
على الرغم من مرور عدة أعوام على سقوط جماعة الإخوان من الحكم في مصر وخروجها من المشهد السياسي، ورغم ما أصابها من ضعف خلال تلك الأعوام، سواء بسبب الإجراءات المتبعة تجاهها أو من خلال الانقسامات الداخلية التي حدثت بها؛ إلا أنّ الأمل لدى الجماعة لم ينقطع طوال تلك الفترة في العودة مرة أخرى، وقد زاد من هذا الأمل مؤخراً حدثان مهمّان؛ الأوّل عملية طوفان الأقصى، والثاني سقوط نظام الأسد في سوريا وصعود الإسلاميين إلى الحكم.
فالجماعات الدينية، مثل جماعة الإخوان، بطبيعتها لا تفقد الأمل في تحقيق أهدافها بدرجة كبيرة، وهذا يعود أوّلاً إلى الأساس الديني الذي تنطلق منه، حيث ترى أنّ أهدافها بمثابة تكاليف دينية يجب السعي لتحقيقها، كما أنّها تعتقد بأنّ مجرد المحاولة والسير في الطريق الذي يؤدي نحو الهدف يلقي من على كاهلها مسؤولية تنفيذ تلك التكاليف ويجعلها تحظى بالرضا الإلهي، أيضاً فإنّ طبيعة الصراع القائم بين الجماعة والدولة يجعلها تراه صراعاً صفرياً، حيث تعتقد أنّ تخلصها من الآثار التي وقعت عليها كنتيجة للإجراءات المتبعة تجاهها منذ 2013 لن يحدث إلا من خلال تغيير النظام الحاكم.
وقد كشف العديد من اللقاءات والبرامج التي تجريها الجماعة بجبهاتها المختلفة مؤخراً، سواء على قنواتها الفضائية أو منصاتها الإلكترونية على وسائل التواصل، عن رؤيتها لمستقبل التغيير في مصر، خاصة على إثر تلك الأحداث والتحولات الأخيرة. فما هي ملامح خطة جماعة الإخوان لهذا التغيير، وهل الانقسام الحاصل في الجماعة يؤثر على مستقبلها، وهل فقدت الجماعة الحاضنة الشعبية التي كانت تتمتع بها ممّا يقلل من فرص عودتها، أم أنّها ما تزال تحتفظ بها؟
الإخوان بين الانقسام الداخلي وفقدان الشعبية
رغم الانقسام الحاصل داخل جماعة الإخوان، والذي أفضى بها إلى (3) مجموعات متصارعة؛ إلا أنّ الأمر لا يعكس خلافاً جذرياً فيما بينها يصعب معه أن تعود تلك المجموعات جماعة واحدة كما كانت من قبل، فالانقسام له سببان رئيسيان؛ الأوّل بسبب الاختلاف حول بعض القيادات التي تم توجيه اتهامات لها بالفساد والتسبب في إضعاف الجماعة وخسارتها في صراعها مع الدولة، وهذا الخلاف من الممكن تجاوزه حال تغير بعض الأوضاع داخل الجماعة واستبعاد بعض القيادات، والثاني بسبب الاختلاف حول مسار القوة في مواجهة الدولة، وهذا الخلاف لم يكن خلافاً فكرياً حول مبدأ استخدام القوة نفسه، لكنّه كان خلافاً حول مدى جدوى ذلك المسار وأثره على الجماعة؛ ولذلك من الممكن، في سياق معين وحال حدوث تغيرات في المشهد السياسي، أن تعود تلك المجموعات، ولاعتبارات براغماتية، إلى الالتئام مرة أخرى كجماعة واحدة، ربما مع حدوث انشقاقات بسيطة، وهذا الأمر يجعل قدرة الجماعة على التأثير مستقبلاً أكبر من حال بقاء حالة الانقسام قائمة.
وعلى جانب آخر فإنّ الجماعة رغم فقدانها جزءاً من حاضنتها الشعبية بعد 2011، وتحول شريحة من المجتمع من موقف التأييد والتعاطف مع الجماعة إلى موقف الرفض، إلا أنّ هناك عدداً من العوامل تسهم في استمرار تلك الحاضنة؛ أبرزها وجود أزمات اقتصادية واجتماعية تمثل للجماعة مناخاً ملائماً تستطيع توظيفه لصالحها، كذلك فإنّ مكانة الدين القوية في المجتمع تجعل الجماعات الدينية قادرة على التأثير بشكل كبير، كما أنّ درجة الوعي في المجتمع لم تبلغ الحد الكافي الذي يجعل عيوب الجماعة من حيث أفكارها ومشروعها وضرره على الدولة المصرية واضحاً إلى حد كبير لدى شريحة كبيرة من الأفراد، ويترتب على هذا أنّ الجماعة ما تزال قادرة على التأثير إذا ما أتيحت الفرصة لها مرة أخرى.
