الإسلاميون والعنف في تونس: الاعترافات تأتي متأخرة دائماً

الإسلاميون والعنف في تونس: الاعترافات تأتي متأخرة دائماً


03/02/2021

أحمد نظيف

في عام 2017 نشرت كتاباً عن الجهاز الخاص السري لحركة النهضة التونسية حمل عنوان "الجهاز الخاص للحركة الإسلامية في تونس انقلاب 1987"، وما إن نزل الكتاب إلى المكتبات حتى تلقيت اتصالاً من أحد القياديين السابقين في الجهاز يطلب مقابلتي.

ترددت كثيراً في مقابلته ثم عزمت على ذلك من باب الفضول أولاً، وتلبية لرغبته الشديدة، في ذلك، حيث بدا لي من نبرته في الهاتف أنه ما كتب في الكتاب قد أعجبه، على الرغم من أن فيه بعض "الفضائح" لقصة أرادت الحركة الإسلامية التونسية اخفاءها لعقود.

كان الطيب بالضيافي ضابطاً في جهاز المخابرات التونسية، وقد عمل لسنوات في قسم الوثائق، حيث شكل الحلقة الأخيرة التي تنتهي عندها التقارير الأمنية والقرارات والملفات، لذلك شكل تجنيده من طرف الحركة الإسلامية هدية من السماء، وقد نجح من خلال موقعه الحساس في إنقاذ العشرات من القيادات من الاعتقال وفي حماية مواقع الحركة من المداهمات وفي كشف خطط الأجهزة الأمنية، حتى وقع في أيدي النظام في أعقاب فشل محاولة الإنقلاب العسكري الذي كانت الحركة تريد تنفيذه في الثامن من كانون الثاني (يناير) 1987.

في مقهى صغير قرب ساحة الجمهورية التقيت بالطيب. بدا شكله إسلامياً كلاسيكياً. جلباب طويل ولحية خفيفة وشارب محفوف بدقة وشاش يلف الرأس وفوقه طاقية بيضاء، لكأن الرجل لم يكن يوماً ضابطاً مهماً في وزارة الداخلية. كان اللقاء ودياً، لم أتحدث إلا قليلاً فيما غرق سي الطيب في الشكوى من قيادات "حركة النهضة" والجحود الذين قابلوا به أغلب من ضحوا من أجل الحركة خصوصاً من عناصر الجهازين العسكري والأمني. وعندما سألته عن مدى صحة ما كتبته في الكتاب عن الجهاز السري ونشاطه من خلال الروايات التي جمعتها، أجابني قائلاً، وقد ارتسمت على محياه ضحكة خفيفة: "صدقني لم تذكر إلا القليل من نشاط الجهاز"، فسألته، هل كان فعلاً يوجد جهاز منظم أم مجرد مجموعة تعمل في شكل عشوائي، فقال: "الجهاز كان وما زال وسيبقى". وقد التقيته مرة أخرى وحاولت أن أحشر هذا السؤال في الحديث ليطمئن قلبي فكانت إجابته متطابقة في شكل يوحي بصدقه. لكن الطيب بالضيافي قال كلمة بقيت عالقة في ذهني وأكدتها لي الحوادث التي جرت بعد ذلك وهي أن الحركة مستعدة لفعل كل شي كي تمنع هذه الحقائق من الخروج إلى العلن.

كثيراً ما اعتقدت، وكثيرون مثلي، أن كل ما ينسب إلى الإسلاميين في تونس من عنف وتطرف وتهم بالعمل السري، مجرد شائعات صاغتها ببراعة غرف المخابرات والإعلام والصحافة التابعة للنظام التونسي، ونجحت في تكريسها لسنوات، امعاناً في تشويه خصم سياسي، يملك ثقلاً اجتماعياً، يمكن أن يشكل خطراً على وجود النظام في أي نزال ديموقراطي حقيقي. لكن هذا الاعتقاد بدأ يتهاوى تدريجياً، وانهار تماماً بعد وصول "حركة النهضة" إلى السلطة في عام 2011.

حينذاك، وأمام سياسة الحركة، تجاه الخصوم، وتجاه المثقفين والنساء وتجاه كل مختلف عن السردية الإسلاموية، بدأت في مراجعة كل تلك الاعتقادات الساذجة حول مظلومية الإسلاميين المزعومة، ومن بين الملفات التي كانت تشغلني، مسألة وجود جناح أمني وعسكري للحركة الإسلامية والمحاولات الانقلابية التي اتهمت بتدبيرها في 1987 ضد الرئيس، الحبيب بورقيبة، وفي 1991 ضد الرئيس، زين العابدين بن علي. لأبدأ منذ عام 2012، شبه عملية "مسح" كاملة لما كنت أعتقد أنه من البديهيات، وشرعت في طرح فرضيات حول مدى وجاهة الاتهامات الموجهة إلى "حركة النهضة" في هذا الملف، لاكتشف خلال هذا الطريق الصعب، مدى السذاجة التي كنت أعتقد، وسذاجة المئات من أبناء جيلي، الذين لم يعيشوا وقائع الصراع بين النهضة والنظام، ولم يصلهم من ذلك الصراع إلا روايات الطرفيين، الفاقدة لأبسط شروط الموضوعية.

لكن اللافت أن قيادات الحركة الإسلامية – المنخرطون في لعبة تورية الحقيقة وقانون الصمت الأبدي – عن تاريخ العنف لا يتكلمون إلا بعد خروجهم من الحركة كنوع من التخفف من أحمال التاريخ أو عندما تصبح الوقائع غير مؤثرة في الحاضر.

هذا الملف الخطير، دونه خرط القتاد، بالنسبة إلى "حركة النهضة". ذلك أنها كانت وما زالت شديدة الحساسية تجاهه وتجاه كل من يثيره. وتجلى ذلك بوضوح خصوصاً بعد سقوط بن علي وعودة الحركة إلى العمل من الداخل ودخولها حيز اللعبة السياسية اليومية، التي يسجل فيه الخصوم الأهداف وركلات الجزاء في مرمى بعضهم البعض. كانت ورقة التنظيم العسكري السري والعنف تُستخدم بين الحين والآخر ضد الحركة من طرف الخصوم، خاصة خلال الصراع المرير الذي نشب بعد وصولها إلى السلطة في تشرين الأول (أكتوبر) 2011. لم تكن "النهضة" تريد مزيداً من الأوراق في يد هؤلاء. ولم تكن تريد نبش ما غمره الزمن. ولم تكن تريد مزيداً من التشكيك في ما سمته مراجعات. فحاولت قطع كل علاقة بينها وبين عناصر المجموعة الأمنية من الأمنيين والعسكريين، الذين كانوا يطالبون بحقوقهم وعممت على أعضائها عدم الخوض في الموضوع نهائياً. حاولت التخلص من بعض تاريخها ونكرانه، ككهل يريد التخلص من وقائع، يعتبرها مشينة، حدثت في مراهقته.

ويصدق ذلك ما صرح به عضو المجموعة الأمنية، الصادق الغضبان، الوكيل أول بالوحدة المختصة بالحرس الوطني، التي سيطرت على قصر الحكم في قرطاج ليلة 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 1987، خلال مقابلة تلفزيونية على قناة المغاربية (اللندنية)، المقربة من الإسلاميين، عندما قال: ''منذ خمس سنوات (أي بعد سقوط بن علي) وهم يقولون لنا (قيادة النهضة) لا تكشفوا انتماءكم لحركة الاتجاه الإسلامي أو النهضة وفي كل مرة يطلع أحدنا في وسائل الإعلام يتم الاتصال بنا وتحذيرنا من الاعتراف بانتمائنا للحركة الإسلامية''. فالرجل الذي عاد من لندن إلى تونس مع راشد الغنوشي على الطائرة نفسها، بل كان خلفه مباشرة لحظة النزول من السلم على مدرج مطار تونس قرطاج، قد دب في نفسه الملل من تسويف الحركة في الاعتراف به وبرفاقه كجزء منها.

وكذلك الملابسات المريبة التي حفت بمصير آلاف النسخ من المذكرات التي أصدرها المنصف بن سالم، القيادي في الحركة الإسلامية وقائد الجهاز الخاص، والتي كشف فيها ملف الجهاز تفصيلاً منذ تكوينه وحتى لحظة الخروج من السجن، مروراً ببرنامجه وعناصره وأهدافه وخصص له فصلاً بعنوان ''مجموعة الإنقاذ الوطني'' امتد على 17 صفحةً. هذا الكتاب الذي صدر عام 2013، تحت عنوان "سنوات الجمر شهادات حية عن الاضطهاد الفكري واستهداف الإسلام في تونس"، طبع بن سالم منه مئات النسخ، في الخارج. لكن الكتاب اختفى تماماً من المكتبات بمجرد وصوله إلى تونس. ويشير بن سالم في خاتمة كتابه إلى أنه قد أجرى ثلاث مراجعات له، بين 2002 و2013، والواضح أنه لا يغطي كثيراً من الوقائع المهمة في تاريخ الحركة الإسلامية، والواضح أيضاً أن مقص الرقيب الحزبي قد لعب في بعض صفحاته. ورغم ذلك فإن جهة ما، في مكان ما، ليس لها مصلحة في أن تذاع تفاصيل قصة المجموعة الأمنية، لم تسمح بتوزيعه في تونس وتم سحب النسخ من أسواق تونس ومكتباتها. ويبدو أن بن سالم لم يستشر قيادة الحركة وبادر من نفسه لطبع الكتاب عندما كان وزيراً للتعليم العالي. هكذا إذاً تلاشت أطنان من الكتب فجأة من الوجود. لا أحد يعلم لماذا تم ذلك؟ أو أين تبخرت النسخ وكيف؟ لكن من حظي الجيد أنني ظفرت بنسخة قبل أن يطوف عليها طائف من ''جهاز الرقابة'' في حركة النهضة.

وقبل بن سالم وبعده، إعترف كثيرون من قيادات الحركة المغادرين لها بوقائع عنف في تاريخها منذ تأسيسها حتى اليوم، لكن هذه الإعترافات دائما ما صنفت في خانة ''إنتقام المغادر" ولم ينظر إليها كمراجعات أو نقد ذاتي، وأخرها ما صرح به مدير مكتب راشد الغنوشي السابق لطفي زيتون، حول مسؤولية الحركة عن أعمال عنف في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. كما كانت هذه الاعترافات متأخرة دائماً.

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية