شديد على النحو التالي:
تبني القاهرة استراتيجية شاملة تجاه السودان تشمل كافة القوى الفاعلة في المرحلة الانتقالية بقدر الإمكان، وإبداء مرونة أكبر في تفهم مخاوف بعض القطاعات وحساسيتهم إزاء الدور المصري.
حسم ملفات التعاون الاقتصادي الثنائي بين البلدين (مثل مشروع الربط الكهربائي، وتقديم الخبرات الزراعية، وملف التعاون في التصنيع العسكري، وتعزيز التبادل التجاري، وغيرها) في أسرع وقت ممكن للإسهام في تعزيز مصر لقدرات السودان الاقتصادية.
تبني أجندة اجتماعية وثقافية بالتنسيق مع الجهات السودانية المعنية بحيث تعبر عن العلاقة المتبادلة بين الشعبين الشقيقين، وتشمل رؤية واقعية تتفادى الكثير من أوجه القصور السابقة.
شمول التعاون العسكري بين البلدين لملف أمن البحر الأحمر سواء على المستوى الثنائي بينهما، أو ضمن آليات حفظ الأمن الجماعية في البحر الأحمر بالتنسيق مع السعودية لتحديث البحرية السودانية ودورها في امن هذا الإقليم الاستراتيجي بما يخدم المصالح المشتركة.
خلاصة
تشكل العلاقات السودانية الإثيوبية وتطوراتها الراهنة شاغلًا رئيسًا لمصر لتداعياتها المفهومة على عدة ملفات مصيرية، في مقدمتها سد النهضة وأمن البحر الأحمر. كما تمثل مساعي قيادة المرحلة الانتقالية حاليًا للخروج من دائرة النفوذ الإثيوبي فرصة لاستعادة السودان لدوره الإقليمي المهم وتفادي مزيد من تعقيدات المرحلة الانتقالية في ظل وجود إملاءات إثيوبية غير مباشرة على أطراف سودانية تتجاوز حدود الوساطة الإثيوبية.
عن "مركز الإنذار المبكر"