الإسلام السياسي بهولندا وما وراء تدريب الأئمة داخل الجامعات

الإسلام السياسي بهولندا وما وراء تدريب الأئمة داخل الجامعات

الإسلام السياسي بهولندا وما وراء تدريب الأئمة داخل الجامعات


07/03/2024

صبحي نايل

يُعرف المجتمع الهولندي بالتنوع الثقافي والعرقي والديني، ويحترم الدستور الهولندي ذلك ويسعى إلى حفظ الأفراد وحريتهم جميعاً ويتيح لكافة فئات المجتمع حقّ التعبير عن أنفسهم، من خلال الروابط الثقافية والأحزاب السياسية وغيرها من وسائل التعبير الاجتماعية، ويُقدّر عدد المسلمين في هولندا حسب إحصائياتٍ تمت عام 2019 من قبل “مركز الإحصاء الهولندي” (سي بي إس) بما يقرب من 850 ألف نسمة. بينما تقول بعض التقارير الصحفية أن عدد المسلمين في هولندا اليوم يبلغ حوالي مليون شخص.

وبذلك يشكّل المسلمون في هولندا حوالي 5 بالمئة من إجمالي السكان. ويتوزع المسلمين في جميع أنحاء البلاد، مع تركيز أكبر في المدن الرئيسية مثل أمستردام ولاهاي وروتردام.

في عام 1985 ونتيجة لتزايد عدد السكان المسلمين في هولندا قررت وزارة التعليم الهولندية إدخال مقرر جديد في المرحلة الابتدائية تحت عنوان “العقائد الحالية” والذي كان يُعتبر مقدمة لدراسة العقيدة الدينية الموجودة في هولندا، بما في ذلك الإسلام، وفق “المستودع الدعوي الرقمي”.

وإثر تخوف المجتمع الإسلامي على أبنائه من نظام التعليم في هولندا، بدأ العمل على بناء مدارس إسلامية تهتم بتدريس مبادئ الدين الإسلامي إلى جانب العلوم الأخرى، لتكون هذه المدارس الخيار الأول لأطفال الجالية المسلمة بهولندا، وذلك بغية الحفاظ على “قيم الجالية الإسلامية لدى الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرينَ إلى هولندا”.

الإسلام السياسي بهولندا

من المعروف عن القوانين أنها تبيح حرية التعبير والتمثيل السياسي والاجتماعي، ولكنها تقف في وجه أي تصرّف عنيف أو يحدّ على ذلك، وتكمن مشكلة المجتمعات الأوروبية مع الإسلام السياسي تعاطفه مع التيارات العنيفة ودعمها له إن لم يكن هو ذاته منهم، ويبرع الإسلام السياسي في إيجاد التربة الخصبة التي ينبت فيها العنف والتطرف، ويمثّل هذا تخوف أوروبا الحالي من الإسلام السياسي ومساعيها للحدّ من انتشاره وتقييد قدراته.

وحسب ما أفاد به القس البروتستانتي والباحث في الفلسفة السياسية وعلوم اللاهوت بجامعة أمستردام، عماد عبد المسيح، لموقع “الحل نت”، فإن الدستور الهولندي لا يمنع قيام حزب ديني سياسي، بل إنه لا يمنع قيام حزب على الإسلام السياسي والتّخوف الأوروبي حوله.

وهناك حزب معروف بهولندا اسمه “دينك” (dink) وهو معروف بتوجهه الإسلامي، وهو حزب صغير والمنتمينَ إليه معظمهم من أصول تركية أو مغاربية، والكثير منهم يُحسب على التيار السلفي و”الإخوان المسلمين”، والنظام السياسي لا يمنع ذلك، بل يرى فيه إثراء للمجتمع الهولندي والحركة السياسية، وفق ما يقوله القس البروتستانتي، عماد عبد المسيح.

وكذلك هناك “الحزب الديمقراطي المسيحي”، إلى جوار الأحزاب الأخرى، ولا مانع من تمثيل الجماعات الدينية نيابياً أو سياسياً، على حدّ تعبيره.

ويشير عبد المسيح إلى أن تيار الإسلام السياسي في هولندا غير قادر أو “عاجز” على ممارسة العنف، حتى أصحاب الأفكار الجهادية. وأكثر اتجاهات الإسلام السياسي تطرّفاً في هولندا، “حزب التحرير” ومؤسسه الفلسطيني خليل نبهاني، حيث نادوا بإقامة الخلافة وحكم الشريعة الإسلامية، ولكنهم عجزوا عن قيادة الأمر إلى العنف.

ويذكر عبد المسيح أنه في مرّةٍ على أبواب جامعة أمستردام وقف شباب يلبسون الجلباب القصير ويوزعون دعوات ندوة مقامة بالجامعة لـ”حزب التحرير”، ولا تمانع القوانين الهولندية ذلك ولكنها تمنع العنف والتحريض عليه.

