لقيت ظاهرة إرهاب "الذئاب المنفردة" اهتماماً دولياً؛ سياسياً وأمنياً وبحثياً، منقطع النظير في الأعوام الأخيرة، خاصة في الغرب، باعتبارها أحد أبرز تجليات الإرهاب المعولم وتطورات السلفية الجهادية بمقارعة "العدو البعيد".
وزاد من حمى هذا الاهتمام استخدام تنظيم القاعدة هذا الأسلوب، ثم التوسّع في استخدامه من قبل تنظيم داعش، بعد العام 2014، خاصّة في الساحات الأوروبية والأمريكية، التي تركها نهباً للفوضى والرعب والعجز عن الردّ المناسب.
ورغم أنّ نسبة عمليات إرهاب "الذئاب المنفردة" عالمياً لا تشكّل إلّا (2%) من المجموع الكلي لعدد العمليات الإرهابية العام 2017، إلّا أنّ خطورته الأمنيّة-الاستخبارية، وتأثيره السيكولوجي، يفوقان بدرجات إرهاب الجماعات والتنظيمات.
والسؤال الذي يمكن أن يطرح هنا؛ هل استخدام إرهاب "الذئاب المنفردة" تكتيك مؤقت من قبل تنظيمات السلفية الجهادية، أم إستراتيجية طويلة الأجل في ظلّ الهزائم المتكررة لهذه التنظيمات، والضغط والملاحقة الحثيثة لها من قبل الدول والمجتمعات؟
إنّ ما يطلق عليه في أدبيات الإرهاب "الذئب المنفرد" ظلّ اتجاهاً فرعياً في الظاهرة، لكن سرعان ما أصبح ظاهرة بحد ذاته، منذ العقد الماضي؛ فحتى قبل هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 ضدّ أمريكا، كان هذا النوع من الإرهاب يعدّ من الموضوعات التي لا تلقى اهتماماً كبيراً من قبل الأجهزة الأمنية والاستخبارية في العالم؛ حيث كان اهتمام هذه الأجهزة يتركز على متابعة ومراقبة الجماعات الإرهابية المعروفة، وإن كانت نشاطات وتحركات بعض مصادر إنتاج الذئاب المنفردة، تحديداً في أمريكا، من جماعات اليمين المسيحي المتطرف والمليشيا المسلحة، تحظى بمراقبة شديدة من الأجهزة الأمنية، خاصّة مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، منذ العام 1990.
اقرأ أيضاً: إرهاب الذئاب المنفردة لدي سيمون: صرخة إنذار
يعود أول استخدام معاصر لهذا المصطلح إلى العام 1990؛ إذ كان أول من ابتدعه واستخدمه، الأمريكي توماس لينتون ميتزيغر، زعيم الجماعة العنصرية المتطرفة المعروفة في أمريكا، باسم "جماعة المقاومة الآرية البيضاء"، في ولاية أنديانا (التي تعدّ جزءاً من جماعة "تفوّق الأمة الآرية البيضاء")، وهي من جماعات النازية الجديدة، ولها ارتباطات مع جماعة "كو كلوكس كلان" المتطرفة، التي تنادي أيضاً بتفوق الجنس الآري، وتعادي السود واليهود والمسلمين والأقليات، كما تعارض الهجرة، وترفض دفع الضرائب للحكومة المركزية، وتصنّف في أدبيات الإرهاب الأمريكية تحت مصطلح فضفاض هو "اليمين المتطرف".
خطورة الذئاب المنفردة الأمنيّة الاستخبارية وتأثيرها السيكولوجي يفوقان بدرجات إرهاب الجماعات والتنظيمات
وكان ميتزيغر قد نشر على صفحته الشخصية دعوة إلى حمل السلاح، بعنوان "قوانين للذئاب المنفردة"، ودعا مريديه إلى العمل كمحاربين بشكل فردي، وبسرّية تامّة، تجنباً لمراقبة الأجهزة الأمنية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي المختص بالإرهاب الداخلي في أمريكا ضدّ الأهداف الحكومية وغيرها؛ لذلك فقد وصف مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي الأعمال التي نفذها أفراد من تلك الجماعة، منذ بداية العام 1990 حتى 1998، باسم "عمليات الذئب المنفرد"، خاصّة تلك العمليات التي ارتبطت باسم أحد أهم أتباع ميتزيغر واليمين المتطرف، وهو ألكساندر جيمس كورتيس الذي تمت ملاحقته من السلطات الأمريكية حتى محاكمته العام 2000.
وتطور استخدام المصطلح في أحضان اليمين المسيحي المتطرف في أمريكا؛ ففي العام 1983، قام لويس بيم، القيادي المهم في اليمين المسيحي المتطرف، وعضو جماعة الكلان والمقاومة الآرية البيضاء، وله تأثير كبير على اليمين المتطرف في الفترة، التي أعقبت حرب فيتنام حتى الآن، بنشر ما يمكن أن نطلق عليه (مانفستو) "المقاومة بلا قيادة"؛ حيث كان يقول لأتباعه: إنّ "مجموعة صغيرة؛ أو فرد يمكن أن يواجه أقوى حكومة على وجه الأرض".
ثمّ، ومنذ أواخر التسعينيات؛ أخذ استخدام المصطلح في الانتشار أكثر خاصة في الصحافة ووسائل الإعلام الأمريكية المشهورة؛ فعلى سبيل المثال نشرت صحيفة النيويورك تايمز في 16آب (أغسطس) 1999؛ أي بعد عام من نشر معلومات مكتب التحقيقات الفيدرالي "عمليات الذئب المنفرد"، مقالة مهمة بعنوان (الوجه الجديد لجرائم الإرهاب "الذئاب المنفردة" يتغذى على الكراهية)، ومنذ ذلك التاريخ لوحظ بأنّ استخدام المصطلح تحرك ورحل من دائرة استخدام جماعات اليمين المتطرف ومكتب التحقيقات الفيدرالي الذي يتابعها، إلى الاستخدام الأوسع في وسائل الإعلام والنشر والبحث.
اليوم؛ تعتبر ظاهرة "إرهاب الذئاب المنفردة" ظاهرة متخطية للأيديولوجيات والأديان؛ بعد أن كانت اتجاهاً فرعياً في ظاهرة الإرهاب بشكل عام في العقد الماضي، وهي مرتبطة، وعلى علاقة مباشرة وقوية، بسيرورة العولمة وآلياتها التكنولوجية والثقافية.
يرى باحثون غربيون أنّ الذئاب المنفردة تشكّل الموجة الخامسة من ظاهرة الإرهاب العالمية
وقد تحولت لتصبح ظاهرة مهمة وخطيرة جداً، خاصة بعد ظهور تنظيم القاعدة والاهتمام العالمي بظاهرة إرهاب وتوحّش تنظيم داعش، بعد العام 2014.
وانتشرت الظاهرة في حقبة العولمة المعاصرة؛ لأنّه بات من المعروف أنّ تنظيم القاعدة، منذ العام 2011؛ ثم تنظيم داعش مستخدماً سيرورة العولمة وآلياتها التكنولوجية، قد حفَّز ودعا إلى حرب مفتوحة باستخدام هذا التكتيك أو الأسلوب، على كافة الأعداء، دون انتظار التوجيه أو الأوامر من القيادة، حتّى إن لم يطلق على العمليات التي نسبِت إليه، أو نسبها إلى نفسه، اسم الذئب المنفرد، ويرى بعض الباحثين في الغرب؛ أنّ ظاهرة إرهاب الذئاب المنفردة يشكّل "الموجة الخامسة" من ظاهرة الإرهاب العالمية، أو "العدو المرعب رقم واحد في العالم".
يبدو أنّ استخدام أسلوب الذئاب المنفردة من قبل الجماعات السلفية التكفيرية المقاتلة، لن يخرج عن كونه تكتيكاً متوسط الأجل، يمكن أن يستخدمه، بين الحين والآخر، خاصة ضدّ العدو البعيد، لكنّه لن يتطور ليصبح إستراتيجية، نظراً إلى الكثير من المحددات والأفكار الرئيسة في سرديات السلفية الجهادية المقاتلة، التي تركز على الهدف النهائي، بإقامة دولة الخلافة، والتمكين والتوسع والبقاء على الأرض، واستخدام أسلوب الذئاب المنفردة لا يحقق هذا الشرط.