بنكيران وأحزاب اليسار والمدونة.. عندما يصبح العناد فضيلة

بنكيران وأحزاب اليسار والمدونة.. عندما يصبح العناد فضيلة

بنكيران وأحزاب اليسار والمدونة.. عندما يصبح العناد فضيلة


14/03/2024

محمد ماموني العلوي

حزب العدالة والتنمية في شخص أمينه العام عبدالإله بنكيران خبر عمل الدولة بشكل جيد، وكان قريبا من عملية صنع القرار السياسي، وقيادته للحكومة لولايتين، بين 2012 و2021، فترة كافية لمعرفة أن لَيَّ ذراع الدولة ليس بالفكرة الجيدة بأي طريقة من الطرق، ومنها التهديد بالخروج إلى الشارع للتعبير عن الغضب ومواجهة جزء لا يستهان به من المشهد الحزبي والحقوقي في المغرب، بما فيه العنصر النسائي، والموقف المتعلق بالتعديلات المقترحة على مدونة الأسرة.

كسياسي ينتهز الفرص السانحة، يرى بنكيران في الجدل القائم بخصوص بعض البنود في المدونة بابا سريعا يفتح على مساحات أكبر داخل المشهد السياسي، وفرصة سانحة ليس من أجل تغذية النقاش حول التنوع والدفاع عن الحق في إبداء الرأي وما يراه صوابا، بل للانتقام من الصناديق الانتخابية التي حكمت عليه بالجلوس على كراسي الاحتياط، وأن ليس لديه ما يقدمه خدمة لتطوير العملية الديمقراطية.

بعد الهجوم الحاد الذي أطلقه بنكيران على الجناح الحداثي لليساريين والمنتمين للأصالة والمعاصرة على ضوء النقاش الدائر حول تعديل مدونة الأسرة، وجه حزب الأصالة والمعاصرة من خلال قيادته الجديدة، انتقادات إلى غريمه السياسي العدالة والتنمية، حيث اعتبر عضو القيادة الجماعية للأمانة العامة للحزب، صلاح الدين أبوالغالي، أن ما قام به خصمه السياسي الذي عمد إلى تأجيج النقاش والتحريض على العنف الرمزي والتهديد بالاحتجاجات هو اصطياد في المياه العكرة.

بنكيران يعرف ما خلّفته “خطة إدماج المرأة في التنمية” من استقطابات تحولت إلى مسيرات ومسيرات مضادة بين الدار البيضاء والرباط، قبل التقرير النهائي للجنة المكلفة بمراجعة المدونة بدعوى المساس بالشريعة الإسلامية، وها هو يلوح بمسيرة مليونية، على غرار المسيرة التي خرجت ضد “خطة إدماج المرأة في التنمية” في مارس 2000، حيث عمد على مدار العقد الماضي، إلى التصعيد كلما رأى أن تياره يواجه هبوطا في المشهد السياسي والانتخابي.

فلسفة بنكيران وأولوياته لا تخرج عن كونها محاولات مستميتة للعودة بحزبه إلى الصفوف الأولى بعد أن خسرها في جولة انتخابات 2021. حينها نزل شخصيا إلى الميدان محفزا أنصاره ومستفزا خصومه ومبتزا الدولة، لكن الجولة باءت بالفشل، وخابت تقديراته في إمكانيات حزبه على الحشد والتجييش. ولم يكن الأصالة والمعاصرة أفضل منه في مسعاه. إنها الشعبوية، باعتبارها أسلوبا سياسيا في التعاطي مع أوضاع اجتماعية وسياسية، وهي السمة المهيمنة على الخطاب السياسي لبنكيران.

عزت قيادة الأصالة والمعاصرة تلويح بنكيران بالنزول إلى الشارع لكون حزبه “فشل في إقناع المغاربة بمشروعهم الماضوي، وهذا ضرب من ضروب العبث، لا يزيدنا إلا إيماناً وتشبثا بأخلاق ديننا السمح وبالغايات القرآنية والتي تتجلى معظمها في العدل والتقوى بمفهوم الكف عن الاعتداء ورفع الإكراه عن الناس والحرية وترك الحساب إلى الله”.

لاحظ كيف يصوغ حزب الأصالة والمعاصرة “الحداثي” المفردات التي ينهل منها التيار الإسلامي أفكاره، فقد عكرت السياسة المظهر البراق واللياقة الحذرة للحزب المشارك في الحكومة، فلجأ إلى رد فعل انفعالي وسقط في فخ التعاطي مع حزب تخلى عنه أنصاره، رغم أن موضوع المدونة حساس ويهم كافة مكونات المجتمع المغربي. وأهم ما في الأمر الآن أن القضية بيد العاهل المغربي الملك محمد السادس حماية لها من الاختطاف من أحد التيارين، بنكيران والقيادة الجديدة للأصالة والمعاصرة، اللذين سيكونان سعيديْن بالمقايضة عليها مقابل حفنة من الأصوات الداعمة.

