
لعله من الأهمية بمكان استعراض التقرير الذي كتبه الباحث في الإسلام السياسي إيان جونسون ونشره موقع (middle east forum) حول جماعة الإخوان في أوروبا، وتعامل الدول معها.
يبدأ الكاتب بحادثة ربما لا يلتفت إليها كثيرون، ففي أوائل العام 1959 عثرت عملية استخباراتية صغيرة في ألمانيا الغربية على أدلة تثبت تواطؤ الولايات المتحدة مع جماعة الإخوان المسلمين، ووفقاً للمصادر الألمانية الغربية (جنديان سابقان في الجيش الألماني كانا يتقاضيان أجراً من واشنطن) كانت واشنطن تدعم أحد كبار رجال الإخوان المسلمين سعيد رمضان، صهر مؤسس الحركة حسن البنا، المقيم في جنيف، على أمل استخدامه في المعركة العالمية ضد الشيوعية. وكان العملاء المزدوجون الأمريكيون يريدون معرفة ما إذا كان الألمان الغربيون سوف يساعدون أيضاً في دعم رمضان. وكان ردّ بون "لا"، ليس بسبب التحفظات الأخلاقية بشأن التعامل مع الإخوان المسلمين، بل بسبب اعتبارات عملية. فقد جاء في تقييم أجراه رئيس جهاز الاستخبارات في ألمانيا الغربية جيرهارد فون ميندي ما يلي: "لا يتمتع رمضان بأيّ قدر من النفوذ في الشرق، ولن تسفر أيّ علاقة معه إلا عن عواقب سلبية".
في مجمع مكاتب متواضع في هيرندون بولاية فرجينيا أنشأ زعماء الإخوان المسلمين الأوروبيون المعهد الدولي للفكر الإسلامي كنقطة انطلاق لنشر الفكر الإسلامي في الغرب. وقد داهم مكتب التحقيقات الفيدرالية مقر المعهد في العام 2002 بسبب ارتباطه بالإرهاب، كما أشارت وزارة العدل إلى المعهد في العام 2010 باعتباره متآمراً في قضية لتمويل الإرهاب.
وبحسب الكاتب، لم يكن فون ميندي أوّل ولا آخر من قلل من شأن جماعة الإخوان المسلمين أو قادتها. ففي تاريخها الممتد إلى (83) عاماً، كانت الحركة تُوصف مراراً وتكراراً باعتبارها عتيقة الطراز، أو مكسورة، أو غير مؤثرة. ومؤخراً سارع المحللون الغربيون للاضطرابات في الشرق الأوسط إلى تصوير جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها غير قادرة على مواكبة الأحداث، وغير كفؤة في الأساس.
ويرى الكاتب أنّ الغرب، في حرصه على شطب جماعة الإخوان المسلمين من قائمة المنظمات الإرهابية، أظهر افتقاراً واضحاً إلى الاهتمام بالجماعة، الأمر الذي أدى إلى عقود من الأخطاء الفادحة. فعلى مدى نصف قرن من الزمان ـ على النقيض من العالم العربي ـ تمكنت جماعة الإخوان المسلمين من النمو في أوروبا دون أيّ قيود، فتحولت إلى القوة الإسلامية الأبرز في القارة.
ويرى الكاتب أنّ الجماعة بعد خروجها من مصر في الستينيات، كانت محظوظة بامتلاكها ملاذين تمكنت من خلالهما من إعادة تجميع صفوفها. كان الملاذ الأول هو المملكة العربية السعودية حيث وضعت جذورها العميقة، واندمجت في نهاية المطاف مع الحركات الإسلامية المحلية لخلق تحدٍّ قوي وعنيف للعائلة المالكة الحاكمة. وكان الملاذ الآخر الأقل شهرة هو أوروبا.
تلقى سعيد رمضان مساعدة كبيرة من وكالة الاستخبارات المركزية، التي يُزعم أنّها دفعت تكاليف سفره ودعمت جهوده للاستيلاء على مسجد ميونخ. ولم يتم إثبات الشكوك التي أبدتها أجهزة الاستخبارات الألمانية الغربية والسويسرية بأنّه كان عميلاً لوكالة الاستخبارات المركزية بشكل قاطع، لكنّ الأرشيفات تظهر افتتاناً مبكراً للولايات المتحدة بجماعة الإخوان المسلمين، وهو الانبهار الذي تكرر في العقود اللاحقة.
ومهما كانت الأسباب وراء دعم الولايات المتحدة لرمضان والإخوان المسلمين، فقد استغلوا منصتهم الأوروبية على النحو الأمثل. فبفضل العمل التنظيمي استخدموا المسجد كنقطة انطلاق لإنشاء شبكة على مستوى أوروبا.
وفي السبعينيات حققت جماعة الإخوان المسلمين نجاحاً حاسماً، فقد عقد اجتماع في منتجع لوغانو السويسري المطل على بحيرة لوغانو، برئاسة غالب همت ويوسف ندا، وهو شخصية رئيسية، بمشاركة نشطاء بارزين، ولا سيّما يوسف القرضاوي، الزعيم الروحي لجماعة الإخوان المسلمين، وكان هذا الاجتماع بمثابة بداية للعملية الشاقة المتمثلة في إعادة بناء المنظمة بعد أعوام من التصدي الناصري للإخوان.
في أوروبا، حيث كانت القوانين والمؤسسات تحمي الإخوان، كان بوسعهم إقامة هياكل دائمة، بدءاً بالمعهد الدولي للفكر الإسلامي، الذي كانت مهمته الحقيقية توفير الأسس النظرية لنشر الإسلاموية في الغرب. وفي عام 1978 قررت الجماعة نقل المعهد الدولي للفكر الإسلامي إلى الولايات المتحدة، حيث سيرأسه إسماعيل فاروقي، المفكر الإخواني البارز الذي كان أيضاً في لوغانو، والذي شغل منصباً تدريسياً في جامعة تيمبل في فيلادلفيا.
وفي الوقت نفسه، استمر المركز الإسلامي في ميونيخ في النمو في الأهمية، وفي عام 1982 غير اسمه إلى الجالية الإسلامية في ألمانيا، ممّا يعكس نموه في جميع أنحاء البلاد. كان المركز الإسلامي في ميونيخ ما يزال مهمّاً، ولكنّه الآن في المقام الأول كمقر لمجموعة وطنية تشرف على سلسلة من المساجد والمراكز الثقافية. لا يمكن التأكد من العدد الدقيق لهذه المراكز في أوائل الثمانينيات، ولكن كان لها فروع في جميع المدن الرئيسية في غرب ألمانيا.
واصلت الجماعة ضم أعضاء من الخارج، فحولت العضوية في المسجد إلى وسام شرف. على سبيل المثال انضم خورشيد أحمد إلى الجماعة. وكان من بين الشخصيات الرئيسية الأخرى التي انضمت إلى الجماعة عصام العطار، الرئيس التاريخي للفرع السوري لجماعة الإخوان المسلمين، الذي انتقل إلى بلجيكا في أوائل الستينيات.
وبحلول تسعينيات القرن العشرين كانت هناك مجموعة كبيرة من المنظمات تمتد عبر أوروبا. وكانت الجماعة تتمدد في ألمانيا، وغدت باعتبارها المنظمة التي تتخذ من المسجد الأم في ميونيخ مقراً لها، عضواً مؤسساً في اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا، الذي يتخذ من بروكسل مقراً له، والذي يربط بين جماعات الإخوان المسلمين في أكثر من (20) دولة. ويرتبط بها المجلس الأوروبي للفتوى والبحوث الذي يتخذ من دبلن مقراً له، والذي يصدر الآراء الدينية للمسلمين الأوروبيين. وتعمل إحدى أذرع التمويل، وهي مؤسسة أوروبا المسجلة في المملكة المتحدة، على توجيه الأموال من الخليج إلى الجماعات المتعاطفة مع الإخوان المسلمين في أوروبا، في المقام الأول لبناء المساجد. كما يقوم المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بتدريب الأئمة في (3) فروع جامعية في فرنسا وويلز. وترتبط كل هذه الهيئات والمنظمات بالإخوان المسلمين من خلال مديريات متشابكة ومستشارين كبار.
هوس الإخوان ببناء المؤسسات
إنّ هذا الهوس ببناء المؤسسات يسلط الضوء على نقطة مهمة حول جماعة الإخوان المسلمين، وهي أنّها ليست جمعية فقط، ذلك أنّ أغلب أعضائها، وخاصة بناة المؤسسات الرئيسية والمسؤولين الذين يديرونها، ليس لديهم تدريب أو معرفة دينية. وكثير منهم حاصلون على درجات علمية في الهندسة أو الطب أو القانون، الأمر الذي أدى إلى مصطلح "هندسة الإسلام" في أوروبا، كان الإخوان يعيدون استنساخ الهيكل، باستثناء الجناح العسكري، والفارق الرئيسي هنا هو أنّ جماعة الإخوان المسلمين تعمل كدين أقلية، وبالتالي فهي تستخدم هياكلها ليس لإضفاء طابع إسلامي على المجتمع السائد ـ وهي مهمة غير واقعية ـ بل للهيمنة على المجتمعات المسلمة في الغرب.