مراقبة شديدة على التطرف والعنف

وفي الوقت الذي يتمتع فيه الدستور بقيم حفظ الحريات واحترامها يتوازى معه المراقبة الشديدة على تيارات الإسلام السياسي، خاصة على العنف وخطابات الكراهية، والفيصل في مسألة العنف هنا، انتقال الفعل إلى مستوى الجريمة، غير ذلك مباح وموجود بالفعل في حزبي “دينك” و”التحرير”، من الخصومة مع الثقافة الهولندية، والحط من قيمهم ورفض النظام العلماني.

وفي هذا الصدد، ترى الكاتبة والمترجمة السورية النسوية المقيمة بهولندا، رحاب منى شاكر، لـ “الحل نت”، أن الدين الإسلامي مضغوط في هولندا كثيراً، فالحرية التامة لقول كل شيء غير موجودة، ويُعد هذا مفهوم، ذلك لأن هذا “الكل شيء” قد يكون عنصرياً ولا يناسب القيم الهولندية، فللأمر محاور كثيرة متضاربة فيما بينها؛ منها محاور الحرية الدينية من جهة، والحريات الأخرى من جهة أخرى، وعلى كليهما أن يحفظ المساحة التي تحفظ وجود الأخرى.  

ومقتضيات التنوع وقبول الآخر تقتضي بأن يتنازل البعض عن جزءٍ من حريته في مقابل حفظ الجزء الآخر، وهذا ما يحدث في غالبية الأمر في المجتمعات ذات التنوع الثقافي والعرقي والديني ولا سيما هولندا، وفي هذه الأثناء يحاول المجتمع الحفاظ على سمات التنوع التي تجعله في تطور وحركة مستمرة، وتعمل الدولة للرقابة على المراكز الثقافية، والاجتماعية، والمساجد، وغيرها من المنصات التي تعمل على تكوين بنية الوعي للجماعات المختلفة التي يتكون منها المجتمع، وفق ما تضيفه الكاتبة السورية.

إدارة المساجد في هولندا

تمثّل المساجد المحرك الرئيس والقِبلة الأولى في أمور العيش الدنيوي والأخروي للجاليات المسلمة في أوروبا، فيّعد المسجد شبه مؤسسة متكاملة ومتعددة الأغراض، يؤدي نشاطاً اجتماعياً ويقدم رسالة ثقافية، ويلعب دوراً سياسياً فاعلاً، هذا إلى جانب وظيفته الأصلية كدار للعبادة، وفق “موقع حسام تمام”.

ويعتمد العديد من المهاجرينَ أو المقيمين في أوروبا على المساجد في تأمين احتياجاتهم في العديد من الأحيان، أو تدبير بعض أمورهم التي يحتاجون فيها إلى مساعدات، ويعطي هذا للمسجد أهمية أكبر من أن يكون دار عبادة، ليصبح أحد أدوات بناء الوعي في المجتمع، ومكون ثقافي واجتماعي رئيسي داخله.

وفي هولندا اليوم ما يقرب من 450 إلى 500 مسجد و60 مدرسة إسلامية يقومون على تلبية احتياجات الجالية المسلمة في هولندا، وتربية النشء لهذه الجالية على المعايير والثقافة الإسلاميين، عبر التنسيق فيما بينهم وبين العديد من المؤسسات الأخرى أهمها “اتحاد المساجد الإسلامية” الذي يعدُّ من أهم المؤسسات الإسلامية الفاعلة في هولندا وفي دول الشمال الأوروبي أيضاً، ويقع مقره في المسجد الكبير بمدينة أمستردام وأسسه المغربي، محمد الشروطي، الذي يُعرف كأحد أبرز الشخصيات الإسلامية المؤثرة في هولندا، حيث يُعد من أقدم القيادات الإسلامية التي استقرت في هولندا وبدأت فيها الدعوة الإسلامية قبل ثلاثة عقود.

وبالتالي، فإن وجود هذا الكم من المساجد والمدارس داخل أي دولة في ظل وظيفة المسجد التي تتجاوز إطار دار العبادة، تجعل هولندا في حالة ترقّب دائمة وربما خوف، وتعمل على بناء مستوى وعي لا يخالف معاييرها الثقافية ولا يتعارض مع أهدافها، خاصة إذا كانت تهدف إلى التنوع الثقافي والديني والعرقي؛ لذا قامت “الوكالة الهولندية للأمن ومكافحة الإرهاب” (NCTV) بتمويل بحث سري حسب ما ذكرت صحيفة “إن آر سي هاندلسبلاد” (NRC Handelsblad) المحلية، خضع فيه ما لا يقل عن 10 بلديات في هولندا حول المساجد وأئمتها، ومديري الجمعيات الإسلامية، والشخصيات المسلمة المؤثرة في المجتمع، وأوضحت أن هذا التحقيق السري شمل العديد من المدن الكبرى التي توجد بها جاليات مسلمة بشكل كثيف، ونفذت هذا البحث شركة استشارات خاصة تسمى (Nuance door Training en Advies).

ولفتت إلى أن تكلفة البحث بلغت 300 ألف يورو، وذكرت الصحيفة أن الهدف الأساسي من البحث هو معرفة خلفيات أئمة المساجد والمؤسسات والجمعيات المسلمة الفاعلة في هولندا، وتحرّي علاقتها بالتنظيمات الإرهابية المتطرفة. ويُعد هذا مفهوماً في ظل أحداث العنف التي تحدث من حين لآخر في السياق الأوروبي عامة، والهولندي خاصة.

وبسؤال القس والباحث المصري/ الهولندي عماد عبد المسيح حول إدارة المساجد في هولندا أجاب لـ “الحل نت قائلاً: لا يمكن أن ننكر وجود مساجد كثيرة تحت إدارة “الإخوان” والسلفين، ومنذ ما يقرب من عشر سنوات كان الأئمة وافدين من أفغانستان وتركيا، يتسمون بالتشدد في العديد من الأحيان، وعدم تلاقيهم مع المجتمع الأوروبي بشكلٍ عام، والهولندي هنا بشكلٍ خاص، وظهر هذا في خُطبهم التي جاءت بخصومة مع الحضارة الأوروبية وتعمل على الحط منها، ومحاولة تشكيل المجتمع الهولندي ومحاكمته حسب قيمهم.

تدريب الأئمة داخل هولندا

وفقاً للدور الذي تلعبه المساجد في المجتمع الهولندي ووجود العديد من الأئمة غير المتسامحينَ مع القيم الأوروبية الهولندية، ظهر البحث عن فكرة بديلة لوفود الأئمة من خارج هولندا، لا سيما تركيا وأفغانستان، وسعت الحكومة الهولندية إلى تدريب الأئمة داخل المجتمع الهولندي، وبالفعل عملت على إنشاء أقسام للدراسات الإسلامية في الجامعات، تُعد نشأة الأئمة على قيم الحضارة الهولندية والأوروبية ضمن وظيفتهم.

ونوّه عبد المسيح لـ “الحل نت” أن الأئمة داخل هذه الأقسام يأخذون التدريب المناسب على أيدي الأساتذة المسلمين المناسبينَ، بشكلٍ يتلاءم مع الثقافة الأوروبية الهولندية، ويعمل المصري ياسر الليثي كرئيس قسم للدراسات الإسلامية بجامعة أمستردام. ومن ثم أصبح هناك تدريب للأئمة داخل هولندا ويخرجون من بنية المجتمع الهولندي ومن ثقافته، مما يعمل على تفادي الصدام مع هذه القيم، وغياب أي تهديد للتنوع الثقافي الأوروبي، والمجتمع الهولندي لا مانع عنده من الصلاة، والصوم، والحجاب غير ممنوع في الأماكن العامة في هولندا، فقد رأيت مرة سيدة محجبة تعمل سائقة للترام داخل أمستردام.

وفي تصريح للباحثة السورية رحاب شاكر خصّت به “الحل نت” قالت إن تدريب الأئمة يتمّ من خلال نوعين من التدريب في هولندا؛ أولا مساعد روحي، وتدريب للإمام، ويكون تدريب الإمام أطول، وتدريب المساعد الروحي يكون مختلف؛ وهو الذي يقدم المساعدة، في السجون للمساجين، أو المستشفيات للمرضى على سبيل المثال، بحيث يقدم دعم روحي إيماني.

فيمكن القول إن المجتمع الهولندي يبيح حرية الاعتقاد والممارسات، ولكنه يتخوّف من العنف وعدم الاندماج، وهذا مفهوم في أي مجتمع، فعادة ما يتطور عدم الاندماج إلى محاولة دمج المجتمع وقيادته نحو الثقافة التي ترفض الاندماج، خاصة في حالة الإسلام السياسي الذي يقدم مشروعه بشكلٍ ندّي للقيم الأوروبية والعلمانية، ولعل هذا سبب ظهور التخوف من أسلمة أوروبا في الآونة الأخيرة.

وقال القس والأكاديمي عبد المسيح بعبارات واضحة: الواقع في هولندا يحكمه القانون العام لا غير ويعرف الكثير من الحرية، والتمثيل النيابي لكافة الطوائف، وأشيد في هذه الناحية بوجود عضوين في البرلمان الهولندي لـ”حزب التحرير” الذي يعلن صراحة خصومته مع القيم الهولندية والمجتمع الأوروبي ككل.

عن "الحل نت"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية