تدرك جماعة الحوثي ضعف حاضنتها الشعبية، وقلّة عددها في اليمن؛ لذلك شرعت في توسيع هذه الحاضنة، عبر حوثنة الشعب اليمني في المناطق الخاضعة لسيطرتها، شمال البلاد، والتي تبلغ مساحتها ثلث مساحة اليمن، ويعيش فيها ثلثا سكان البلاد.
وتبنّى الحوثيون سياسة ابتلاع المجتمع اليمني؛ فكرياً وإدارياً ومؤسساتياً، عبر السيطرة الفكريّة والثقافيّة والإداريّة على المؤسسات، خصوصاً التربوية والتعليمية والثقافية.
على خطى الملالي في إيران؛ شرع الحوثيون في تغيير المناهج التعليمية، وإقامة معسكرات صيفية للطلاب والشباب، لنشر العقيدة الحوثيّة بينهم، لتوسيع قاعدة الموالين لهم
وعلى خطى نظام الملالي في إيران؛ شرع الحوثيون، منذ 2015، في تغيير المناهج التعليمية، وإقامة معسكرات صيفية، للطلاب والشباب، لنشر العقيدة الحوثية بينهم، لتوسيع قاعدة الموالين لهم، والحصول على مورد لا ينضب من المقاتلين العقائديين، بعد نزيف الدم الذي استهلك الكثير من جماعتهم.
ولمدة طويلة؛ ساد تصور عن زيدية الحوثيين كفرقة شيعية، إلا أنّ السنوات الأخيرة من سيطرتهم على صنعاء كشفت تقارباً كبيراً بين الأفكار والعقائد الحوثية، ومذهب الإمامية الإثني عشرية وفق الرؤية الإيرانية.
حوثنة المجتمع
في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي؛ نشر المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية تقريراً عن الصراع في اليمن، تناول الصعود العسكريّ والسياسيّ للحوثيين، ثمّ آليات سيطرتهم، الفكريّة والإداريّة والاجتماعيّة، على السكان، الذين ينتمي أغلبهم إلى المذهب السنّي الشافعي.
ورصد التقرير بدء الحوثيين لنشاطهم العقائدي بين الأوساط اليمنية، عقب الإطاحة بالرئيس السابق، علي عبد الله صالح، عام 2011، حين ضعفت القبضة الأمنية للحكومة على محافظة صعدة، المقرّ الأم للحوثيين.
وجاء فيه: "استخدم الحوثيّون مشاركتهم في الحركة المناهضة لصالح لنشر معتقداتهم السياسية والأيديولوجية، وكذلك لاكتساب الخبرة في نشاط المجتمع المدني".
وعقب سيطرتهم على صنعاء، في عامَي 2014 و2015، أنشأ الحوثيون لجنة قامت بمراجعة مناهج المدارس الابتدائيّة والثانويّة لتناسب أيديولوجيتهم، وتدرّجت الجماعة في فرض رؤيتها الاجتماعية على الشعب اليمني.
ففي 2018؛ أصدرت الميليشيا تعميماً للمدارس الحكومية والأهلية في صنعاء والمحافظات الخاضعة لسيطرتها، بمنع الغناء والفرق الموسيقية والاستعراضية أثناء الاحتفالات المدرسية، مشدّدة على ضرورة أخذ إذن مسبق بإقامة الاحتفالات من قبلها.
وتضمّن التعميم؛ شروط إقامة الحفلات المدرسية، من بينها؛ فصل البنين عن البنات، وفصل حفلات تخرّج الذكور عن حفلات تخرّج الإناث، وألّا يتضمّن برنامج الحفل أياً من الفرق الموسيقية الغنائية والاستعراضية الراقصة، وإظهار الفقرات بمواهب دينية ووطنية واجتماعية، ولبس الزيّ الشعبيّ، وتجنّب الفقرات التي تحمل في طيّاتها الثقافة الغربية.
وفي آذار (مارس) العام الماضي؛ أجبرت ميليشيا الحوثي المعلمين في عدد من المحافظات على المشاركة في الدورات العقائدية، على تهديد من يتغيّب بإسقاط اسمه من كشوف الرواتب، وفق ما نشره موقع "العين" الإخباريّ.
ويستهدف الحوثيون التعليم الأساسي والجامعي بشكل كبير، كمدخل لتغيير الشباب كمرحلة أولى، يعقبها تغيير المجتمع ككلّ خلال عدّة سنوات، مستخدمين في ذلك مقاربتين؛ الأولى أيديولوجية، والثانية أمنية.
وضمن المقاربة الأيديولوجيّة؛ يهدف الحوثيون إلى تغيير فكر الكادر التعليميّ، كي يمرّرون عبره أيديولوجيتهم إلى الطلاب والطالبات، إلى جانب الأنشطة والمعسكرات الدعويّة التي يجبر الطّلاب على حضورها.
