
علي أسمر
في تطور سياسي بارز، تأتي زيارة رئيس الجمهورية السورية للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع إلى أنقرة بدعوة رسمية من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كإشارة واضحة إلى بدء مرحلة جديدة من العلاقات بين سوريا وتركيا بعد انهيار النظام السابق، هذه الزيارة تحمل في طياتها أبعادا إستراتيجية تتجاوز اللقاءات الدبلوماسية البروتوكولية، إذ تمثل خطوة محورية في إعادة تشكيل الخارطة السياسية، الاقتصادية، والأمنية في المنطقة.
إعادة رسم المشهد السياسي
من الواضح أن المحور السياسي كان في صميم المحادثات بين الجانبين، إذ تهدف هذه الزيارة إلى تعزيز الاعتراف الدولي بالحكومة السورية الجديدة، وضمان دعم إقليمي قوي يساعدها في فرض سيادتها واستكمال عملية إعادة بناء الدولة. تركيا التي لطالما كانت لاعبا أساسيا في الملف السوري تدرك أن استقرار سوريا يصب في مصلحتها الأمنية والسياسية والاقتصادية، وهو ما يدفعها إلى توثيق علاقتها بالحكومة الانتقالية والعمل على خارطة طريق تضمن انتقالا سلسا للسلطة.
كما أن التفاهم السياسي بين الطرفين قد يؤدي إلى تشكيل تحالفات إقليمية جديدة تعيد ترتيب موازين القوى في المنطقة، خصوصا أن هذه الزيارة تتزامن مع متغيرات دولية وإقليمية تستوجب تنسيقا عالي المستوى بين أنقرة ودمشق.
البعد الاقتصادي
في ظل الدمار الذي لحق بالاقتصاد السوري، يشكل الجانب الاقتصادي إحدى أبرز أولويات المرحلة الانتقالية، حيث تسعى الحكومة السورية الجديدة إلى جذب الاستثمارات الخارجية لإنعاش القطاعات الحيوية مثل البنية التحتية، الطاقة، والصناعة، وهنا تأتي تركيا كأحد أبرز المرشحين للمشاركة في عملية إعادة الإعمار، خاصة مع وجود روابط اقتصادية وتجارية تاريخية بين البلدين.
تركيا، التي تمتلك خبرة واسعة في مجالات البناء وإعادة الإعمار، قد تجد في سوريا الجديدة فرصة اقتصادية هائلة، خاصة إذا تم تسهيل التجارة وفتح المعابر بين البلدين، هذه الخطوة لن تعود بالفائدة على الاقتصاد السوري فحسب، بل ستعزز كذلك من مكانة تركيا كفاعل اقتصادي إقليمي قادر على لعب دور محوري في إعادة بناء المنطقة.
التعاون الأمني والعسكري
على الصعيد الأمني والعسكري، تأتي هذه الزيارة في وقت حساس يتطلب تعاونا وثيقا بين الطرفين لضبط الحدود المشتركة ومنع أي تهديدات قد تعرقل مسار المرحلة الانتقالية، أحد التحديات الكبرى التي تواجه الحكومة الجديدة هي التعامل مع الفلول المتبقية للنظام السابق، وكذلك مع الجماعات المسلحة التي قد تحاول استغلال الفراغ السياسي والأمني.
تركيا تمتلك خبرة في التعامل مع هذه التحديات، وستكون شريكا رئيسيا في تدريب وتأهيل الجيش السوري الجديد لضمان تحقيق الاستقرار الداخلي، إضافة إلى ذلك، فإن مسألة شرق الفرات والخروقات الإسرائيلية ستكون أيضا ضمن أولويات المحادثات، إذ تسعى دمشق الجديدة إلى فرض سيادتها على كامل التراب السوري بالتعاون مع حلفائها الإقليميين.
الملف الأهم في هذه الزيارة هو ملف شرق الفرات وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) الذي يشكل إحدى أكثر القضايا حساسية في العلاقات التركية – السورية، فأنقرة تنظر إلى “قسد” كامتداد لحزب العمال الكردستاني الذي تعتبره تنظيما إرهابيا، وهو ما يجعل هذا الملف محورا أساسيا في المباحثات بين الجانبين.
تسعى الحكومة السورية الجديدة إلى استعادة سيادتها الكاملة على شرق الفرات، وهي منطقة غنية بالموارد النفطية والمائية وتشكل نقطة إستراتيجية رئيسية. الدعم التركي للحكومة الانتقالية قد يكون عنصرا مهما في تقويض نفوذ “قسد” في هذه المنطقة، خاصة مع تزايد الضغوط الدولية على الجماعة بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان ومحاولاتها فرض أجندة انفصالية.
من جهة أخرى، تحتاج دمشق الجديدة إلى معالجة هذا الملف بحذر لضمان عدم اندلاع صراعات جديدة تؤثر على الاستقرار العام للبلاد. من المتوقع أن تعمل تركيا وسوريا معا على خطة تدريجية لاستعادة السيطرة على شرق الفرات، تشمل تعاونا أمنيا وعسكريا، ودعما محليا للقبائل العربية الرافضة لوجود “قسد”.
كذلك، سيكون من الضروري وضع آلية لضمان عدم وجود فراغ أمني قد تستغله جماعات متطرفة مثل داعش، وهو ما يستوجب تنسيقا استخباراتيا عالي المستوى بين أنقرة ودمشق.
المنصات متعددة الأطراف
لا يمكن للحكومة السورية الانتقالية أن تستعيد مكانتها الإقليمية والدولية دون دعم المجتمع الدولي، وهنا يأتي دور المنصات متعددة الأطراف التي من شأنها تسهيل عملية الاعتراف بالحكومة الجديدة، وإلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا منذ عقود.
تركيا، التي تمتلك علاقات قوية مع الاتحاد الأوروبي ودول الخليج، يمكن أن تلعب دور الوسيط لتأمين دعم دولي أوسع للحكومة السورية الجديدة. فمن خلال تنسيق الجهود بين أنقرة ودمشق، يمكن الضغط على المجتمع الدولي لإعادة سوريا إلى المحافل الدولية وإشراكها في القرارات الإقليمية التي تخص مستقبلها السياسي والاقتصادي.
وبعد لقاء ثنائي مغلق استمر لساعات، عُقد في أنقرة مؤتمر صحفي مشترك بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع، في أول لقاء رسمي رفيع المستوى بين الطرفين. بعد سقوط النظام السوري السابق حمل هذا اللقاء رسائل واضحة حول مستقبل العلاقات الثنائية، وأكد على توجه جديد قد ينقل التعاون بين البلدين إلى مستوى إستراتيجي غير مسبوق.
أردوغان، في تصريحاته، أكد أن تركيا ملتزمة باحترام وحدة الأراضي السورية وسيادة الدولة السورية، مشيرا إلى أن تحقيق السلام والاستقرار في سوريا يتطلب تحركات مشتركة ضد التنظيمات الإرهابية، وأوضح أن بلاده ستعمل على تطوير التعاون مع سوريا، ورفع العلاقات إلى مستوى إستراتيجي يشمل التنسيق الأمني والعسكري والاقتصادي. كما أكد على استمرار الدعم التركي للشعب السوري، مشيرا إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد تكثيف اللقاءات بين المسؤولين الأتراك والسوريين لتعزيز التعاون المشترك.
إحدى القضايا الرئيسية التي تناولها أردوغان في حديثه كانت ضرورة تأسيس منطقة خالية من الإرهاب بالتعاون مع دمشق، حيث أبدى استعداد تركيا لتقديم الدعم في مواجهة التنظيمات الإرهابية التي تهدد الأمن القومي للبلدين. كما شدد على أهمية وجود إدارة سورية تعكس إرادة الشعب السوري، مؤكدا أن تحقيق الاستقرار الاقتصادي سيكون من أولويات المرحلة القادمة، وأن العقوبات الدولية المفروضة على سوريا تشكل عائقا أمام عملية إعادة الإعمار، وهو ملف تبذل أنقرة جهودا لتخفيف تبعاته عبر تواصلها مع الأطراف الدولية.
من جهته، أكد أحمد الشرع أن الشعب السوري لن ينسى موقف تركيا الداعم له خلال الفترات العصيبة، مشددا على أن العلاقات بين البلدين راسخة بحكم التاريخ والجغرافيا، وأعرب عن تقديره لمساعي الرئيس أردوغان لإنجاح المرحلة الانتقالية في سوريا، معتبرا أن التقارب التركي – السوري يمثل ركيزة أساسية في استعادة الاستقرار، خاصة في ظل التحديات الأمنية والسياسية القائمة. كما أشار إلى أن سوريا حريصة على تحويل العلاقة مع تركيا إلى شراكة إستراتيجية شاملة، تشمل تعزيز التبادل التجاري وإعادة الإعمار، بما يساهم في إعادة بناء الاقتصاد السوري المنهك.
وفي إطار الحديث عن التحديات التي تواجه سوريا، أشار الشرع إلى أن اللقاء مع أردوغان تناول بالتفصيل التهديدات التي تستهدف وحدة الأراضي السورية، لاسيما في شمال شرق البلاد، حيث تنشط قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، واعتبر أن التعاون الوثيق مع تركيا سيكون عاملا رئيسيا في إنهاء هذه التهديدات، وإعادة فرض السيادة السورية على كامل أراضيها.
اللافت في هذا المؤتمر الصحفي كان إعلان الشرع عن توجيه دعوة رسمية للرئيس التركي لزيارة دمشق، وهي خطوة تحمل دلالات سياسية كبيرة، وتعكس رغبة دمشق في ترسيخ العلاقات مع أنقرة، وربما بناء تحالف إستراتيجي مستقبلي. في حال تم تنفيذ هذه الزيارة، فإنها ستكون نقطة تحول فارقة في موازين القوى بالمنطقة، وستفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التعاون بين البلدين.
من الواضح أن التطورات في سوريا، إلى جانب الحسابات الإقليمية والدولية، تدفع كلا من تركيا والإدارة السورية الانتقالية إلى إعادة تقييم سياساتهما. ورغم التصريحات الإيجابية يظل التساؤل الأبرز: هل يمثل هذا التحول بداية لعلاقة إستراتيجية طويلة الأمد، أم أنه مجرد خطوة تكتيكية تفرضها التحديات الراهنة؟ الأيام المقبلة وحدها كفيلة بالإجابة على هذا السؤال.
العرب