تقترب اللجنة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة من الانتهاء من عملها، وسترفع ما وصلت إليه إلى الملك محمد السادس. ومسؤولية اللجنة لا تعتمد بأي حال من الأحوال على الجدل المفتعل حول المدونة، فميثاقها مع العاهل المغربي والأسرة المغربية، وهدفها حماية حقوق الأسرة ووحدتها وتماسكها قبل أي شيء آخر. وهنا ينبغي للمرء أن يدرس نوايا حزب العدالة والتنمية بعيدا عن قناعاته الأيديولوجية، والنظر إلى تلك النوايا من بوابة طموحات الحزب السياسية التي يستغل من أجلها كل ما هو متاح، ومنها بالطبع النقاش الدائر حول المدونة.

من باب الإنصاف، لا بد من القول إن تقييم الأحزاب السياسية للنقاش الدائر حول المدونة لم يكن بعيدًا تمامًا عن الواقع الاجتماعي والسياسي، كل من مرجعيته وطموحه، وهو ما تم طرحه بطريقة يمكن التنبؤ بها بعيدا عن المفاجآت. حزب الأصالة والمعاصرة له منطلقاته في التعامل مع الوضع الحالي، فهو قد خرج للتو من مؤتمر وتقوده ثلاثة رؤوس، والاتحاد الاشتراكي يبحث عن ذاته تارة داخل أسرته اليسارية المشتتة وأخرى باستدعاء بند دستوري ملتمس الرقابة للإطاحة بالحكومة المحصنة بأغلبيتها ومشاريعها، أما حزب التقدم والاشتراكية حليف الأمس فقد اكتشف أخيرا أن بنكيران “سياسي يبحث عن مصلحته”.

المطلوب اجتماعيا صياغة التأكيدات بخصوص ملف الأسرة وفقًا لمعايير مهمة وليس بناء على هواجس انتخابية عابرة.

المواجهة بين من نطلق عليهم محافظين وحداثيين، لم تكن فقط حول مضمون المدونة، بل تعدته إلى ملفات أخرى تعكس اختلاف المرجعيات والأهداف. والأخطر من ذلك أن تهيمن الشعبوية السياسية لدى الطرفين، ويتخذ النقاش الهادئ أبعادا صدامية بينهما سببها حسابات سياسية ضيقة لا تخدم المشروع الإصلاحي الذي أسست له الدولة على عدة مستويات اجتماعية وقانونية وسياسية واقتصادية، وتهدف من ورائه تعميق التنمية المستدامة.

بنكيران أعلن منذ زمن طويل رفضه مطلب إلغاء زواج القاصرات، الذي رفعته جمعيات حقوقية وتيارات سياسية يسارية والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، وقال بوضوح “هؤلاء يقولون إن القاصر ليست مستعدة لأن تحمل في هذه السن، ولكنهم لا يتحدثون عن الفتيات اللواتي يحملن خلال ممارسة الحرام، والآن وجدوا حلّا، وقالوا الحق في الإجهاض”، لينتهي بوصف هؤلاء بـ“المجرمين والقتلة يريدون قتل الأجنة في بطون أمهاتهم”. حتى حليفه السابق نبيل بن عبدالله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، وخصمه السياسي الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لم يسلما من انتقاداته بسبب تأييدهما المذكرة التي رفعها المجلس الوطني لحقوق الإنسان إلى اللجنة المكلفة بتعديل مدونة الأسرة، داعيا إياهما إلى “استحضار علاقتهما بالله وقراءة القرآن الكريم”.

الاختلاف في الرأي والدفاع عنه مكفولان، لكن أن يتم اتخاذ موضوع يتداخل فيه الديني والاجتماعي مع التحولات التي يشهدها المجتمع المغربي ويتم التعامل معه بشعبوية لأغراض سياسية فهذا يحتاج إلى وقفة.

يجب ألا تشغلنا الخفة السياسية لأحزاب الأصالة والمعاصرة والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية ومتابعة كل صرخة يطلقها بنكيران والرد عليها واعتبارها تهديدا للديمقراطية، والتركيز بدلا من ذلك على ما اتفق عليه المجتمع المدني من نقابات وأحزاب ومنظمات حقوقية في كل ما يرتبط بالتعامل مع حرية المرأة من قبل المجتمع ومدى توافق ذلك مع الهوية الحضارية للبلد.

ما يتناساه الجميع أن اللجنة المكلفة بتعديل المدونة تعمل في إطار التوجيهات الملكية وإمارة المؤمنين، حيث أكد الملك محمد السادس بصراحة وحزم “لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله”، لاسيما في المسائل التي تؤكدها نصوص قرآنية قطعية.

وبالتالي، لا داعي للمبالغة السياسية حول موضوعٍ الكل قدم فيه وجهة نظره، وتنظر فيه الآن أعلى سلطة في البلاد بحكمة وهدوء ودقة. لا داعي للعناد المجاني.

عن "العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية