الإسلاموية تستغل "الفراغ الأخلاقي والسياسي" في أوروبا

الإسلاموية تستغل "الفراغ الأخلاقي والسياسي" في أوروبا

الإسلاموية تستغل "الفراغ الأخلاقي والسياسي" في أوروبا


16/03/2024

ترجمة: محمد الدخاخني

بالعودة إلى عام 2005 عندما كنت نائبة في البرلمان الهولندي، كان حزبي يضع استراتيجيَّته بشأن الانتخابات المحلية المقبلة. وقد انتميتُ وقتها إلى (حزب الشعب من أجل الديمقراطية)، الذي انتمى بدوره إلى يمين الوسط، وكُنَّا معنيِّين بشكل خاص باستقطاب مجتمع المهاجرين المتنامي في البلاد. وبعد الكثير من المناقشات، استقرَّ الزعماء على أن تمثِّلنا لاتيتيا غريفيث في أمستردام. وغريفيث امرأة سوداء البشرة ولها جذور في سورينام -وهي مستعمرة هولندية سابقة في منطقة البحر الكاريبي- وكان بإمكانها اجتذاب أصوات الأوروبيين السود. والأهم من ذلك أنّ استراتيجيي الحزب اعتقدوا أنّها تستطيع كسب تأييد بعض السكان المسلمين في المدينة.

وعلى أمل تسهيل هذه المهمة، عبَّرت المجموعة القائمة على استراتيجية الحزب أيضاً عن مطلب غريب: أن ألتزمَ الصمت بشأن كل القضايا المتعلقة بالإسلام، على الأقل حتى تمرَّ الانتخابات. ثم ذهبوا إلى أبعد من ذلك، وطلبوا منّي أن أصرِّح علانية أنّ الإسلام دين السلام.

يكفي أن أقول إنّني رفضتُ ذلك. وشرحتُ لهم لماذا لا يُعدُّ التغاضي عن التهديد الذي تُشكِّله الإسلاموية تكتيكاً سياسياً ذكياً. وشدَّدتُ على أنّه ينبغي لنا تشجيع الأقليات المسلمة على الاندماج واحتضان القِيَم الهولندية. لكنّ الحزب انحاز إلى غريفيث، ووصموني بالمشاغبة، وخسرنا الانتخابات. ومع ذلك، حتى هذا لم يمنح القيادة لحظة للتأمُّل. الخلاصة الرئيسة كانت: إذا أردنا الفوز في أكبر (4) مدن في البلاد، فإنه يتعيَّن علينا مواصلة التسامح مع الأشكال الانعزالية من الإسلام. وكما أخبرني زملائي الكبار مراراً، فقد كان هذا هو الخيار المنطقي من الناحية التصويتية.

البرلمان الهولندي

على مدار الأعوام الـ (18) الماضية شهدنا تداعيات مثل هذا "المنطق"، ليس فقط في هولندا، بل في مختلف أنحاء الغرب، فقد تسبَّبت القوة المُقلقِلة للإسلاموية في زعزعة التقاليد السياسية التي كانت قوية ذات يوم. في فرنسا، على سبيل المثال، يبذل إيمانويل ماكرون الآن قصارى جهده للتحدُّث بصرامة عن الإسلام في محاولة لاسترجاع ما لم ينفقه من سلطة سياسية. في الولايات المتحدة، من ناحية أخرى، لا يتمتع الديمقراطيون بمثل هذا الترف؛ فقد بدأت المخاوف تتسلل بالفعل إلى حد احتمال خسارتهم انتخابات هذا العام إذا ظل المؤيدون المناصرون لفلسطين -الذين يحشدهم إسلامويون منظَّمون تنظيماً جيداً- في بيوتهم في الولايات المتأرجحة. وفي ميشيغان، بالفعل، حثَّت رشيدة طليب الديمقراطيين على عدم التصويت لبايدن.

