"الحب" و"الموت" يلتقيان في ممرات المخيّم الهشة!

"الحب" و"الموت" يلتقيان في ممرات المخيّم الهشة!

"الحب" و"الموت" يلتقيان في ممرات المخيّم الهشة!


02/11/2023

بديعة زيدان

"الحب" و"الموت" كانا خطّين متوازيين، لكنهما يلتقيان في رواية "ممرّات هشة" لعاطف أبو سيف، الصادرة حديثاً، عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية عمّان.

لم يغادر أبو سيف في سرديته الجديدة قطاع غزة، والمخيم تحديداً، مستعيداً عبر ذاكرات شخوص رواياته حكاياتهم في المدن المهجرة، لا سيما يافا، التي هُجّرت عائلته منها على وجه الخصوص، كما الكثير ممّن قطنوا مخيم جباليا للاجئين، حيث عاش، وحيث يعيش هذه الأيام، رفقة أهله الذين ألفهم وألفوه، ورفقة أزقته التي كانت قبل قصف طائرات الاحتلال الإسرائيلي المكثف لها، مساحة لحيوات كثيرة، وإن كانت صعبة.

ويبني أبو سيف "ممرات هشة"، على حكايات عدّة، لا تغادر المخيم، تتمحور جميعها حول سردية "هدى" ابنة العائلة العكيّة، التي كانت في عمر السادسة حين تشتت شمل عائلتها بين شمال وجنوب، وحدود وأخرى، قبل أن تستقر في المخيم، لتتجه بعد ذلك إلى القاهرة لاستكمال تعليمها الجامعي، حيث تتعرف إلى "زهدي"، ابن العائلة اليافيّة، فيتزوجان، ويعودان ليعيشا معاً في المخيم.

ولـ"زهدي" ذكريات تنكأ جراحه الخاصة، والجراح الجمعية جرّاء النكبة، ففي العام 1948 استشهد والده وهو يدافع عن يافا، وأصبحت "الجريدة" التي اشتراها "أبو زهدي" واستشهد قبل أن يقرأها، لاجئة رفقة ابنه، الذي كان شاهداً على على جرائم العصابات الصهيونية القادمة من تل أبيب، حيث اقتحمت بيتين فلسطينيين، فبقرت بطون خمس نساء، وذبحت شيخيْن، وأطلقت النار على أربعة فتيان، و"هم يهتفون عن الأمل والسعادة القادمة".

لم يغادر أبو سيف في سرديته الجديدة قطاع غزة والمخيم تحديداً، مستعيداً عبر ذاكرات شخوص رواياته حكاياتهم في المدن المهجرة، لا سيما يافا، التي هُجّرت عائلته منها على وجه الخصوص، كما الكثير ممّن قطنوا مخيم جباليا للاجئين

وبعد المدخل اللافت للرواية، يرافق القارئ "هدى" في رحلتها الشعورية، التي تتخلق على أطرافها، وفي العمق أيضاً، حكايات للمحيطين، تبدأ بوفاة "زهدي" في دكّان الحارة، والمهمة الصعبة لأهل الحي والجيران في إبلاغ مديرة مدرسة الإناث السابقة في المخيم، فهي "لم تصدق أن هذا حدث، أنه رحل فعلاً.. ظلت لأسابيع تجلس وحيدة غير مصدقة أنه رحل، تقول لنفسها إنه قد يفتح الباب فجأة، تقف تجول الغرف مثلما كانت تفعل حين لا تعثر عليه، ثم تدلف إلى الحديقة، تنظر يميناً وشمالاً ربما كان ينكش التراب قرب جذع شجرة أو يسقي الدالية.. يصيبها التعب فتجلس على كرسي خشبي تحت التوتة، كأنها تختبئ من القلق الذي يغزوها ومن الشعور بالوحدة الذي ينهش روحها.. كيف يمكن أن يزول فجأة من حياتك شخص عشت معه أكثر من ستين عاماً!".

رواية "ممرّات هشة" لعاطف أبو سيف

وهذا السؤال الموجع قد يبدو عادياً، مع القتل اليومي في المخيم وسائر أنحاء القطاع المحاصر، هذه الأيام، ومنذ السابع من تشرين الأول الماضي تحديداً.. فقد بات التساؤل الذي أوردته "هدى" في "ممرات هشة" بأن "كيف يمكن أن يكون زوال الإنسان مثل قشة تحترق في لمحة عين؟"، هو سؤال آلاف الناجين عمّن باتوا تحت التراب بجثامين كاملة أو مهشمة أو مقطعة الأشلاء، أو لا تزال تنتظر تحت الأنقاض منذ أيام، وكأن لسان حال المحترقين بنار موت الأحبة الذين قضوا بنار الانتقام الوحشي لمحتل يمارس القتل تلو القتل، وهم يصرخون أو يبكون، أو يواسون أنفسهم بانتقال أحبائهم إلى مكان أفضل عند "الرحمن الرحيم"، هو حال "هدى" التي أكدت أن "شيئاً في الفراق لا يمكن فهمه أو تقبله".

وفي السرد تتحدث "هدى" عن نشأة المخيم، وتوسعه من حارة إلى حارات، تحمل أسماء تستنسخ تلك التي كانت للمدن والبلدات والقرى التي هُجّر منها أهلها، وكيف بات اللاجئون يتجمعون تلقائياً في ذات الجغرافيا الضيقة التي تتسع تدريجياً في المخيم، وكأنهم يحافظون على جغرافيّاتهم المنهوبة بتجمعهم هذا، فـ"المخيم قصة مختلفة لا وصف لها في تكوينات التجمعات البشرية.. البيوت صارت تكبر بعشوائية لا حدود لها، فالغرفة الجديدة تتوسع على حساب الساحة الضيفة أمام الغرف الأخرى، أو خلف البيت، أو قد تتشعبط البيت وترمي نفسها فوق أحد غرفه، فيصير البيت من طبقتين".

حكايات الرواية تتمحور حول سردية "هدى" ابنة عكا، التي كانت في السادسة حين تشتت شمل عائلتها، قبل أن تستقر في المخيم، لتتجه بعد ذلك إلى القاهرة لاستكمال تعليمها الجامعي حيث تتعرف إلى "زهدي"، ابن العائلة اليافيّة، فيتزوجان، ويعودان ليعيشا معاً في المخيم

ومن الشخصيات التي تطل بحكاياتها في الرواية، "الجار الشاب" الذي تُوكل إليه مهمة إبلاغ "الست هدى" بنبأ وفاة زوجها، وهو أربعيني صيّاد كان اعتقل لعامين، و"الرجل ذو الكرش البرميل" وابنته "ياسمين" التي يرفض والدها ارتباطها بالجار "الصيّاد" فيقرر البقاء على قيد العزوبية، هو الذي عبر رحلته غير المكتملة ليرافق والده إلى مستشفى في القدس، يسرد عذابات المواطنين في قطاع غزة على حاجز "إيرز".

ورغم كل ما يحيط به من مآسٍ، يقرر "الجار الشاب" ألا يهجر البحر كما والده الذي كاد يكون من بين ضحاياه غرقاً، فيواصل مسيرة أجداده الصيّادين في بحر يافا، ولكن في بحر غزة، فأقام "كشك جنيّ البحر" الذي صار يبيع فيه ما يصطاده، وكأنه فعل يؤسس، ولو رمزياً، لاستعادة البلاد المسلوبة.

تسير "هدى" وذاكراتها ومَن حولها في "ممرات هشة"، يحيط بهم "صوت جنائزي يتردد على الدوام من تجاويف الحياة المَعيشة"، هي التي لا يدري أحد إن نجت من القصف المتواصل على المخيم هذه الأيام، أم أنها تنتظر من ينتشلها حيّة أم جثماناً من تحت الأنقاض، أو أنها كانت محظوظة بأن تجد من يدفنها، ولو بعيداً عن "زهدي"، فـ"شبح الموت معطف لا يخرج منه أحد، إلا من ينجو صدفة فلا يقع عليه".

مواضيع ذات صلة:

25 فناناً عربياً يتضامنون مع فلسطين في أغنية "راجعين" وإلإيردات لأطفال غزة

مهرجان القاهرة لموسيقى الجاز يتحدى الظروف الصعبة

عن "الأيام"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

الصفحة الرئيسية