ثلاث استراتيجيات للجماعة
من خلال متابعة كتابات ولقاءات عدد من رموز الجماعة يتضح أنّها تعمل من خلال (3) استراتيجيات مختلفة من أجل التغيير الذي تأمل معه أن تعود إلى قلب المشهد السياسي والاجتماعي في مصر:
1- الانتظار: تلعب الجماعة على عنصر الزمن من أجل إحداث التغيير المنشود، واستراتيجية الانتظار ليست كما تبدو مجرد أمر بسيط أو فعل سلبي، ولكنّها أداة الجماعة طوال تاريخها في تجاوز الأزمات والمحن التي مرت بها في مراحل مختلفة، فهو أداة من أدوات الصراع التي تستخدمها الجماعة تجاه الأنظمة الحاكمة، حيث تتلقى الصدمات، وحين تفشل في مواجهتها والتغلب عليها تلجأ إلى الدخول في حالة من الكمون تغير خلالها طريقة عملها وتمارس أنشطتها بطرق مختلفة معتمدة على عنصر الزمن انتظاراً لحدوث تغيير ما في الأوضاع السياسية يسمح لها بالعودة مرة أخرى، ولو بشكل تدريجي، كما حدث معها من قبل بعد مجيء السادات، فالجماعة اليوم لديها قناعة راسخة بأنّ الأوضاع في مصر سوف تتغير في وقت ما، وفي الفترة الأخيرة وبعد صعود الإسلاميين في سوريا بات لديها يقين بأنّ هذا الوقت قريب، ومن خلال تصريحات لبعض قيادات الجماعة من جبهة المكتب العام فإنّه يبدو أنّهم يعوّلون في تغيير النظام السياسي، إمّا على حدوث انقلاب داخلي نتيجة ما يتم ترويجه من جانبهم بوجود خلافات داخلية في مؤسسات الدولة، وإمّا من خلال احتجاجات شعبية نتيجة الأزمات الاقتصادية، أو من خلال تدخل خارجي، ويعوّلون في ذلك على الخلاف الأمريكي المصري حول قضية تهجير سكان غزة.
وتعكس هذه الاستراتيجية إدراك الجماعة لعجزها عن تغيير الأوضاع بشكل مباشر والاعتماد على أسباب خارجة عنها لإحداث التغيير، كما تعكس عدم حدوث تغيير في عقل الجماعة، وأنّها لم تتعلم من التجربة ولم تستفد، ولم تدرك العيوب المتعلقة بأفكارها وطبيعة مشروعها، وأنّ ذلك كان سبباً رئيسياً فيما وصلت إليه من إخفاق وضعف، فخلال تلك الفترة لم تقم بمراجعة تجربتها ولا ممارسة النقد الذاتي لأفكارها وممارساتها، لاعتقادها بأنّ أفكارها تمثل الإسلام، وبالتالي أيّ نقد أو مراجعة لها هو بمثابة تشكيك في مرجعيتها الدينية، لذلك هي تنتظر فقط وتعوّل على عنصر الزمن لتجاوز محنتها.
2- التهيئة: تعمل الجماعة من خلال هذه الاستراتيجية على تهيئة المجتمع للتغيير، سواء من خلال الدفع به نحو هذا التغيير، أو تقبله حال حدوثه، والهدف الذي تعمل عليه هنا هو زيادة حجم الغضب الشعبي وتوسيع مساحة الرفض تجاه النظام الحاكم، ويتم ذلك من خلال عدد من الأدوات؛ منها توصيف النظام بتوصيفات معينة مثل أنّه يحارب الدين ويبيع الدولة ويساهم في حصار غزة، ومنها التوظيف الإعلامي للأحداث المحلية والإقليمية والأزمات والتحديات التي تمر بها الدولة للهجوم عليها، ونقد سياساتها بشكل يؤدي إلى تأليب الرأي العام ضدها والعمل على زيادة مساحة الكراهية للنظام، ومنها توظيف التغيرات السياسية في سوريا لترسيخ قناعة بأنّ الوضع هناك أفضل من مصر من حيث الحريات وتطبيق الشريعة.
3-الإعداد: الدرس الأهم الذي تعلمه الإخوان، أو الغالبية منهم، من تجربة الثورة والحكم، أنّهم لم يكونوا ثوريين بالقدر المطلوب، وأنّهم لم يتخذوا إجراءات أشدّ تجاه مخالفيهم أو تجاه بعض مؤسسات الدولة وبقايا النظام السابق، وأنّهم لم يكونوا يمتلكون الأدوات اللازمة للعمل السياسي وإدارة الدولة، وقد أدرك العديد منهم هذا الأمر في الأعوام الأخيرة؛ لذلك اتجهوا نحو دراسة العلوم الإنسانية في العديد من الجامعات في تركيا وقطر وبعض الدول الأوروبية وأمريكا، من أجل توفير نخبة مثقفة تستطيع أن تدير العمل حال حدوث تغيير في الأوضاع السياسية في مصر، وربما بعد التحولات الأخيرة في سوريا نستطيع أن نفكر في احتمالية أنّ تركيا لها دور في تشكيل هذه النخبة، حيث تمثل بالنسبة إليها البديل الذي تعمل على إعداده وتدريبه ليكون فاعلاً مهمّاً في العملية السياسية حال حدوث تغيير في مصر على غرار ما حدث في سوريا، حيث إنّ كثيراً من الكوادر التي تتولى إدارة الدولة الآن في سوريا هم ممّن عاشوا في تركيا بعد الربيع العربي، ودرسوا فيها وتعلموا لغتها وتشربوا ثقافتها، ومن ثم أصبحوا أداة لتركيا تعمل من خلالها على توسيع نفوذها الإقليمي، وربما تريد تركيا تكرار التجربة نفسها مع الإخوان المصريين الذين يقيمون هناك منذ أعوام، وأصبح لديهم انتماء قوي للدولة التركية.
يوضح هذا الأمر في بوست منشور له على موقع (فيسبوك) حذيفة زوبع، نجل القيادي الإخواني حمزة زوبع، حيث يقول: "كنت حاضراً اليوم في ورشة عمل عن التخطيط الاستراتيجي السياسي، أغلب الحضور كانوا مصريين، ودوّنت عدة ملاحظات اجتماعية وسياسية وحوارات مع الحاضرين أعتقد أنّها مهمة في رسم ملامح لجيل سياسي مصري يتشكل في تركيا؛ أوّلاً تنوّع ونوعية التخصصات من الفن وصناعة الأفلام للهندسة والطب وعلم الاجتماع والتربية والتدريس، تخصصات مختلفة وتغطي قدراً كبيراً من المجالات، وعلى المستوى النوعي بعض الحضور كانوا متخصصين في أمور نوعية وملفات حساسة مثل العقيدة العسكرية في أوقات الحروب، وضبط العلاقات المدنية العسكرية، والتصنيع والهندسة لخدمة وتعزيز الأمن القومي عبر مشاريع مربحة للبلد، وقابلت شاباً موسوعياً حقيقياً، إنّه عقل متقد قادر على الحديث في التاريخ العربي والروماني وصلح ويستفاليا، ونظريات الجويني في السياسة الشرعية، وتجديد الشيخ القرضاوي، وأزمة التنظيمات الإسلامية، ثانياً من حيث حبّ البلد فإنّ بعض الشباب لا يبدي عاطفة كبيرة في كلامه عن مصر، لكنّهم كل يوم يسألون أنفسهم سؤالاً واحداً: لماذا لا يعيش أهلنا في مصر في الأوضاع نفسها التي يعيشها الناس في تركيا وأوروبا؟ حبهم للبلد يعبّرون عنه من خلال دراستهم وشغلهم، هناك شغف حقيقي بمستقبل مصر والمساهمة في تشكيله مع الطيف السياسي المصري"، كما يقول القيادي في جماعة الإخوان يحيى موسى إننا أمام جيل جديد من الإسلاميين يختلف عن جيل الإسلاميين الذي شارك في الربيع العربي.
ومن الأمثلة الأخرى في إطار استراتيجية الإعداد ما ذكره المتحدث السابق للجماعة محمد منتصر في "بودكاست" منذ شهرين بأنّهم يقومون بعمل دراسات على جيل زد من حيث التعرف على ثقافته وطريقة تفكيره وكيفية الاستفادة منه في التغيير المنشود، ويقول إنّ هذا الجيل مختلف ولديه شجاعة وجرأة وحب للتجريب والمغامرة، وبما أنّه يعيش في أوضاع اقتصادية واجتماعية سيئة؛ فإنّه سوف يكون لديه الرغبة في التغيير، ومن ثم يجب العمل على الاستفادة منه في ذلك.
وعن أدوات الجماعة في التغيير يقول يحيى موسى، فيما معناه، إنّ التغيير لا يمكن أن يتم دون كلفة، وإنّ الثورات البيضاء أو المخملية هي أكذوبة، وإنّ الثورة يجب أن تستخدم كل ما يلزم من أدوات في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة، ويعني كلامه أنّ العنف والخسائر المادية والبشرية هنا بمثابة آثار جانبية لا بدّ أن تحدث.
خاتمة
إنّ التعامل مع ظاهرة الحركة الإسلامية ينبغي ألّا يتم بصورة سطحية كما يحدث في كثير من الأحيان، فالحركة الإسلامية لها جذور عميقة في المجتمع، وتساعدها عوامل وظروف موضوعية على الاستمرار والتأثير، والجزم بانتهائها وعدم إمكانية عودتها إلى دائرة التأثير مرة أخرى هو أمر غير صحيح بدرجة كبيرة، فهي لم تتوقف عن الحضور والتأثير طوال الأعوام السابقة، لكن ما يمكن التعويل عليه هو ارتفاع درجة الوعي في المجتمع بالشكل الذي يقلل من حدة هذا التأثير، ويساهم في عدم تكرار التجارب والأخطاء نفسها.