انقلاب سعيّد على انقلابات الإخوان

انقلاب سعيّد على انقلابات الإخوان


04/08/2021

الحبيب الأسود

في العام 1987 كانت حركة الاتجاه الإسلامي تستعد لتنفيذ انقلاب عسكري على نظام الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وحددت الثامن من نوفمبر موعدا لذلك، لكن الوزير الأول ووزير الداخلية آنذاك زين العابدين بن علي التقط المعلومة واكتشف الخطة، واستبق الانقلاب العسكري الدموي بانقلاب صحي أبيض، تم بعده إطلاق سراح قيادات الحركة من السجون، وأنقذ بعضهم من حبال المشنقة، ومن بينهم راشد الغنوشي الذي كان بورقيبة يصرّ على إعدامه بعد أن رأى فيه خطرا على الدولة والسلم الاجتماعي.

في مايو 1991، أعلن عن اكتشاف مخطط تتزعمه حركة النهضة لتنفيذ انقلاب على نظام بن علي، وتم الكشف عن اجتماع لـ244 ضابطا وضابط صف من بينهم ثلاثة من المساعدين الستة لرئيس الأركان، وهو ما زاد من توتير العلاقة بين الحركة ومؤسسات الدولة، ودفع بالآلاف من الإخوان إلى السجون والمعتقلات، فالصراع كان قائما على تناقش رهيب بين النزعة الانقلابية للجماعة وبين آليات الدولة المدافعة عن كيانها.

في العام 2011، سقط نظام بن علي فيما كان هدف الإخوان هو ضرب الدولة الوطنية مستفيدين في ذلك من اندفاع اليسار الراديكالي، الذي كان على الدوام الداعم الموضوعي لمشروع الإسلام السياسي، الذي يجتمع معه في العداء للدولة والعمل على هدمها بناء المشروع البديل الذي يهدف إليه كل منهما، فتعطيل دستور 1959 وحل الأجهزة الاستخباراتية وحل الحزب الحاكم سابقا وانتخاب هيئة تأسيسية كانت جميعها مطالب القوى اليسارية، التي كانت تمهد الطريق للإخوان للتمكن من مفاصل الدولة دون أن يقدموا أي مراجعات جدية لتجربتهم، ودون أن تتم محاسبتهم على جرائمهم السابقة، التي تم توصيفها لاحقا ومن خلال ملفات العدالة الانتقالية الموجهة على أنها ممارسات نضالية ضد الاستبداد يستحق منفذوها التكريم لا التجريم، والتعويضات المجزية لا الملاحقة القضائية.

في الخامس والعشرين من يوليو الماضي، خرج الرئيس قيس سعيد ليعلن عن إجراءات رأى فيها الإخوان انقلابا على الدستور. قبل ذلك بأيام راجت دعوات للتظاهر بالتزامن مع الذكرى الرابعة والستين لإعلان النظام الجمهوري، ولم يكن لها أي غطاء سياسي معلن، كما كان الاعتقاد بجدية تلك الدعوات ضعيفا، لكن في اليوم المحدد خرجت جحافل الغاضبين إلى الشارع، وكان صوتها واحدا، وهدفها واحدا وهو الإطاحة بحركة النهضة، من خلال تحميلها المسؤولية كاملة عن جميع الأزمات التي تعرفها البلاد، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو صحية، ليتضح لاحقا أن الواقفين وراءها هم أولئك الغامضون الذين نجحوا في الدفع بأستاذ القانون الدستوري سعيد إلى الانتخابات وإلى الفوز في الدور الأول ليكتسح الدور الثاني، بعد أن التحقت بهم أغلب التيارات السياسية ومنها جماعة الإخوان.

مساء 25 يوليو، جاءت قرارات الرئيس سعيد بتجميد البرلمان ورفع الحصانة الدستورية عن جميع أعضائه وحل الحكومة لتنقذ الإخوان من الغضب الشعبي، وفي نفس الوقت ليبادر الرئيس بتنفيذ الإصلاحات التي يراها مناسبة للمرحلة، وفيما اتهمته حركة النهضة بالانقلاب على الدستور بما في ذلك الفصل 80، اختار المجتمع الدولي أن يراقب عن بعد دون أي إدانة للإجراءات الرئاسية، ويعود ذلك لسبب وجيه دفع حتى بالإخوان أنفسهم إلى الخلافات الحادة في ما بينهم، وهو أن النهضة لم تفشل في الحكم فقط، وإنما متهمة بأنها راعية للفساد، وضارة بالبلاد، ومتورطة في محاولة أدلجة المجتمع وتغيير ملامحه نحو التطرف العقائدي.

ولكن لماذا قرر الرئيس سعيد أن يتخذ تلك الإجراءات؟ الجانب الخفي في المسألة أن النهضة كانت قد بدأت فعلا الإعداد للإطاحة بالرئيس وذلك بالاعتماد على الفصل 88 من الدستور، ورغم أن الأمر تكتنفه صعوبات كبرى بسبب غياب المحكمة الدستورية وكذلك نتيجة عدم إمكانية توفير أغلبية الثلثين، إلا أن الإخوان كانوا قد انطلقوا فعلا في إجراء الاستشارات القانونية الدستورية والبحث عن مخرج لتنفيذ هدفهم انطلاقا من قناعتهم بأنه لم تعد هناك أي إمكانية لاستمرار التعامل مع الرئيس سعيّد.

وأخطر ما في المسألة، أن إخوان تونس كانوا يستقوون في توجههم لعزل الرئيس على أطراف خارجية، بدعوى أنه يستعد للانقلاب على الديمقراطية والدستور وللدفع بالبلاد نحو الفوضى، وهنا مربط الفرس، فالرئيس سعيد وكما أشار إلى ذلك في مناسبات عدة، يعتبر أن التخابر مع الأجنبي جريمة لا تغتفر، وهو يدرك أن الإخوان يحرضون عليه القوى الإقليمية والدولية، ويحاولون إيجاد طريقة لعزله من الحكم.

وقد تكون أبرز مشاكل الإخوان في علاقاتهم بالدولة ورمزية الرئيس أنهم لا ينظرون بجدية إلى مسألة السيادة الوطنية، وإنما يعتقدون أن هدف التمكين يحتاج إلى اختراق كل المؤسسات بما في ذلك السيادية منها، وعندما وصلوا إلى الحكم، اتجهوا مباشرة إلى بناء ملامح مجتمعهم الموازي بما في ذلك المؤسسات الموازية التي تدين لهم بالولاء التام، وقد استفادوا من صبر الرئيس السابق الباجي قائد السبسي ومن قدرتهم الفائقة على تدمير حزبه واختراق حتى محيطه الإداري والأسري الضيق، وهو ما فشلوا فيه في علاقتهم مع الرئيس سعيد منذ أن اختبروه بمحاولة السطو على صلاحياته من خلال مغامرات الغنوشي الذي اتجه لتهميش رمزية البرلمان بتكريس مؤسسة سيادة بديلة وهي رئاسة مجلس نواب الشعب، ليجعل منها مظلة لتحقيق أهدافه التوسعية في السلطة وفي الهيمنة المطلقة على الدور التنفيذي للحكومة مقابل العمل على تهميش مؤسسة رئاسة الجمهورية والرئيس المنتخب مباشرة من الشعب في جولتين وبأعلى نسبة من الأصوات.

وكانت محاولات الإساءة إلى الرئاسة وتقليص دورها والمساس من سمعة الرئيس والعبث برمزية المنصب الذي يتولاه قد تحولت إلى أحد أهداف البرلمان، ولاسيما من خلال الذراع العنيفة لحركة النهضة، وهي ائتلاف الكرامة، كما بات واضحا أن التجييش والتحريض قد امتدا من وسائل التواصل الاجتماعي المنفلتة إلى وسائل الإعلام بما في ذلك العمومي منها، وأصبحت الحرب على الرئيس تشمل الإساءة إلى علاقات تونس الخارجية بما في ذلك العلاقات مع الدول العربية والأجنبية التي لا يرتاح لها الإخوان، ليصبح برلمان تونس باثّا للفتنة وحاضنا للعنف وراعيا للفساد والإرهاب وضاربا لمصالح تونس الإقليمية والدولية باسم الحرية والديمقراطية.

كل ذلك كان يدور على مرأى ومسمع من السفارات ووسائل الإعلام ومراكز الأبحاث والدراسات الأجنبية لتصل الصورة القاتمة عن الديمقراطية الفاسدة إلى كل أصقاع العالم، ولاسيما إلى العواصم التي تنظر بعين العطف لتونس كدولة كانت دائما عنوانا للحداثة والانفتاح والحياد الإيجابي والاعتدال في المواقف، ولذلك عندما قرر الرئيس سعيد تغيير الواقع وتصحيح المسار السياسي لقي تفهما دوليا، حتى وإن لم تعبر عنه بعض الدول بالدعم، فإنها عبرت عنه بالصمت، والصمت عنوان الرضا.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية