
في لحظة نادرة من التحولات الجيوسياسية، استقبل قصر الإليزيه قبل فترة وجيزة الرئيس السوري أحمد الشرع، في أول زيارة رسمية له إلى الغرب منذ سقوط نظام بشار الأسد. هذه الزيارة التي طال انتظارها لا يمكن قراءتها باعتبارها حدثاً بروتوكولياً عابراً، بل هي إعلان ضمني عن انفتاح فرنسي مشروط، وبدء اختبار فعلي لشرعية السلطة الجديدة في دمشق.
لقد تموضعت فرنسا منذ العام 2011 في قلب المعسكر المؤيد لتطلعات الشعب السوري. لكنّها، على خلاف دول أخرى غيّرت خطابها أو أعادت التموضع وفق تبدلات الميدان، حيث حافظت على ثوابتها المبدئية: لا تطبيع دون محاسبة، ولا إعادة إعمار دون إصلاح، ولا اعتراف بشرعية جديدة دون ضمانات حقيقية لحقوق الإنسان والحريات العامة. وعليه، فإنّ لقاء ماكرون ـ الشرع لم يكن لقاء مجاملة، بل مفاوضة رمزية بين قيم مترسخة ومخاوف واقعية.
فالمرحلة التي أعقبت سقوط النظام ليست سوى فراغ هشّ، يتنازع فيه السوريون رؤى متناقضة للدولة والمجتمع. في هذا الفراغ تقدمت فرنسا بخطاب متماسك مفاده أنّ دعمها لن يكون شيكاً على بياض. فالعدالة الانتقالية ليست ترفاً قانونياً، بل هي شرط وجودي لإمكانية بناء سلم أهلي ودولة قابلة للحياة. فملفّ المجازر الطائفية، الذي أعادت باريس تسليط الضوء عليه، يؤشر إلى أنّ الجرائم التي ارتُكبت خلال العقد الدموي لن تُمحى بالتقادم السياسي. ليس فقط من باب التعاطف مع الضحايا، بل لأنّ هذه الجرائم تمسّ جوهر الدولة، وتمزق نسيجها الوطني. الإشارة الفرنسية الصريحة إلى المجازر التي طالت الدروز في الجنوب، وجرائم الساحل ضد المدنيين، تعكس تحولاً في الخطاب؛ من دعم المعارضة السياسية إلى مطالبة السلطة القائمة، أيّاً كانت، بتحمل مسؤولية تاريخية في مواجهة الانتهاكات.
حماية الأقليات
لم يكن حديث الإليزيه عن حماية الأقليات حديثاً دبلوماسياً عاماً، بل بدا كوثيقة شروط غير معلنة. ففرنسا ترى أنّ المساس بأيّ مكوّن ديني أو إثني في هذه المرحلة يهدد كامل عملية الانتقال. وبالتالي، فإنّ ضمان أمن الدروز، والعلويين، والمسيحيين، والسنّة، ليس فقط ضرورة أخلاقية، بل هو شرط لاستمرار أيّ دعم دولي. لقد اختارت باريس أن تضع هذه المسؤولية مباشرة على عاتق الشرع، في خطوة نادرة تُحمّل رأس السلطة الانتقالية مسؤولية مبكرة عن تفكيك تركة الطائفية، بدل إعادة إنتاجها. الرسالة هنا واضحة؛ إمّا أن تكون السلطة الجديدة دولة لكل السوريين، وإمّا لا تكون.
ولم تغب القضية الكردية عن هذا المشهد، ففي لحظة تتزايد فيها الخشية من تغييب الأكراد عن ترتيبات ما بعد الأسد، بدت فرنسا، ربما الوحيدة بين القوى الكبرى، متمسكة بحلفائها التقليديين. تصريح الإليزيه بأنّ للأكراد مكاناً كاملاً في الدولة الجديدة، ليس مجرد وعد سياسي، وإنّما هو تذكير بأنّ تضحياتهم في محاربة الإرهاب لا يمكن أن تقابل بالإقصاء أو التجاهل. كما أنّ الاعتراف العلني بدور الأكراد، وتأكيد دعمهم، يأتي في وقت تعاني فيه مناطقهم من ضغوط مركّبة، سياسية، واقتصادية، وحتى أمنية. وبينما تنأى قوى إقليمية ودولية بنفسها عن تبنّي مطالبهم، تبدو فرنسا كأنّها تؤكد اصطفافها مع حلفائها.
