تاريخ الإخوان: هل كان حسن البنا قائد ثورة 1919؟(6)

تاريخ الإخوان: هل كان حسن البنا قائد ثورة 1919؟(6)

تاريخ الإخوان: هل كان حسن البنا قائد ثورة 1919؟(6)


31/10/2023

نشأت جماعة الإخوان في نهاية العقد الثالث من القرن العشرين، في حقبة تعدّ من أزهى الحقبات التي عرفتها مصر، رغم ما واكبها من ظروف سياسية صعبة تعود إلى وجود الاحتلال البريطاني في مصر، وانشغال الحركة الوطنية المصرية بمقاومة المحتل والسعي لنيل الاستقلال.

 بدت تلك القوى الوطنية محشورة بين مطرقة الاحتلال وسندان القصر الحاكم، بالتالي، لم تكن في حاجة إلى تحدٍّ جديد يفاقم معاناتها المركبة ويصعّب مهمّتها في نيل الاستقلال وإنجاز إصلاح سياسيّ واقتصاديّ واجتماعيّ، يمكّنها من النهوض بالدولة المصرية الناشئة وصياغة مشروع وطنيّ يمهّد الطريق لدولة فتية تليق بتاريخ تليد وإمكانات جبارة.

إقرأ أيضاً: تاريخ الإخوان كما كتبوه: قراءة بين السطور(1)

 لكنّ الإخوان أبوا إلا أن يكونوا هذا التحدّي الكبير للحركة الوطنية وتطلعات الشعب المصري، ليوزعوا ولاءهم بين قصر الحكم تارة وسفارة المحتل تارة أخرى، ليحولوا بين القوى الوطنية وتلك المهمَّة المقدسة الجلاء والاستقلال.

ثورة 1919 لم تكن ثورة إسلامية تمهّد لظهور تنظيم الإخوان، وأنها خرجت من المساجد باعثها ومحركها الإسلام؛ بل كانت ثورة وطنية أشعلها المصريون، على اختلاف دياناتهم

وقد قلنا فيما سبق؛ إنّ مصر لم تكن خراباً يباباً قبل ظهور الإخوان، كما حاولوا هم أن يصوّروا في أدبياتهم المعنية بالتأريخ لمرحلة النشأة والتأسيس، لكنّهم، (وعبر الكتاب الذي أعدته لجنة من منسوبي الجماعة، من أساتذة أقسام التاريخ بالجامعات المصرية، وحمل عنوان "أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين" بتوقيع عضو مكتب الإرشاد جمعة أمين عبدالعزيز)، وباستخدام المنهج نفسه، يواصلون تزييف وعي أفرادهم عبر الإساءة لتاريخ مصر في تلك الحقبة، يقول كاتبهم: "مع مطلع القرن العشرين، كانت مصر ترزح تحت قيود الاحتلال البريطاني، الذي كان يجثم فوق ربوع البلاد ويتحكّم في مصير العباد، ويأمر وينهى وعلى الشعب المصري السمع والطاعة، إلا أنّ أحداثاً جساماً نشأت في مصر خلال الربع الأول من القرن العشرين، أثّرت في مسيرة العمل السياسي من وجهة نظرهم، فما هي تلك الأحداث؟

إقرأ أيضاً: تاريخ الإخوان كما كتبوه: الاستسلام للوهم (2)

الحدث الأول والأهم كان ثورة الشعب المصري عام 1919، تلك الثورة التي كانت تجسيداً لروح الشعب المصري بكلّ مواطنيه، مسلمين وأقباطاً، فكيف نظر الإخوان إلى تلك الثورة؟

 يقولون: "ونلحظ أنّ الشعب ما قام بالثورة عام 1919، إلا لإحساسه بالضياع، وقد وجد فيها تحقيقاً لذاته وتعبيراً عن نفسه ووجوده، وكأنّه أراد أن يحسّ بإنسانيته بإظهار إرادته، ثمّ ثار هذا الشعب ولم يطالب بالخبز وهو جائع، ولا بإلغاء ملكية الأراضي الزراعية وهو لا يكاد يملك منها شيئاً، ولم يطالب بإلغاء الألقاب والقضاء على البكوات والباشوات، بل كانت ثورته تعبيراً عن صادق شعوره ورفضه الاستعمار، وكان مخلصاً في مطالبته بالاستقلال، وإن لم يفكر أو يتصور ماذا سيكون شأنه بعد الاستقلال، بل ولم يرسم لنفسه صورة ولو باهتة لهذا الوطن في ظلّ الاستقلال "نلحظ أنّ الصياغة المراوغة كالعادة والكاشفة لمنهج الإخوان وطريقتهم التي لا تودّ أن تهاجم ثورة الشعب ورموزها مباشرة؛ بل تمهّد بالحديث عن عدالة القضية والإخلاص في محاولة نيل الاستقلال، لكن دون أن تنسى اللمز في الثورة بدعوى غياب برنامج سياسي لها، رغم أنّ حزب الوفد وغيره من الأحزاب كانت أحزاباً صاحبة تجربة سياسية في الحكم ولديها برامجها السياسية وانحيازاتها أيضاً، مقارنة بالإخوان الذين لم يراكموا لا خبرة في الحكم ولا برامج سياسية تصلح للواقع، ولم يتحفوا العامة سوى بشعارات سقطت مع أول تجربة حكم، ورغم أنّ مؤرّخهم يؤكد أنّ تطلعات الشعب لم تكن تتعلق بمطالب اقتصادية، لكنّها تلخّصت في السعي لنيل الحرية؛ فماذا كان موقع الحرية في أدبيات الجماعة؟ وكيف كانت تنظر لحرية هذا الشعب ولشكل الديمقراطية التي يحلم بها؟

ينتقل مؤرخ الجماعة من اللمز الخفي والمبطن في نقد الثورة إلى النقد الصريح دون مواربة فيقول: "ورغم أنّ الثورة لم تطالب بالإسلام نظاماً شاملاً للحياة، ولم يكن في فكر مشعليها أو المشتركين فيها أن يشيعوا بينهم الإسلام منهاجاً وفكرة وشريعة، وترسي للناس قواعد وأسس معاملاتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقيمية الفكرية، مستمدة من منهاج السماء الخالد، ومع ذلك كان الإسلام حياً في القلوب، متحركاً في العقول، مستتراً في الضمير، وكان الثوار يرون أنّ مَن قُتل في الثورة برصاص الإنجليز أو السلطة الحاكمة فهو شهيد له جنات الخلد عند ربّه، واقترنت الثورة بالمسجد وخرجت المظاهرات من الأزهر وهو رمز الإسلام ومعهده آنذاك".

يروي مؤرخ الإخوان: ولمّا اندلعت نار الثورة الوطنية عام 1919، كان حسن البنا في سنّ الحداثة وطور المراهقة، كان عمره 12 عاماً، عمر يتفتح المرء فيه بكلّ مواهبه للحياة

تأمل الفقرة السابقة لتجد أنّها انطوت على العديد من التخليط والتدليس، والرغبة في تقسيم الشعب على أساس الدين، وزرع بذور الشقاق بين أبناء الوطن الواحد؛ فثورة 1919 لم تكن ثورة إسلامية تمهّد لظهور تنظيم الإخوان، وأنها خرجت من المساجد باعثها ومحركها الإسلام؛ بل كانت ثورة وطنية أشعلها المصريون، على اختلاف دياناتهم، سعوا من خلالها لتحرير وطنهم وبناء دولة وطنية حديثة، ثورة خطب فيها القمص سرجيوس الذي سمّي بخطيب ثورة 1919 من على منبر الأزهر، وخطب الأئمة بالمقابل من قلب الكنائس المصرية، وخرج الشيخ المعمَّم من الأزهر متـأبطاً ذراع أخيه القسّ يقودان المظاهرات معاً، كانت كلّ تلك المظاهر انعكاساً لروح دولة وطنية تنهض على قاعدة المواطنة، تنظر لمواطنيها بعين واحدة وترفع لواء القانون، لم تتسربل برداء ديني أو طائفي، لكنَّ الإخوان، الذين كانوا أول شوكة في خاصرة تلك الدولة الوطنية، يريدون تزييف التاريخ بتحويلها إلى تباشير ثورة دينية تنتظر قدومهم السعيد، ليقودوا الشعب نحو ما عدّوه هدفاً صحيحاً، وهو تحكيم الشريعة، التي لا يقفون هم أنفسهم ولا غيرهم من أرباب الهوس الديني على تفسير محدد واحد لها. 

إقرأ أيضاً: تاريخ الإخوان كما كتبوه: أمنيات أن يكون البنا كهتلر (3)

يواصل الإخوان تدليسهم على الشعب المصري وعلى التاريخ فيصنعون لحسن البنا تاريخاً متصلاً بثورة 1919، وهو المولود قبل الثورة بـ 12 عاماً فقط، فيقولون: "ولمّا اندلعت نار الثورة الوطنية عام 1919، فشملت أنحاء الوادي، كان حسن البنا في سنّ الحداثة وطور المراهقة، كان عمره 12 عاماً و4 أشهر وعدة أيام، عمر يتفتح المرء فيه بكلّ مواهبه للحياة وتتفتح الحياة فيه كذلك بكل آفاقها وقواها، فأراد الله أن تلتقي الثورتان؛ ثورة الفتوة والشباب وثورة الوطنية والحرية، في قلب هذا الفتى النابه المتدين بفطرته وبنشأته وثقافته".

حديث عن روح وطنية لدى الفتى يبرهنون عليها بما حكاه في مذكراته: "وكنت رغم انشغالي بالتصوّف والتعبّد، أعتقد أنّ الخدمة الوطنية جهاد مفروض لا مناص منه، فكنت، بحسب هذه العقيدة، وبحسب وضعي بين الطلاب؛ إذ كنت متقدماً عليهم، ملزماً بأن أقوم بدور بارز في هذه الحركات وكذلك كان..".

ونحن نسأل بدورنا: ما هو الدور الذي قام به هذا الفتى في ثورة 1919؟ وما هي تلك المكانة أو الوضع الذي يتحدث هو عنه بين الطلاب؟ هل كان رئيس اتحاد طلاب الجمهورية الذي يقود ثورة الطلبة مساندة لثورة 1919؟ هل أسّس حركة في هذه السنّ لنصرة الثورة وتمكين مبادئها، أم أسس لاحقاً حركة لهدم مشروع تلك الثورة في دولة ليبرالية مدنية حديثة، وساهم، بوعي أو دون وعي، في إنهاء حلم قيام تلك الدولة ولأمد طويل؟

إقرأ أيضاً: تاريخ الإخوان كما كتبوه: نور بدّدته ظلمة الجماعة (4)

ما يحاول البنا ورفاقه قوله: إنّ تلك الثورة شكّلت وعي البنا، يقولون: "لهذا يرى البعض أنّ تلك الثورة المصرية ساعدت في نموّ الجانب السياسي والحسّ الوطني عند الإمام البنا في سنّ مبكرة، وهكذا كان البنا منذ حداثته، سياسياً مخلصاً وطنياً بارزاً بين أقرانه، مما يوحي بالدور الكبير الذي ينتظره والمهمة الكبرى التي تناديه".

عرفنا لاحقاً تلك المهمة الكبرى التي تناديه!!

كان من محاولات الإنجليز احتواء غضب الشارع المصري، إرسال لجنة لمعالجة آثار الثورة، برئاسة اللورد ألفريد ملنر، وزير المستعمرات، وإثر تأليف تلك اللجنة عمَّت المظاهرات الاحتجاجية أرجاء مصر، بعد قضاء تلك اللجنة أكثر من ثلاثة أشهر في مصر أعقبها عامان من المفاوضات والمناورات والخدع البريطانية، التي انتهت بإعلان بريطانيا استقلالاً اسمياً لمصر، عبر تصريح 28 شباط (فبراير) 1922، مع أربعة تحفّظات أعطتها إنجلترا لنفسها، ما وصفه سعد زغلول بأنّه أكبر نكبة على البلاد؛ حيث لم يتكافأ هذا الموقف مع تضحيات الشعب المصري.

ووسط هذه الأجواء المشتعلة يبرز الإخوان دوراً مهمّاً لزعيمهم حسن البنا، فيقولون دون خجل أو وجل عن مشاركته في تلك الثورة: "ومن مظاهر هذه المشاركة أنّ الإمام البنا كتب قصيدة شعر طويلة في هذا الصدد كان مطلعها:

  يا ملنر ارجع ثم سَلْ                                                   وفداً بباريس أقام

 وارجع لقومك قُلْ لهم                                                لا تخدعوهم يا لئام

ويبدو أنّ ملنر تأثّر بتلك القصيدة أكثر مما تأثر بثورة الشارع المصري العارمة، فعاد لبلاده خوفاً ووجلاً مما أحدثته في نفوس الشعب من حماسة، فاقت تأثير خطب قائد الثورة سعد زغلول! وشرّ البلية ما يضحك.

إقرأ أيضاً: تاريخ الإخوان كما كتبوه: كلّ الطرق تؤدّي للجماعة (5)

بدأت في مصر في أعقاب هذا التصريح معركة إنجاز الدستور، التي كانت مشهداً وطنياً مهماً في تاريخ مصر؛ حيث تعرض هذا الدستور بعد إنجازه واعتباره منجزاً وطنياً كبيراً وأساساً لدولة فتية الى ثلاث محطات من التعطيل، كانت الأولى في 23 آذار (مارس) 1925 واستمرت حتى أيار (مايو) 1926، وكانت الثانية في 19 تموز (يوليو) 1928 حتى أصدر الملك فؤاد، تحت ضغط شعبي كبير، أمراً ملكياً بعودة العمل بالدستور، في 21 تشرين الأول (أكتوبر) 1929، بينما كانت المرة الثالثة عندما ألغى دستور 23 كلياً، ووضع دستوراً جديداً عام 1930.

وقد استمر العمل بدستور 1930 خمس سنوات، لم تهدأ فيها ثورة الشعب المصري حتى رضخ الملك وأعاد الدستور للعمل، في 12 كانون الأول (ديسمبر) 1935، فأين كانت جهود الجماعة في تلك المعركة؟

هذا ما سنستعرضه في حلقتنا القادمة، بحول الله.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية