تراجع اتحاد الشغل التونسي: ضغط سلطة أم ضعف منظمة؟

تراجع اتحاد الشغل التونسي: ضغط سلطة أم ضعف منظمة؟

تراجع اتحاد الشغل التونسي: ضغط سلطة أم ضعف منظمة؟


12/02/2024

مختار الدبابي

يكتفي الاتحاد العام التونسي للشغل ببيانات أو تصريحات مقتضبة لتسجيل الحضور، والإيحاء بأنه موجود، ولن يسكت عن الاستهدافات التي تطاله. لكن الأمر لا يتجاوز مجرد التلويح العرضي بما يتناقض مع سطوته القديمة التي لا يكتفي فيها بالبيانات، وإنما يمر مباشرة لتنفيذ تهديداته بالاعتصام والإضراب.

صحيح أن الوضع تغيّر كليا، وأن قوة اتحاد الشغل في السابق لم تكن قوة بداخله وإنما بسبب ضعف الحكومات التي أمسكت البلاد بعد 2011، وخاصة تفكيرها في شراء السلم الاجتماعي بأي ثمن. وهو ما دفعها إلى الاستجابة الفورية لطلبات النقابيين وأوامرهم حتى وإن كانت مكلّفة أو أن ميزانيات الدولة لا تقدر عليها، أو أنها ترهن البلاد لقروض وديون كبيرة ما تزال تعاني منها إلى الآن.

الاتحاد الآن هو نفسه قبل 2011، وما جرى بين 2011 و2021 ليس سوى قوس استعراضي انتهى بانتهاء شروطه الموضوعية.

المثل التونسي "وجد قرية خالية فأقام فيها الأذان" ينطبق على وضع اتحاد الشغل وغيره من المنظمات والجمعيات التي توصف بـ"الأجسام الوسيطة". وقد وجد الجميع حكومات ضعيفة بلا أفق ولا خبرات ترتعش مع أول بيان فيه تهديد أو وعيد، فكان الذي حصل من مزايدات وشعارات وتغيير في الأدوار، حتى أن اتحاد الشغل لم يعد يريد أن يسمع كلاما بشأن الحد من دوره السياسي كأقوى "قوة في البلاد"، كما كان يقول عنه أنصاره لتبرير سطوته على الحياة السياسية والاجتماعية.

لم يكن المسار الذي اعتمده قيس سعيد في تعامله مع اتحاد الشغل هادفا لتحجيم دوره، ولا التشكيك في حجمه ونفوذه بين منخرطيه. كل ما قام به الرئيس التونسي أنه صوّب علاقة أكبر نقابة في البلاد مع الدولة، وبدلا من الحوار مع الاتحاد حول مسائل سياسية ليست من دوره، تم توجيه الحكومة لأن تتحاور معه في التفاصيل الاجتماعية التي تهم منتسبيه وتحسين أوضاعهم حسب إمكانيات البلاد وقدراتها.

أوحى الاتحاد بأن له فضلا في نجاح "مسار 25 يوليو" 2021، وحمل على ما أسماه بـ"العشرية السوداء" التي كان طرفا فاعلا ومؤثرا أول فيها من أجل تغيير المركب والحصول على الحظوة التي كان يتمتع بها. لكن قيس سعيد لم يستمع لاستعراض الاتحاد عن "خارطة الطريق"، ولا عن رفض مسار التفاوض مع صندوق النقد الدولي، حتى وإن كان يلتقي في ذلك مع الرئيس التونسي.

ولم تفض لقاءات محدودة بين الرئيس سعيد وقيادة الاتحاد، وخاصة أمينه العام نورالدين الطبوبي، إلى تغيير قناعة قيس سعيد بأن الاتحاد منظمة وطنية مهمة، ولكن عليه أن يلزم حدوده ودوره. ومع الوقت، تراجعت شعارات الاتحاد وتصريحاته الهادفة إلى لفت النظر إلى أن المنظمة موجودة وقوية ولا تحتاج لاعتراف من أحد. وبات الاتحاد يتكلم في مناسبات محدودة وبكلام يتجنب فيه اللبس والغموض، حتى لا يجد نفسه في مواجهة مع رئيس بدا أنه لا يهتم للاستعراضات الكلامية.

ولوّح الطبوبي في أغسطس الماضي، بالتصعيد مع بداية الموسم السياسي الجديد (مع عودة المدارس والجامعات ونهاية فترة العطل للموظفين في سبتمبر وأكتوبر)، معلنا أنه سيسلك مسار "النضال السلمي والمدني"، وأنه "لن يكون شاهد زور"، حاثا على "الحوار الوطني". لكن ذلك لم يحصل منه شيء، ولم يتحرك الاتحاد، ولم يضغط على السلطة مع بداية الموسم السياسي ولا بعده، قبل الانتخابات ولا بعدها، ما يؤكد أن تلك التصريحات هي أقرب إلى التنفيس منها لأي شيء آخر.

وفي ظل الحراك الذي يجري حاليا بين الاتحاد والسلطة على هامش توقيف أحد القيادات (الكاتب العام الجهوي للاتحاد في ولاية القصرين)، دعا الاتحاد أعوان الوظيفة العمومية والقطاع العام إلى تجمّع عمالي يوم السبت 2 مارس بساحة الحكومة بالقصبة، وذلك احتجاجا على ما اعتبره، "تعطّلا للحوار الاجتماعي وتراجعا من الحكومة في تطبيق اتفاقيتي 6 فبراير 2021 و15 سبتمبر 2022، وضربا للحق النقابي ودفاعا عن استحقاقات الشغالين".

والرسالة هنا واضحة، وهي أن الاتحاد ما تزال لديه ورقة يمكن أن يلعبها في أي وقت، هي ورقة الإضرابات في القطاع العام. وهي الورقة التي فرضته "أقوى قوة في البلاد" على الحكومات السابقة. لكن السؤال هنا: هل سيقدر الاتحاد على تحشيد الموظفين وراءه للضغط على السلطة من بوابة حقوقهم الاجتماعية لتحقيق هدف سياسي بامتياز، والتأكيد للسلطة على أنه ما يزال قويا ومتماسكا، وأن ما بدا من ضعف لديه ليس سوى استنتاج مضلل، وأن الاتحاد لم ينته، كما يروج مقربون من السلطة؟

وبين فترة وأخرى، يظهر الأمين العام المساعد للاتحاد سامي الطاهري ليشير إلى أن المنظمة النقابية الأكبر ستبقى "صخرة صمّاء ضد كيد الكائدين"، وأنهم (في إشارة إلى السلطة السياسية) "هم بدأوا معركة ضد المنظمة.. يريدونها راكعة ولن تركع، ويريدونها خاضعة ولن تخضع".

ويتوقع أن يحافظ قادة الاتحاد على شعرة معاوية، وأن يكتفوا بتصريحات عامة تصعيدية من دون أن ينزلوا بها إلى أرض الواقع، لأنهم لن يجدوا من ينفذها، وإذا نفذت فستظهر الاتحاد في موقع ضعيف ومحدود التأثير، خاصة أن الجمهور الكبير الذي كان ينفّذ الدعوات إلى الإضراب بسرعة ونسب عالية لا تقل عن الـ90 في المئة، لم يعد موجودا، بما في ذلك جمهور الموظفين الذي ركب قاطرة الاتحاد ليراكم المكاسب.

الوضع الآن اختلف، فالإضرابات والاعتصامات لم تعد مجانية، وهي بدل أن تجلب المكاسب قد تقود إلى الخسارة، بما في ذلك خسارة الوظيفة المريحة في القطاع العام. وقد تقود صاحبها إلى القضاء، في ظل مرسوم 54 الذي بات يحدّ من الاستعراضات الكلامية للموظفين على مواقع التواصل.

تتجه السلطة الآن إلى سحب أهم الأوراق التي يستفيد منها اتحاد الشغل لتقوية نفوذه بين النقابيين، وهي ورقة التفرغ النقابي، التي تمنح للقيادات الوسطى والكبرى، بما يمكنها من التفرغ للاجتماعات التعبوية واستقطاب الأنصار، ويمنحها امتيازات.

ويعني التفرغ النقابي أن يترك النقابي عمله الحكومي ويتفرغ لدوره النقابي، وأن تستمر الدولة في تمكينه من راتبه وتضيف إليه الزيادات والعلاوات التي يحصل عليها زملاؤه في المهنة التي ينتمي إليها.

وفيما يرى البعض أن التفرغ النقابي هو نوع من الفساد الذي تواطأت عليه الحكومات السابقة واتحاد الشغل لأنه يجيز تسليم أموال الدولة لمن لا يستحق، فإن سامي الطاهري لا يرى مبررا لطرح هذه القضية وكأنها سابقة ولا تحتاج إلى نقاشات.

واعتبر الطاهري في تصريحات لإذاعة موزاييك التونسية أن "الغاية من الأخبار المتداولة بخصوص توجه الحكومة نحو إلغاء إجراء التفرغ النقابي هي الضغط على اتحاد الشغل وخلق رأي عام مضاد للمنظمة الشغيلة".

وقال إن إثارة القضية هي "وسيلة تعتمد من كل الحكومات لتحجيم الاتحاد، كلما وقع خلاف حول الترفيع في الأجور أو العديد من المطالب النقابية الأخرى". فهل يقدر الاتحاد على مواجهة هذا الاستهداف الصامت أم يستمر  في التعامل معه كأمر واقع لتجنب أي صدام مع السلطة؟

عن "العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية