بين الإخوان والثقافة والفن في أول الشباب

بين الإخوان والثقافة والفن في أول الشباب

بين الإخوان والثقافة والفن في أول الشباب


09/07/2025

محمد أبو الغار

فى مدرسة الإبراهيمية الثانوية وكان عمرى ١٣ عامًا، سألنى أحد الطلاب فى الفسحة: لماذا لم أحضر للصلاة معهم؟. واستمر هذا الطالب يكرر الطلب، حتى ذهبت فى الفسحة وأديت الصلاة مع حوالى عشرة طلاب، وطلب منى أن أجلس دقائق ثم قال إننا سوف نكوّن خلية من ٥ أفراد نتجمع ونتناقش، وغادرت وليس فى نيتى العودة.

حدثت بعدها أحداث جسام بين الإخوان المسلمين ونظام الثورة وتم القبض على زعمائهم، وبعد بضعة أيام وكنت على السلم متجهًا إلى الحوش وضع تلميذ ورقة فى جيبى واختفى بسرعة. وذهبت إلى دورة المياه وأخرجت الورقة، فوجدت منشورًا من الإخوان، مزقته. ومن يومها لم تحدث محاولات أخرى لضمى.

فى حياتى الجامعية كان لى نشاط مجتمعى وثقافى ورياضى. تقاطعت حياتى مع مجموعات من الإخوان فى كل مرحلة وكان الخلاف واضحًا والمواقف مختلفة بيننا، ولكن لم تحدث أبدًا خناقة أو تراشق بالألفاظ، بل كان الاختلاف باحترام.

وحيث إن الكثير من الإخوان فى السجون الآن، فلا أريد الخوض فى الأسباب الجوهرية لخلافى معهم، ولكنى أذكر حادثة قد تبدو فكاهية. كان هناك احتفال أيام ثورة ٢٥ يناير فى خيمة كبيرة يحضره جميع أطياف العمل السياسى، وخرجت من القاعة لأشم شوية هواء فوجدت مجموعة تتحدث فى الهواء الطلق، منهم أحد أهم كبار زعماء الإخوان، وحكيت للزعيم الإخوانى ما حدث لى حين كان عمرى ١٣ عامًا وكيف حاول الإخوان تجنيدى وفشلوا، وكنت أحكيها كنكتة، ففوجئت بالقائد الإخوانى الكبير يأخذ الموضوع بجدية شديدة قائلًا إن الإخوان عندهم بُعد نظر وقدرة على اختيار القيادات المستقبلية، ولو كانت الظروف السياسية سمحت لكنت أصبحت نجمًا الآن فى مكتب الإرشاد. وقال إننى خسرت الكثير بعدم انضمامى. وأجبته بأن أفكارى مختلفة تمامًا عن الإخوان، فسأل: ما وجه الاختلاف؟، فقلت إننى أحب التفكير المستقل وموضوع الطاعة العميانى لا ينفع معى. فقال: لقد خرجت عن طوعنا بسبب الظروف السياسية، فقلت أنا لم أدخل أبدًا فى طوعكم. وضحك الجميع. وفى فترة الجامعة انضم الكثير من الشباب لجماعة الإخوان، وانضمت الأغلبية إلى منظمة الشباب الاشتراكى وبقى قلة أنتمى لهم لا يجدون تنظيمًا يعبر عن أفكارهم وهى: الحرية والديمقراطية الاجتماعية والاهتمام بالثقافة بجميع جوانبها.

وجدت جانبًا من ذلك فى بيتنا. كان أبى مديرًا لبنك، وأيامها لم يكن مديرو البنوك مليونيرات بل كانوا ينتمون إلى شريحة عليا فى الطبقة الوسطى. تخرّج فى مدرسة التجارة العليا (كلية التجارة) وكان يعمل ويتحدث ويلقى محاضرات لموظفى البنوك الأفارقة بالإنجليزية والفرنسية، وهو ابن مدرسة المساعى المشكورة بشبين الكوم ولم يدخل مدرسة أجنبية.. يعطينا ذلك فكرة عن مستوى التعليم، كان أبى مثقفًا عامًا يقرأ الصحف والمجلات المختلفة، وأيضا بعض الكتب، ولكن لم يكن موسوعيًا فى قراءة الأدب والتاريخ. وكان مشغولًا بالعمل طوال الوقت.

أمى تعلمت تعليمًا متوسطًا، ولم تكن تعمل ولا تجيد لغات، لكنها تعلمت العزف على البيانو وقراءة النوتة الموسيقية على يد مدرس إيطالى، وكانت تعزف يوميًا ونلتف حولها، وتعلمت الخياطة بالباترونات على مستوى عال من مدرسة يونانية، فكانت تُفصّل أعظم الفساتين، وكانت تقرأ الروايات. وكانت العائلة تذهب إلى السينما والمسرح بانتظام شديد.

أيام المدرسة، بدأت القراءة من مكتبة أبى الصغيرة وكانت أول رواية أقرأها هى «يوميات نائب فى الأرياف» لتوفيق الحكيم، وكنت أقرأ الصحف والمجلات التى كانت تحوى مادة ثقافية، وكان والدى يقابل أصدقاءه يوم الجمعة فى كازينو أوبرا فى ميدان الأوبرا. وكنت أذهب معه وأتركه مع أصدقائه وأنزل إلى الشارع وأعبر إلى سور الأزبكية الذى كان عامرًا بالكتب القديمة والمستعملة وكانت أسعارها زهيدة ولا تتجاوز الكتب التى كنت أريد قراءتها ٥ إلى ١٠ قروش.

وحين كان عمرى ١٦ عامًا فى بداية دراستى للطب تتلمذنا على يد د. حسين فوزى المثقف الموسوعى والفنان المتذوق للموسيقى، وكان مسؤولًا ثقافيًا فى مبنى الفنون الذى احتل قصر هدى شعراوى حيث تلقينا على يديه تذوق الموسيقى العالمية والفن التشكيلى العالمى والأفكار الحديثة فى الدنيا وطريقة الحياة الأوروبية، ونمط الحياة. قرأت «سندبادات» حسين فوزى فى مرحلة لاحقة.

الشخص الآخر الذى أثر فىّ تأثيرًا ضخمًا بالرغم من أننى لم أقابله أبدًا هو سلامة موسى. تعرفت عليه عن طريق كتبه والتى اقتنيتها الواحد تلو الآخر. وكان أول كتاب قرأته له هو حرية الفكر فى التاريخ، الذى أخرجنى من العالم المحلى والضيق إلى العالم الأوسع، وتعرفت على رموز الحرية فى تاريخ البشرية، وأصبحت الحرية شيئا ملتصقا بى وموجودا فى أعماقى، ومن يومها وأنا لا أتفق مع أى شىء أو نظام أو قانون يقف أمام حرية الإنسان.

قرأت مبكرًا كتاب الاشتراكية لسلامة موسى، وكان قد التحق بالفكر الماركسى ثم انتقل إلى الأفكار الفابية البريطانية التى تدعو إلى الديمقراطية الاجتماعية المطبقة الآن فى أوروبا الغربية. تأثرت بشدة برأيه فى المرأة وحريتها واشتراكها الكامل فى المجتمع، وعرّفنى على مشاهير مثل غاندى وبرناردشو. وقدم لنا نظرية التطور لداروين وشرحها بالتفصيل وشجعنى على الاهتمام بالتفكير العلمى.

وحديثًا، كنت أشاهد حوارا تليفزيونيا لنجيب محفوظ أشاد بسلامة موسى وقال إنه أول شخص نشر له عملًا روائيًا. فكنا نقرأ فى السنتين الثانية والثالثة الثانوى روايات أجنبية ضخمة وشهيرة من الأدب العالمى. شجعنا على القراءة باللغة الإنجليزية.

هذه كانت البذور الأولى فى التعليم المدرسى والجامعى، وكان عدد الطلاب والجو العلمى يساعدان على حب العلم والمعرفة، ولم يمنعنا ذلك من الثقافة المقروءة التى صاحبتها زيارة مستمرة للمسارح والسينمات والمحاضرات العامة، وبعدها دخلنا للحياة العلمية كأطباء شبان، ولكن مصر بدأت الدخول فى مراحل سياسية صعبة انتهت بهزيمة ١٩٦٧ التى قطمت وسطنا تمامًا.

«قوم يا مصرى مصر دايمًا بتناديك»

المصري اليوم




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية