بريطانيا والشرق الأوسط: إمبراطورية بائدة تبحث عن دور

بريطانيا والشرق الأوسط: إمبراطورية بائدة تبحث عن دور


16/03/2022

ترجمة: محمد الدخاخني

في فترة ما بعد الحرب العالميّة الثّانية، رأى كلّ زعيم بريطانيّ الشّرق الأوسط على أنّه مكان خَطِر. قَلِق هؤلاء الزّعماء بشأن ضياع الإمبراطوريّة وخطر قطع إمدادات النّفط، وقدّموا مزاعم رنّانة عن نُسخ هتلريّة جديدة وعن إرهاب عابر للحدود، لكن مهما كانت القضايا المحدّدة للفترة التّاريخيّة المعنيّة، كان هناك شيء واحد ثابت بشكل ملحوظ: أشرف معظم رؤساء وزراء بريطانيا منذ الحرب العالميّة الثّانية على نوع من التدخّل العسكريّ في الشّرق الأوسط. وهذا هو أحد الموضوعات الأكثر لفتاً للانتباه في كتاب نايجل أشتون الرّائع عن المعتقدات والعلاقات التي شَكّلت سياسات رؤساء الوزراء البريطانيّين في المنطقة، من أزمة السّويس إلى الانتفاضات العربيّة.

تُساعد اليوميّات والبرقيّات والسّجلات الدّبلوماسيّة والمقابلات مع المساعدين والمستشارين، حيثما أمكن ذلك، على إبراز السّيكولوجيا والانشغالات والأحكام المسبقة التي شكّلت صُنع القرار البريطانيّ، والنّتيجة هي تأريخ متفهِّم لكن غير متعاطف. 

صوّر رؤساء الوزراء البريطانيّون المتعاقبون القادةَ العرب الشّعبويّين على أنّهم نسخ من هتلر أو موسوليني، واصفين إيّاهم بأنّهم طغاة شرقيّون، وخوفاً من قدرة القوميّة العربيّة على توحيد المنطقة

في كلّ فصل تقريباً، يُحدّد أشتون ميلاً إلى التّعامل مع الشّرق الأوسط بمزيج من الخوف والغطرسة، حتّى عندما رأوا المنطقة خَطِرة، حرص القادة البريطانيّون على توريط قوّاتهم ومسؤوليهم فيها بشكل متكرّر، بعد فترة طويلة من انتهاء البنى الرّسميّة للإمبراطوريّة، استمرّ الافتراض بأنّ بريطانيا يجب أن يكون لها دور في تشكيل المنطقة. في أوائل الخمسينيّات من القرن الماضي، كتب أحد الدّبلوماسيّين عن البقاء مستيقظاً في اللّيل، خوفاً من تحرّك كلّ آسيا خارج مدار بريطانيا، وخوفاً من أنّ "حضارتنا الغربيّة ستُخنق قريباً وتخضع، حيث تكون قنابلها غير الصّالحة للاستعمال في جيبها".

وجهات النّظر الرّومانسيّة

يرسم أشتون بمهارة وجهات النّظر الرّومانسيّة للقادة المتعاقبين عن الشّرق الأوسط باعتباره مهد "القِيَم اليهوديّة المسيحيّة"، وباعتباره آخر معقل للإمبراطوريّة (أخبر رئيس الوزراء جيمس كالاهان أحد الصّحفيين بأنّ أزمة السّويس كانت كارثة أسوأ من خسارة المستعمرات الأمريكيّة) . في غضون ذلك، صوّر رؤساء الوزراء البريطانيّون المتعاقبون القادةَ العرب الشّعبويّين على أنّهم نسخ من هتلر أو موسوليني، واصفين إيّاهم بأنّهم طغاة شرقيّون، وخوفاً من قدرة القوميّة العربيّة على توحيد المنطقة وتغيير شروط التّجارة النفطيّة، سعى أنطوني إيدن إلى إطاحة الرّئيس المصري جمال عبد الناصر، حتّى قبل أزمة السّويس، عندما استولى الأخير في النّهاية على القناة، أخبر إيدن الرّئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور بأنّ ثلاثينيّات القرن الماضي قد عادت مرّة أخرى؛ أنّ الاستيلاء على القناة يهدّد بـ "نهاية خبيثة" لتاريخ بريطانيا الطّويل كقائدة لأوروبا في الكفاح من أجل الحرّيّة. 

كان أيزنهاور متحيّراً على ما يبدو من الإحساس المبالغ فيه بالتّهديد الوجوديّ، وفي غضون ذلك، كان جهاز المخابرات البريطانيّ يهدف إلى هندسة انقلاب في سوريا، بعد أعوام قليلة فقط من دعم الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة للانقلاب على رئيس الوزراء الإيرانيّ محمّد مصدّق، مثل هذه المحاولات للحفاظ على السّيطرة في الواقع بذرت بذور انعدام ثقة دائم.

عبد النّاصر وصدّام والقذافيّ

مقارنة عبد النّاصر وصدّام حسين ومعمّر القذافيّ بهتلر كانت ممارسة متكرّرة، ومع ذلك، بناءً على تقييمات رؤساء وزراء مختلفين، فإنّ قادة مشابهين، أو في الواقع القادة أنفسهم، سيتمّ تأطيرها كقوى معتدلة من أجل الاستقرار، بينما غطّت العديد من الكتب الحروب العربيّة الإسرائيليّة والعراق وأفغانستان، يقدّم كتاب أشتون وصفاً مفيداً للتّدخّلات الأصغر والأكثر دقّة، مثل العمليّات السّرية البريطانيّة في اليمن في الستينيات، وقتال متمرّدي ظفار في عُمان في الستينيّات والسبعينيات، وإرسال دعم سريع لحكومتي الأردن والكويت عندما شعرتا بالتّهديد، قبل أيّام صدّام بوقت طويل.

اقرأ أيضاً: تعريف "رهاب الإسلام" يشعل معركة سياسية في بريطانيا

تشكّلت العلاقات مع إسرائيل جزئيّاً من خلال العلاقات الوثيقة بين القادة، حيث طوّر كالاهان على وجه الخصوص علاقة ثقة عميقة مع نظيره الإسرائيليّ مناحيم بيغن. في حالات أخرى، كان الشّعور بوجود قِيَم أو رسالة أخلاقيّة مشتركة يلوح في الأفق بشكل كبير. نشأ غوردون براون وهو ينظر إلى شرائح من الأرض المقدّسة كمكان حجٍّ لوالده الواعظ، ووالد مارغريت تاتشر، وهو واعظ غير مؤسّسيّ، شبّعها بالتزام قويّ بما وصفته بالقِيَم اليهوديّة المسيحيّة، حتّى لو كان اجتماعها الأوّل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بيغن، متوتّراً، حيث رأته مسؤولاً عن عمليّات إرهابيّة سابقة ضدّ ضبّاط بريطانيّين.

كانت علاقة بريطانيا القائمة على الصّداقة والعداء في الوقت نفسه مع الولايات المتّحدة، أقرب حليف لها وأكبر منافس لها في المنطقة، دافعاً ثابتاً لطموحات ومخاوف رئيس الوزراء. غضب إيدن سرّاً من أنّ الولايات المتّحدة اعتقدت أنّ بريطانيا إمبرياليّة لكنّها عدّت المصالح الأمريكيّة "عذراء". 

سعى كلّ زعيم إلى نوع من الشّراكة مع ظهور الولايات المتّحدة كأكبر قوّة اقتصاديّة وعسكريّة في العالم، من خلال مزيج من الضّرورة والمصالح المشتركة والعلاقة الشّخصيّة.

في أوائل خمسينيّات القرن الماضي، كتب أحد الدّبلوماسيّين عن البقاء مستيقظاً في اللّيل، خوفاً من تحرّك كلّ آسيا خارج مدار بريطانيا، وخوفاً من أنّ "حضارتنا الغربيّة ستُخنق قريباً 

"الخطر الذي يُداهم الحضارة المسيحيّة"

لكنّ توني بلير هو الوحيد الذي أيد الوقوف "كتفاً بكتف" مع الولايات المتّحدة، كان مبشّراً قويّاً بالتّحالف بين البلدين، باعتباره قوّة من أجل الصّالح العالميّ، وقد صوّره أشتون على أنّه كان يتبع قيادة تشرشل، الذي رأى هذه "العلاقة الخاصّة" على أنّها مَهمّة لمكافحة "الخطر الذي يُداهم الحضارة المسيحيّة". 

بلير، الذي لم يتصوّر نفسه على أنّه رجل حنينٍ إلى الإمبراطوريّة، صوّر غزو العراق وأفغانستان على أنّه تحرير للسّكان المحلّيين من شأنه أن يجلب السّلام والدّيمقراطيّة، لكنّ كثيرين في المنطقة، حيث إرث الإمبراطوريّة بارز في الوعي العامّ، رأوا في ذلك مجرّد استمرار للخطابات الإمبرياليّة "الحضاريّة" التي تُستخدم كمبرّر للعنف والهيمنة.

غالبًا ما تُصوَّر العقود التي تلت الحرب العالميّة الثّانية على أنّها فترة غير منقطعة من السّلام والازدهار العالميّين، لكن الشّرق الأوسط كان يعاني من الصّراعات، وتتمثّل إحدى المشكلات في أنّ القوى الكبرى تستخدم المنطقة كمكان للعب منافساتها الخاصّة، مع تمكين اللعبة من قِبل الدّول الضّعيفة التي اعتاد حُكّامها على الحصول على المال والسّلاح من الخارج. حقيقة أنّ القوى الأجنبيّة تُصوّر الشّرق الأوسط على أنّه مضطرب بشكل فريد تُشير إلى عمى مذهل عن دورها.

اقرأ أيضاً: الإسلاموفوبيا في بريطانيا والسويد ـ عام 2021 ،الواقع والمخاطر

يوضح كتاب أشتون ذلك على المستوى الإنسانيّ للغاية، بينما تُركّز دراسة العلاقات الدّوليّة غالباً على الدّول التي يُفترض أنّها تتصرّف من منطلق المصلحة الذّاتيّة، يكشف بحث مفصّل مثل هذا أنّ العلاقات الدّولية مكوّنة من أشخاص غير معصومين ومشغولين لديهم معلومات غير كاملة ويتصرّفون تحت الضّغط، ولا يمكنهم التّنبؤ بالعواقب الكاملة لأفعالهم ولديهم أفكار مختلفة جدّاً عمّا تعنيه "المصلحة الوطنيّة" في الواقع. وكما هو الحال في كثير من الأحيان مع الأشخاص الذين يشعرون بالتّهديد، نادراً ما يبدو أنّهم يُقدّرون أنّ التّهديد، بالنّسبة إلى أهل المنطقة، يبدو في الغالب قادماً من الاتجاه الآخر.

المصدر:

جين كينينمونت، الغارديان، 5 آذار (مارس) 2022



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية