السمة المتكررة في واقع الثورات التي شهدتها المنطقة، خلال العقد الماضي، وآخرها الثورة السودانية، هي تحوّل المكوّن الثوريّ إلى عبء على المرحلة التالية لإطاحة النظم القديمة؛ ذلك لأنّه يقوم على تمثيل القوة العاطفية للجماهير غير المسيسة، التي سرعان ما تنفض عن هذه الحالة، وتعود لترقّب ما يجري، مع استعداد لتكرار موجات الاحتجاج.
سادت المحاصصة في اختيار الوزراء، والمساومات مع الأحزاب القوية، والجبهة الثورية، بما ينبئ بولادة حكومة غير متجانسة، ومشكوك في قدرتها
بينما تبقى المكوّنات السياسية التي تتصدر لتمثّيل هذه الجماهير متعلقة باللحظة الأولى، دون إدراك لغياب حاضنة سياسية تبرّر المكانة الكبيرة التي تصدّرت لها، ما يجعلها عبئاً على المجال السياسيّ، فلا هي تمثّل قوى حزبية، ولا تاريخ لها في العمل السياسيّ، وتفتقد لخبرات إدارة الدولة.
ذلك ما يجرى مع قوى الحرية والتغيير في السودان، تلك المظلة الكبيرة التي جمعت جميع المعارضين لنظام البشير، الذين سرعان ما انفضّوا وعادوا إلى أحزابهم السياسية القديمة، وبقيت قوى الحرية والتغيير تستمدّ قوتها من الوثيقة الدستورية، بعد أن فقدت قوّتها الشعبية، فصارت عاجزة عن إدارة السودان، وعاجزة عن تشكيل حكومة قوية، تقود المرحلة الانتقالية.
وانكشف ذلك مع تشكيل الحكومة الجديدة؛ حيث سادت المحاصصة في اختيار الوزراء، والمساومات مع الأحزاب القوية، والجبهة الثورية، بما ينبئ بولادة حكومة غير متجانسة، ومشكوك في قدرتها على اتخاذ قرارات جذرية تتطلبها المرحلة.
الحكومة المرتقبة
وافق مجلس شركاء الفترة الانتقالية في السودان، في اجتماع في 28 كانون الثاني (يناير)، على جدول زمني لاستكمال هياكل الفترة الانتقالية، وهي؛ مجلس الوزراء، المجلس السيادي، الولاة، المجلس التشريعي، والمفوضيات الانتقالية.
ونصّ الجدول على الإعلان عن تشكيل الحكومة والمجلس السيادي، في الرابع من شهر شباط (فبراير) الجاري، على أن يسبق ذلك طرح برنامج الحكومة، وفي 15 من الشهر نفسه يجري تعيين الولاة، ويتبع ذلك تشكيل المجلس التشريعي في الخامس والعشرين.
وتأتي التغييرات السابقة تبعاً لما نصّ عليه اتفاق جوبا في جنوب السودان، بين الحكومة والجبهة الثورية، التي تضمّ معظم الحركات المسلحة التي كانت تقاتل نظام البشير.
ووفق الاتفاق؛ ستشارك الجبهة الثورية بثلاثة أعضاء في مجلس السيادة، وسبعة وزراء في الحكومة، وحصص متفق عليها في بقية هياكل الفترة الانتقالية.
وحول القوى المشاركة في الحكومة الجديدة، يقول الباحث السوداني في العلاقات الدولية، أبو بكر عبد الرحمن: "القوى السياسية المتوقع مشاركتها في الحكومة القادمة هي كتلة الجبهة الثورية، وتضمّ حركة جيش تحرير السودان, بزعامة منى أركو مناوي، والحركة الشعبية لتحرير السودان، قطاع الشمال، بزعامة مالك عقار، وحركة العدل والمساواة بزعامة جبريل إبراهيم، فيما تنضمّ إليها تيارات مدنية سياسية أخرى، تندرج تحت راية قوى إعلان الحرية والتغيير".
واتفق أعضاء مجلس الشركاء على زيادة عدد وزراء الحكومة إلى 27 وزيراً، بدلاً من 19 وزيراً؛ حيث تحصل قوى الحرية والتغيير على 18 حقيبة وزارية، و7 حقائب للجبهة الثورية، وتذهب حقيبتان سياديتان للمكوّن العسكري، وهما الدفاع والداخلية.
وشهدت الأيام الماضية صراعات داخل قوى الحرية والتغيير والجبهة الثورية على الحقائب الوزارية، وخلافات على أسماء المرشحين، وتدخّل جنوب السودان لحلّ الخلافات داخل الجبهة الثورية، بينما عقدت اللجنة المركزية لقوى إعلان الحرية والتغيير (قحت)، اجتماعاً لحسم خلافاتها.
اقرأ أيضاً: تقويض الإخوان داخل السودان يتطلب سد ثغرات تسللهم إلى الفوضى
ووفق ما نشرته صحيفة "السوداني"؛ فقد حصلت الجبهة الثورية على حقائب: الحكم الاتحادي، والمالية، والتنمية الاجتماعية، ووزارة دولة بالخارجية، والتربية والتعليم، والمعادن، بالتقاسم بين مكوّناتها.
وحصلت "قحت" على حقائب؛ شؤون مجلس الوزراء، والخارجية، والعدل، والاستثمار، والصناعة، والتجارة، والريّ والموارد المائية، والزراعة، والصحّة، والتعليم العالي، والشباب والرياضة، والشؤون الدينية والأوقاف، والثقافة والإعلام، والاتصالات، والطاقة والنفط، والنقل، والعمل والإصلاح الإداري.
ورجّحت مصادر سودانية أن يحصل حزب الأمة على أربع حقائب؛ الخارجية، والشؤون الدينية والأوقاف، والطاقة والنفط، والتعليم العالي، وقدمت مكوّنات "قحت" ثلاثة مرشحين لكلّ وزارة، على أن يختار رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، واحداً من بينهم.
وكانت كتلة التجمع المدني قد انسحبت من اجتماع الترشيح لمركزية "قحت"، احتجاجاً على رفض ترشيحها مدني عباس مدني لوزارة شؤون مجلس الوزراء.
أوزان سياسية هشّة
وتتعرّض "قحت" لانتقادات عديدة من المحللين والسياسيين في السودان، ويرون أنّها لا تمثّل القوى الثورية، ولا حاضنة شعبية لها، إلى جانب أنّها تجمع غير متجانس، فكرياً أو تنظيمياً، وشهد العام الماضي انسحاب حزب الأمة وتجمّع المهنيين والحزب الشيوعي من قحت.
وتعاني الحياة السياسية السودانية اختلالات عديدة، لم تسلم منها الأحزاب الكبيرة، ويوضح ذلك الناشط السياسي، عبد العظيم صديق، بالقول: "كلّ الأحزاب السياسية مؤسسة على القبلية والجهوية، حتى الكبيرة منها، مثل الأمة والحركة الإسلامية، وكلّ الحركات المسلحة، وجميعهم يتعاملون مع الحكومة على أنّها حقّ مكتسب لهم، وهذا ما عطّل تشكيل الحكومة".
ويردف صديق، لـ "حفريات": "قحت مكوّنة من الأحزاب والتنظيمات القديمة نفسها، وعندما حان تشكيل الحكومة السابقة والحالية عاد كلّ فرد إلى حزبه، وتشكّلت الحكومة بناء على المحاصصة الحزبية".
الباحث أبو بكر عبد الرحمن لـ"حفريات": تعتقد القوى المدنية أنّ وثيقة جوبا غيّرت الحاضنة السياسية للحكومة، وأنّها تمثّل تسوية عسكرية – عسكرية
وفي مقال منشور للكاتبة السودانية، منى عبد الفتاح، في موقع "إندبندنت عربية"؛ وصفت الحياة السياسية الحزبية بالبداوة: "ذلك أنَّ تكوينها الداخلي لا يخضع لانتخابات، وإنَّما لسلطوية تُعلي من مكانة زعيم الحزب وترفض تغييره، ما أنتج أحزاباً هشَّة لم تستطع التغيير ومواجهة الاستبداد العسكري، إلى قيام كلّ الثورات بانتفاضة شعبية دون غطاءٍ حزبي".
