ظلّ إرهاب ما يطلق عليه في أدبيات الإرهاب "الذئب المنفرد"، اتجاهاً فرعياً في الظاهرة، لكنّ سرعان ما أصبح ظاهرة، في حدّ ذاته، منذ العقد الماضي.
فحتى قبل هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 ضدّ أمريكا؛ كان هذا النوع من الإرهاب يعدّ من الموضوعات التي لا تلقى اهتماماً كبيراً من قبل الأجهزة الأمنية والاستخبارية في العالم؛ حيث كان اهتمام هذه الأجهزة يتركز على متابعة ومراقبة الجماعات الإرهابية المعروفة، وإن كانت نشاطات وتحركات بعض مصادر إنتاج "الذئاب المنفردة"، في أمريكا تحديداً، من جماعات اليمين المسيحي المتطرف والمليشيا المسلحة، تحظى بمراقبة شديدة من الأجهزة الأمنية، خاصّة مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكي، منذ عام 1990. وكانت أكبر وأخطر العمليات في أمريكا، وفي تاريخ هذه الظاهرة؛ عملية "الذئب المنفرد تيموثي مكفي" (في 19 آذار (مارس) 1995) التي قُتل فيها 168 شخصاً، وجُرح 680 شخصاً.
أعقبَ هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، ردٌّ واسع النطاق وقوةٌ غاشمة في الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، التي انتهت بسقوط طالبان في أفغانستان، واحتلال العراق عام 2003، والتعاون الدولي الواسع ضدّ الإرهاب، ما أدّى إلى تقلص كبير في العمليات الإرهابية التي تنفّذها الجماعات الإرهابية المعروفة، مثل؛ القاعدة آنذاك، لكن هذا الوضع لم يستمر طويلاً.
استيقظ العالم في 22 تموز 2011 على أهمّ وأخطر عمليات الذئب المنفرد حيث أقدم المتطرف القومي، أندريس بهرنغ بريفيك، على قتل 77 شخصاً في النرويج
ذلك أنّه، في 22 تموز (يوليو) 2011، استيقظ العالم على أهمّ وأخطر عمليات الذئب المنفرد، وهذه المرة في النرويج، البلد الوادع، وجنة اللاجئين في العالم؛ حيث أقدم المتطرف القومي، أندريس بهرنغ بريفيك، على قتل 77 شخصاً، وجرح 319 شخصاً، بدوافع مختلفة، منها: الكره للأجانب. ونلاحظ خلال هذه الفترة؛ أنّ هذا النوع من الإرهاب كان يأخذ طابع الإرهاب القومي المسيحي المتطرف، ثمّ استمر مسلسل هذا التوحّش، حتى وصل نقطة الانعطافة المهمة، مع بروز إرهاب تنظيم داعش، في بداية عام 2014، رغم وجود بعض العمليات التي تنسب إلى تنظيم القاعدة قبل ذلك التاريخ، مثل: عملية نضال مالك حسن، الرائد في الجيش الأمريكي في قاعدة فورد هود تكساس العام 2009، الذي قتل في عمليته 13 شخصاً، وجرح 32 آخرين، قبل أن يأتي الإرهابيّ من أصول أفغانية، عمر متين، المرتبط بتنظيم داعش، ليقتل 49 شخصاً، ويجرح 53آخرين، في نادٍ ليلي للمثليين في أورلاندو، وذلك في 12 أيار (مايو) 2016، التي تصنّف على أنّها أهم عمليات الذئب المنفرد في التاريخ الأمريكي، حتّى الآن.
لقد استطاع جيفري دي سيمون، المحلل السياسي السابق في مؤسسة راند الأمريكية، ومدير شركة تحليل المخاطر السياسية، والمحاضر في الإرهاب في جامعة جنوب كاليفورنيا، الذي يعدّ من أهم منظري دراسة الإرهاب الآن، بخبرة تمتد إلى أكثر من 25 عاماً في دراسة الإرهاب، أن ينفذ إلى الكثير من تفاصيل ظاهرة إرهاب الذئاب المنفردة، وعدّها نوعاً جديداً وخطيراً ومرعباً، ومرشَّحاً للزيادة في المستقبل. وهذا ليس بغريبٍ على باحث مثل سيمون، الذي اشتغل على دراسة الإرهاب، وأساليب كفاحه، لأكثر من 25 عاماً، عملاً ودراسة وتأليفاً؛ حيث كتب عام 1986 عن اختطاف سفينة أكيلي لاورو الإيطالية، التي اختطفتها جماعة جبهة التحرير الفلسطينية، أبو العباس، في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1985، قبالة السواحل المصرية، وقتل فيها شخص يهودي. وكتاب "ثورة بلا ثوّار" عام 1989، وكتاب "الإرهاب واحتمالية استخدام الأسلحة البيولوجية" عام 1989، وكتاب "مصيدة الإرهابيين: التجربة الأمريكية مع الإرهاب" عام 2001.
ثم كتاب "إرهاب الذئاب المنفردة: الخطر المتزايد"، الطبعة الأولى 2013، والطبعة الثانية عام 2016، الذي نقدّم له المراجعة هنا (من اللغة الإنجليزية لأنّه غير مترجم إلى العربية)، مع تحديث ومقدمة للمنظر والباحث في الإرهاب في مؤسسة راند براين مايكل جنكينز.
وفي هذا الكتاب؛ الذي يقدّم أول معالجة شاملة للظاهرة تفيد الأكاديميين والخبراء والسياسيين، والرأي العام، استعراض واضح وعميق ومهم لتاريخ ظاهرة الإرهاب، بشكلٍ عام منذ عام 1880، حيث يمكن وصف كتابه بأنّه "صرخة إنذار" وسط كلّ الأطراف المهتمة بقضية مكافحة خطر الإرهاب، خاصة عندما يؤكّد بأنّ الذئاب المنفردة أثبتوا أنّهم أكثر خطورة من إرهابي الجماعات والتنظيمات الإرهابية، وأنّهم أكثر إبداعاً في تنفيذ عملياتهم من الجماعات والتنظيمات، وأنّهم ليسوا فقط مسلمين ينتمون إلى جماعات وتنظيمات إسلامية؛ بل إلى مختلف الديانات والعقائد والأيديولوجيات، وهذا ما نلمسه بوضوح عند استعراض عمليات الذئاب المنفردة في أمريكا وأوروبا، من قبل الجماعات القومية الدينية المسيحية المتطرفة.
مسلسل التوحّش وصل نقطة الانعطافة المهمة، مع بروز إرهاب تنظيم داعش
ويحذّر الكتاب من الاستخفاف بظاهرة الذئاب المنفردة، خاصّة جهة دراسة الظاهرة، وكأنّها لجماعات إرهابية منظمة بشكل جيد؛ لأنّ هذا يقود عادة إلى الفشل والخطأ، خاصّة إذا انتهى بشنّ حرب بوحدات عسكرية ضخمة. في المقابل؛ يدّعي أنّ مكافحة إرهاب الذئاب المنفردة تشبه أكثر الممارسات والأساليب البوليسية، التي تحارب عصابات المافيا الإجرامية، أو تطارد الجرائم الفردية.
يستعرض سيمون كافة أهداف الذئاب المنفردة، ودوافعهم، والبيئات الخاصة بهم، والتي خرجوا منها. ويؤكّد أنّ هناك أنواعاً للذئاب المنفردة، يقسمها إلى 5 فئات، هي:
1- العلمانيون: هم الذين يرتكبون أعمالهم لأهداف اقتصادية.
2- الدينيون: هم الذين يرتكبون أعمالهم باسم الله مثل؛ داعش وبوكو حرام والقاعدة وغيرها في أوروبا وأمريكا وآسيا.
3- ذئاب القضية المحددة، وهم الذين يرتكبون أعمالهم لأهداف وقضايا محددة، مثل؛ معارضة الإجهاض، وحماية البيئة، والحيوانات.
4- الذئاب المجرمون أو الجرائم المنظمة.
5- الذئاب المضطربون نفسياً، الذين يعانون من مشكلات نفسية، مثل؛ البرانويا والشيزوفرانيا.
لا توجد ترجمة عربية للكتاب، وتأتي مراجعة السعود لأن الكتاب يقدم أول مراجعة شاملة لظاهرة الذئاب المنفردة
ويشير إلى أهمية آليات العولمة التكنولوجية في نشر هذا النوع من الإرهاب، ويؤكّد أنّ شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، زوّدت الذئاب المنفردة بالتربة والقاعدة المناسبة للحركة والحرية، والسهولة في تنفيذ عملياتهم الإرهابية المتوحشة، لكنّه، على عكس الكثير من المنظرين، يشير إلى أنّ هذه التكنولوجيا ستكون سبباً في القضاء عليهم أيضاً، من خلال الاستخدام المناسب من قبل الأفراد والجماعات والدول.
ويلفت النظر إلى أنّ هناك انخفاضاً في نسبة مساهمة النساء في ظاهرة الذئاب المنفردة، غير أنّه يحذّر، في الوقت نفسه، من أنّ هذا يمكن أن يتغير في المستقبل، نحو المزيد من مشاركة النساء.
وفي مجال مكافحة إرهاب الذئاب المنفردة، يقول: "إنّه ليس هناك خطأ في عمليات وأساليب المواجهة، في سبيل الردّ السريع والمناسب لمنع هذا الإرهاب".
ويدعو إلى المزيد من التركيز على ما يسمى "علم المقاييس الحيوية"، وهو: "علم تحقيق شخصية الإنسان عن طريق مكونات الأجسام البشرية؛ لأنّه يضم وسائل التعرف إلى الهوية للأشخاص تلقائياً، على أساس الصفات الشكلية والفسيولوجية والتشريحية الخاصة بكلّ شخص، وتتصدّر هذه الأدلة أمنياً: بصمات الأصابع وراحة الكف والأقدام، أو ملامح الوجه، أو الصوت، أو هندسة اليد، أو حدقة العين، بما لها من تفرّد يشير إلى فردية كلّ إنسان، ويمكن لأجهزة الكمبيوتر، عن طريق العلامات والنقاط المميزة، مضاهاتها في ثوانٍ والتعرف إلى هوية الشخص؛ نظراً إلى أنّ هذه الأعضاء تتميز بتفردها في كلّ شخص، مثل؛ بصمات أصابع اليد وراحة الكف والأقدام. وكلّ أجهزة المقاييس الحيوية تستخدم كلّ المبادئ العامة، وهذه المقاييس تعالج، من خلال البرمجة وتشفير السمات الفريدة لكلّ شخص، وتخزن في قاعدة البيانات لمضاهاتها بملامح وسمات المشتبه فيهم. لهذا نجد أنّ نظم المعلومات في وسائل المقاييس الحيوية، تعدّ وسيلة سريعة ودقيقة، ويمكن استخدام أكثر من وسيلة منها للتعرف إلى هوية الشخص، فعندما تحدث عملية إرهابية، أو تهديد بها، أو رصدها، تكون الأجهزة الاستخبارية وراءها بالمرصاد، للكشف عن كوامنها ومرتكبيها".
وفي النهاية؛ يدّعي سيمون بأنّه بالإمكان مواجهة خطر الذئاب المنفردة، رغم صعوبة ذلك، من خلال اعتماد سياسات وإستراتيجيات مطوَّرة ومُبدعة، تمكّن من تحقيق أهداف: الحيلولة دون إرهاب الذئاب المنفردة، والرّد السريع عليه في آنٍ معاً. وأعتقد بأنّ معضلة الأجهزة الأمنية المكلَّفة بمكافحة الإرهاب تكمن هنا، بشكلٍ عام.