وليس من قبيل المصادفة أن يتولى تمويل أنشطة جماعة الإخوان المسلمين جهات خارجية؛ وذلك لأنّ جماعة الإخوان المسلمين خارج مصر ليست في جوهرها منظمة جماهيرية، بل هي مجموعة من المنظمين النخبويين الذين أسسوا الهياكل اللازمة لتعريف الإسلام في الغرب. ولم يتجاوز عدد أعضاء المركز الإسلامي في ميونيخ وجميع المنظمات التي تلته بضع عشرات من الأعضاء قط. ولم يخدم هؤلاء الناس الجالية المسلمة في ميونيخ ـ بل إنّ المسلمين الأتراك الذين شكلوا بحلول سبعينيات القرن العشرين 90% من مسلمي المدينة، كانوا محرومين صراحة من العضوية في الجماعة. وبدلاً من ذلك كانت القيادة مهووسة بإنشاء الهياكل.
الأنشطة الإرهابية
لتوضيح الارتباط بين الإخوان والإرهاب، يرى الكاتب أنّه قد يكون من المفيد العودة إلى مسجد ميونيخ واثنتين من حوادثه الإرهابية. على سبيل المثال، كان محمود أبو حليمة، الرجل الذي أدين بتفجير مركز التجارة العالمي عام 1993، من رواد المسجد بانتظام. وسعى إلى الاستشارة الروحية من أحمد خليفة، إمام المسجد الرئيسي آنذاك. وقد نفى خليفة والمركز أيّ صلة بالمؤامرة، قائلين إنّ أبا حليمة جاء ببساطة للاستشارة الروحية.
وهناك أيضاً حالة ممدوح محمود سالم، الذي يُنظَر إليه على نطاق واسع باعتباره رئيس التمويل في تنظيم القاعدة والمرشد الشخصي لأسامة بن لادن. وقد ألقي القبض عليه في العام 1998 في بلدة صغيرة بالقرب من ميونيخ أثناء رحلة عمل إلى ألمانيا. وقبل تسليمه إلى الولايات المتحدة، اتصل بخليفة وطلب منه التوجيه الروحي، وقد أكد خليفة أنّه التقى بالرجلين، لكنّه وصف الاتصالات بينهما بأنّها كانت لأغراض إنسانية بحتة.
وبحسب الدراسة، شعرت أجهزة الاستخبارات الألمانية بالانزعاج، فشرعت في فتح تحقيق شامل في اتصالات سليم. وكان من بين هؤلاء على وجه الخصوص رجل الأعمال السوري مأمون دركازنلي ـ وهو رجل أعمال سوري يعيش في هامبورج، وكان يرتاد مسجداً صغيراً هناك يسمى القدس. وقد قامت الشرطة الألمانية بالتنصت على منزل دركازنلي، ورصدت اتصالاته في المسجد، بما في ذلك رجل واحد بعينه، وهو محمد عطا، ولكن بسبب عدم تأكدها من طبيعة النتائج التي توصلت إليها قررت إسقاط التحقيق.
يوسف ندا وتمويل التنظيم
صدمت الحكومة الأمريكية بهجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، فتحركت بقوة ضد جماعة الإخوان المسلمين. وكان المحققون مهتمين بشكل خاص بإحدى أدوات الاستثمار التي استغلها يوسف ندا، وهي بنك التقوى.
وكان غالب همت عضواً في مجلس إدارته، وكان كل الإسلاميين في أوروبا قد اشتروا أسهماً فيه، الأمر الذي جعل قائمة المساهمين فيه بمثابة قائمة بأسماء قيادات جماعة الإخوان المسلمين في أوروبا. وكان يوسف ندا قد أسس البنك ليكون واحداً من أوائل المؤسسات المالية التي تعمل وفقاً للشريعة الإسلامية. وبدلاً من عرض الفائدة على المودعين، كان البنك يدعو عملاءه من المستثمرين ويعرض عليهم أرباحاً من الأموال التي يقرضها لهم. ولكن يوسف ندا استثمر الأموال بطريقة غير احترافية ـ يقول ندا إنّه وضع معظمها في شركات ماليزية، قبل فترة وجيزة من الأزمة المالية الآسيوية في العام 1997 ـ ففشل البنك. ولكنّ ممثلي الادعاء الأمريكيين خلصوا إلى أنّ البنك كان بمثابة قناة لتمرير أموال الإرهابيين. وأعلنت واشنطن أنّ يوسف ندا وغالب همت من ممولي الإرهاب، وأقرت الأمم المتحدة هذا التصنيف، كما جمدت حسابات الرجلين المصرفية.
كانت محاولات شلّ يوسف ندا وغالب همت مالياً غير مناسبة. والواقع أنّ المشكلة التي أثارها الرجلان كانت إيديولوجية، وكان لا بدّ من التصدي لها على هذا المستوى. وقد عجزت واشنطن عن مقاضاتهما. وبعد (8) أعوام من تجميد حساباتهما، اضطرت واشنطن إلى الرضوخ لقرار رفع التجميد عنهما. وتجاهلت وكالة المخابرات المركزية التحذيرات من الحلفاء، ضد دعم الإخوان المسلمين في أوروبا، ودفعت نحو التعاون.