ونال التعليم الجامعيّ نصيباً أشدّ من نشر الأيديولوجيا الحوثية؛ نظراً إلى حاجة الحوثيين إلى فئة الشباب في جبهات القتال، وخطورة تخريج هذه الفئة دون ولاء لهم.
واستهدف الحوثيون الأكاديميين الجامعيين، وأعادوا هيكلة الجامعات، حتى تحوّلت إلى مراكز دعويّة لهم؛ ففي جامعة صنعاء شكّل الحوثيون كيانات طلابية موازية لاتحاد الطلبة، من بينها "الملتقى الطلابي"، الذي ينفذ عدداً من المحاضرات تهدف إلى تغيير هويّة الشباب والطلاب وفكرهم وثقافتهم، فضلاً عن تغيير توجهات التعليم الجامعي ومسخ الهوية الوطنية،والترويج لنظرية الأحقية الحوثية في الحكم، استناداً على الانتساب إلى الهاشميين.
وعام 2014؛ تمّ تأسيس قسم اللغة الفارسية، في كلية اللغات، بجامعة صنعاء، وتخرّجت الدفعة الأولى العام الجاري، وحملت اسم "دفعة قاسم سليماني"، وضمّت طلاباً مقرّبين من جماعة الحوثي، ويتبنون أيديولوجيتهم، وتكوّن الكادر التعليمي من حوثيين درسوا في إيران، وأعضاء من الملحقية الثقافية الإيرانية في صنعاء.
اقرأ أيضاً: قبل انتهاء ولايته... هل سيتخذ "ترامب" هذه الإجراءات بخصوص إيران والحوثيين؟
وتمتدّ عمليّة الأدلجة إلى موظفي الدولة، ووضع الحوثيون مقاربتين لضمان ولائهم؛ الأولى أيديولوجية، والثانية رقابية، عبر تعيين الموالين لهم في مواقع إشرافية على جميع فروع الجهاز الإداري الحكومي.
ونشر موقع "العين" الإخبارية تقريراً، في آب (أغسطس) العام الماضي، عن تنظيم الحوثيين دورة تعبئة مذهبية وعقائدية لمعظم وزراء الحكومة، ووكلاء الوزارات، باسم "الدورة الثقافية"، والتي حاضرت فيها شخصيات إيرانية.
وفي تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، نشر وزير الإعلام اليمني، معمر الإرياني، عدّة تغريدات عبر تويتر، كشف فيها عن تغيير الحوثيين المناهج الدراسية في البلاد.
وقال الإرياني، عبر حسابه على "تويتر"، أمس: إنّ "الحوثيين يواصلون العبث بالمناهج التعليمية في مختلف الصفوف الدراسية، وتسميم عقول الآلاف من أطفالنا في مناطق سيطرتهم، بالمعلومات المضللة التي لا تمتّ للواقع بصلة، والأفكار الإرهابية المتطرفة المستوردة من إيران والبعيدة عن ثقافة اليمنيين، وهويتهم التاريخية والحضارية".
وتعليقاً على ذلك؛ يقول رئيس تحرير صحيفة "الأزارق" اليمنية، أبو سياف الحميد: "حوّل الحوثيون أيديولوجيتهم، التي تسمى "الملازم الحسينية"، التي وضعها بدر الدين الحوثي، وابنه حسين من بعده، إلى مناهج دراسية، تٌفرض على الطلاب في المدارس الإبتدائية والإعدادية والثانوية العامة، ومختلف الكليات في جامعة صنعاء، وبقية المحافظات".
ويردف الحميد، لـ "حفريات": "ومن تلك الملازم المنهجية التي تحاول جماعة الحوثي غرسها في عقول الأجيال عن طريق المدارس، ملازم فرعية باسم قاسم سليماني، تمّ إعدادها وتأليفها من قبل جماعة منهم، بالاشتراك مع بعض علماء حزب الله وطهران، لا سيما بعد مصرع قاسم سليماني".
وذكر الحميد؛ أنّ الجماعة تنظّم حلقات ودورات يتمّ فيها تدريس تلك الملازم فقط، في أوقات الإجازة الفصلية أو السنوية للطلاب، والتي يعدّونها أعظم من آيات الكتاب الحكيم، على حدّ زعمهم الباطل.
المقاربة الأمنيّة الحوثية
وإلى جانب المقاربة الأيديولوجية هناك أخرى أمنيّة قمعيّة، وتناول تقرير "المجلس الأوروبيّ للعلاقات الخارجيّة" ذلك، وجاء فيه: "يمارس الحوثيون سيطرتهم من خلال قمع فعّال للغاية للسكان. في أيلول (سبتمبر) 2019؛ استبدل الحوثيون أجهزة المخابرات اليمنية وأجهزة الأمن القوميّ والأمن السياسي بجهاز الأمن والمخابرات الجديد والفعّال".
وأشار التقرير إلى؛ إنشاء الحوثيين قوّة نسائية بالكامل، تحت مسمى "الزينبيات"، لقمع المنشقّات، كما منحوا قادة الأحياء المجتمعية التقليديين، المعروفين باسم "العقيل"، امتيازات وسلطات أكبر، مثل تقنين الغاز للسكان المحليين.
رئيس تحرير صحيفة "الأزارق" اليمنية، أبو سياف الحميد لـ"حفريات": حوّل الحوثيون أيديولوجيتهم "الملازم الحسينية"، التي وضعها بدر الدين الحوثي إلى مناهج دراسية
وحين دخل الحوثيون صنعاء لم يحلّوا الجهاز الإداري الحكومي، وقرّروا السيطرة عليه، عبر تعيين طبقة من "المشرفين" لتوجيه عملهم. ويتراوح هؤلاء بين؛ النخب الحوثية من حجة وصعدة، إلى الشباب غير المؤهلين والمؤدلجين، ويضمن هؤلاء الموالون للحوثيين تنفيذ قرارات الحركة، وأن تذهب الوظائف إلى مؤيديهم، وأن تعود المزايا المالية بالنفع على جماعة الحوثيين في المقام الأول، وفق تقرير المجلس الأوروبيّ.
وتوظّف الجماعة وسائل الإعلام، التي تبثّ من جنوب لبنان، في نشر أفكارهم، ومن ذلك بيان "المسيرة القرآنية"، لعبد الملك الحوثي، الذي يضمّ المعتقدات الثقافية والسياسيّة والدينيّة لحركته، وهو يرتكز على تعاليم حسين الحوثي.
ويقول الصحفي اليمني، أبو سياف الحميد: "تبثّ القنوات التابعة للحوثيين طقوس الشيعيّة الإماميّة، مثل الحسينيات ومجالس الوعظ، وشاهدت فيديو لإمام حوثيّ تطاول فيه على شخص النبيّ الكريم، واتّهمه بقتل الحسين، لكن، للأسف، تمّت إزالة الفيديو سريعاً، ما يكشف حقيقة العقائد الحوثية، وقربها من الإمامية الإيرانية".
وعلى الأرض تؤدّي المعارضة إلى الاعتقال والسجن، وتهم قانونية ملفّقة وأحكام قاسية.
وتسمح سيطرة الحوثيين على مختلف الخدمات والآليات التكنولوجية بتتبع وسائل التواصل الاجتماعي والأنشطة الإلكترونية الأخرى، بينما ينشط الأفراد، مثل المشرفين، في مراقبة الأشخاص والإبلاغ عن المعارضة.
ومكّنت هذه المقاربة الحوثيين من القضاء على المعارضة الداخلية، وتفكيك ما تبقى من حزب المؤتمر الشعبي، مع الإبقاء على رموز منهم في مناصب سياسية، دون مشاركة في صنع القرار.
التحوّل نحو الإمامية الإيرانية
وشهدت السنوات الأخيرة صعود الجناح المتشدّد داخل الحوثيين، والأقرب إلى إيران، مع قمع الجناح الأقرب للاعتدال، وإلى المدرسة الشيعية الزيدية.
وتسبّب ذلك في تسرب الأيديولوجية الإيرانية إلى القيادات الحوثية، والتي تعزّزت بمشاركة قيادات إيرانية في إعداد الدورات الثقافية، وعبر التعاون الوثيق في المجالات العسكريّة والسياسيّة.
وجاء في تقرير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "في النهاية؛ احتكر الحوثيون، إلى حدّ كبير، المدرسة الزيدية في اليمن، وقوّضوا مكانتها التي كانت معتدلة في السابق".
وفي سياق ذلك؛ يرى رئيس تحرير صحيفة "الأزارق"، لـ "حفريات"؛ أنّ الميليشيات الحوثية لم توجد ككيان يمنيّ أبداً، وإنّما كمذهب يتّصل امتداده إلى الأب الروحيّ لهم، وهو المرشد الأعلى الإيراني.
ويعظّم الحوثيون المرشد الإيراني أشدّ من حزب الله، وهو هوى متأصّل بينهم؛ فهم أقرب إلى الإمامية الإثني عشرية، من الإمامية الزيدية.
وانبثقت حركة الحوثي من جماعة الشباب المؤمن الزيدية الشيعية، بقيادة حسين الحوثي، في التسعينيات، لتصبح حركة سياسية مسلحة في أقصى شمال اليمن.
وبين عامَي 2004 و2010؛ وقعت سلسلة من ستّ مواجهات عسكرية عنيفة بين جماعة الحوثي ونظام الرئيس، علي عبد الله صالح، وانتهت الحرب مع ثورة 2011.