ويضيف الناشط السياسي السوداني، محمد عثمان: "قوى الحرية والتغيير لا تشكّل كلّ القوى السياسية، والقوى التي شاركت في الثورة أوسع بكثير من العناصر التي تصدّرت المشهد السياسيّ، ووقّعت ميثاق الحرية والتغيير، فهناك أقسام واسعة من الاتحادي الديمقراطي، وهو من أكبر الأحزاب، غير ممثلة بـ "قحت"".
ويتابع عثمان، في حديثه لـ "حفريات": "قحت" مجموعة صغيرة تصدّت لقيادة ثورة كبيرة، تمّ دعمها في وقت لم يفكر الناس في التمثيل، بل في انتصار الثورة، والآن تكشف للجميع ضعف الوزن السياسيّ والقياديّ، وضعف الاختيار للمناصب التنفيذية، ولا بدّ من إشراك أوسع للقوى السياسية، وإلا سيستمر الإخفاق الحكومي".
خلافات المدنيين والعسكريين
ولا يشارك المكوّن العسكري في اختيار الوزراء، ويحتفظ بالداخلية والدفاع، ورغم ذلك يرى سياسيّون أنّه يسيطر بشكل كبير على الحكومة، خاصة بعد توقيع اتفاق جوبا للسلام، الذي غيّر من تركيبة شركاء المرحلة الانتقالية.
ويوضح ذلك الباحث السوداني في العلاقات الدولية، أبو بكر عبد الرحمن: "تعتقد القوى المدنية أنّ وثيقة جوبا غيّرت رسمياً الحاضنة السياسية للحكومة، بل يعتقدون أنّها في جوهرها تمثّل تسوية عسكرية - عسكرية، بين الجيش والمعارضة المسلحة، ويدعم هذا التصور ما يدور الآن من احتجاجات، وتهديد بإسقاط الحكومة الجديدة".
ويعلّل عبد الرحمن غضب القوى المدنية، بالقول: "أعتقد أنّ مدلول هذه التهديدات يتمثّل في محاولة إيجاد موطئ قدم في معادلة تقاسم السلطة والثروة في التشكيل القادم؛ لأنّ هذه الأحزاب لا تمتلك قاعدة جماهيرية واسعة، بالتالي، رهانها على الشارع هو "كرت" ضغط فقط للحكومة، خاصة أنّها لا تملك وزناً انتخابياً".
اقرأ أيضاً: أعضاء "المؤتمر الوطني" المنحل بالسودان يحرضون لإسقاط الحكومة
ويرى الناشط محمد عثمان؛ أنّ المكوّن العسكري يمتلك دوراً كبيراً في الاقتصاد، يتحكّم عبره بعمل الحكومة، "دور المكون العسكري محدود في التشكيل الحكومي، لكنّه سيسطر على الحكومة بعد تشكيلها، وخير مثال على ذلك؛ أنّ الواردات والصادرات بيد جهات محسوبة عليه، ولا قيمة للحكومة في ظرف قائد ضعيف، ومستسلم للنظام البائد والمكوّن العسكري".
تحدّيات كبرى
ويثير الوضع السابق القلق حول قدرة الحكومة الجديدة على مواجهة التحديات الكبرى، خاصة في الاقتصاد والأمن، وما بعد الفترة الانتقالية، التي جرى تمديدها لمدة 39 شهراً، تبدأ من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
ويشهد السودان احتجاجات شعبية، بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية، وصعوبة إتاحة السلع الأساسية، مثل الخبز، إلى جانب الاضطرابات الأمنية التي يُتهم عناصر النظام البائد بالوقوف وراءها، فضلاً عن اضطرابات أمنية شهدتها مناطق دارفور.
وشهدت البلاد أزمة سياسية على خلفية تشكيل مجلس شركاء المرحلة الانتقالية، وانتقدت الحكومة وقحت التشكيل، والصلاحيات الواسعة التي حازها المجلس، مخالفة لما تمّ الاتفاق عليه في وثيقة جوبا، وانتهت الأزمة باجتماع رباعي لشركاء الحكم، تم خلاله التأكيد على الدور التشريعي للهيئة التشريعية المنتظر تكوينها.