في المقابل، وجّه الشرع الشكر لـ "ماكرون والشعب الفرنسي على استقباله اللاجئين السوريين خلال سنوات الحرب"، وقال: إنّ "سلامة السوريين أولويتنا القصوى ولا أحد أحرص منّا على ذلك"، وتابع: "تحركنا بسرعة في مواجهة الهجمات الطائفية، وفتحنا الأبواب أمام لجنة التحقيق الدولية بالهجمات الطائفية".
تحولات حادة
من جانب آخر، وفي لحظة لافتة، ألمح الشرع خلال زيارته إلى باريس إلى وجود مفاوضات غير مباشرة بين دمشق وتل أبيب، دون الخوض في تفاصيل القنوات أو طبيعتها. التصريح الذي مرّ بسرعة خلال مؤتمر صحافي بدا مؤشراً على تغيير في أسلوب مقاربة الملفات الإقليمية، لا سيّما أنّ الإعلان جاء من عاصمة غربية لطالما لعبت دوراً حساساً في العلاقة مع سوريا. هذا الطرح، وإن لم يكن سابقة في تاريخ السياسة السورية، إلا أنّه يخرج اليوم في سياق مختلف، حيث لم تعد الدولة السورية تُعرّف فقط وفق ثنائيات الصراع القديمة، بل باتت مضطرة لمواجهة واقع إقليمي أكثر تعقيداً، تفرضه تحولات متسارعة في ملفات التطبيع، وفي التحالفات التي تقفز على ما كان تقليدياً يبدو راسخاً في المواقف الرسمية والراديكالية بينما تتمتع بالجمود والتصلب.
رغم الطابع الرسمي للزيارة، لم تُلغِ باريس موقع أحمد الشرع على لوائح العقوبات الدولية، بل منحته "إعفاءً مؤقتًا"، في تلميح واضح إلى أنّ الشرعية ما زالت مؤجلة. فالاعتراف السياسي، كما تقول باريس، لا يتحقق بزيارة قصر أو توقيع بيان، بل عبر مسار طويل من الالتزام بالحوكمة، والشفافية، والعدالة. وبينما تُرحب فرنسا بسقوط النظام السابق، فإنّها ترفض أن يتحول "السقوط" إلى مبرر لتعويم كل من جاء بعده. لا أموال لإعادة الإعمار دون إصلاح، ولا دعم سياسيّاً دون مؤسسات تستحق الثقة.
في المحصلة، زيارة الشرع إلى قصر الإليزيه، رغم رمزيتها السياسية، لا تعني أنّ باريس منحت شرعية نهائية لسلطته، بقدر ما تفتح أمامه اختباراً معقداً للنيات والمسارات. فالرجل الذي يحمل إرثاً ثقيلاً من الانتماء إلى جماعة جهادية، ويقود سلطة انتقالية وسط حقول من الشكوك والتوازنات الهشة، ليس أمامه سوى خيار واحد، إن أراد أن يبقى شريكاً للغرب، أي ضرورة القطع الحاسم مع التطرف، والتخلص من رموز الماضي، وبناء دولة مدنية تتسع للجميع. فالرسالة الفرنسية، كما تعكسها الصحافة والتحليلات، ليست دعوة إلى التطبيع، بل إعلان شروط غير قابلة للتفاوض. إذ إنّه لا إعادة إعمار بلا حوكمة، ولا شراكة دون محاسبة، ولا مكان في سوريا الجديدة لمعادلات تعاود تدوير أدوات الجريمة أو تنتج وجوهاً جديدة للاستبداد. من هنا، فإنّ لحظة باريس ليست لحظة احتفاء، بل لحظة مساءلة، وعلى الشرع أن يختار: إمّا استكمال القطيعة مع الجريمة والتطرف، وإمّا خسارة ما تبقى من فرص الانفتاح الدولي على سوريا.