في مواجهة وصول مجتمع جديد يتمتَّع بمثل هذا النظام الإيماني القوي، لجأت النخب السياسية في أوروبا إلى التعصُّب الناعم المتمثِّل في التوقعات المنخفضة

وحتى المملكة المتحدة، تلك الدولة الجزرية التي يُنظَر إليها غالباً على أنّها محصَّنة ضد القوى الراديكالية، أصبحت الآن مضطرة للتعامل مع الإسلاموية. في الأسبوع الذي انقضى منذ أن أوقف حزب العمال مُرشَّحه في روتشديل، أُلقي الكثير من اللوم على مجموعة ضبابية من المعادين للسامية. ومع ذلك، فإنّ ما هو مفقود هو تقدير مصدر هذا التحيز في كثير من الأحيان؛ فهو ليس مجرد نتاج لسياسة طلاب جامعيين ناشطين في سياسات إنهاء الاستعمار، ولكنّه نتاج لاستعداد الحزب لاسترضاء ناخبيه الإسلامويين.

تمتد هذه الظاهرة، بالطبع، إلى ما هو أبعد من حدود روتشديل أو حزب معين. بل إننا نشهد ما وصفه كريستوفر كالدويل بـ "الثورة في أوروبا". في عام 2009  لاحظ كالدويل كيف أنّ الهجرة الجماعية للمسلمين غيَّرت ثقافة أوروبا. وأشار إلى أنّ هؤلاء الوافدين الجدد لا يعزِّزون روح المدن الأوروبية بل يستبدلونها. وكما كتب: "عندما تجتمع ثقافة نسبوية وغير آمنة ومِطواعة مع ثقافة راسخة وواثقة ومعزَّزة بتقاليد مرعية، فإنّ الأولى بشكل عام هي التي تتغير لتناسب الثانية".

ولهذا السبب، فقد اعتبره الكثيرون (مثل كثيرين غيره) كارهاً للأجانب ومروِّجاً للخوف. وبعد أن لاحظ الزعماء السياسيون في أوروبا الطريقة التي عُومِلَ بها، استمروا في بيع الوعود الكاذبة لنا بشأن التعددية الثقافية، من دون أن يدركوا أنّهم بذلك يسمحون لعملية الأسلمة بالترسُّخ.

 كريستوفر كالدويل

وعند مراقبة هذه الدوامة الهبوطية، من المألوف إلقاء اللوم على أمريكا؛ ففي نهاية المطاف هي الأمّة التي أنجبت شعار التعددية الثقافية. لكن إذا كانت أمريكا هي التي خلقت بذور الفوضى الحالية، فإنّ المناخ الأوروبي سمح لها بالازدهار. وليس من قبيل المصادفة أنّ الطفرة الأوروبية في الإسلاموية جاءت في الوقت الذي بدأت فيه عملية نزع الهوية المسيحية عن القارة تترسَّخ. وقد قُوبِلَ هذا التعصُّب المتصاعد بفراغ روحي، وبالتالي ازدهر.

وفي مواجهة وصول مجتمع جديد يتمتَّع بمثل هذا النظام الإيماني القوي، لجأت النخب السياسية في أوروبا إلى التعصُّب الناعم المتمثِّل في التوقعات المنخفضة. ومن خلال حرمان المهاجرين المسلمين من الفعالية، أحطناهم بخطاب الضحية. وطُوِّرت مجموعة من الافتراضات الخاطئة لوصفهم بأنّهم ضحية للإقصاء والتمييز، وأصبح هذا مجرد شكل آخر من أشكال "المنطق".

وبعد عام 2001، عندما بدأ الإرهاب الجهادي يحدث في أوروبا، وأظهر استطلاع تلو الآخر أنّ معظم المسلمين يدعمون بهدوء النظام العقائدي الذي يُبرِّر أنشطة الإرهابيين، أصرَّ الزعماء الأوروبيون على هذه الافتراضات. وخُفِّفت القواعد، وخُفِّضت المعايير، وقُدِّمت الأعذار كلما انقلبت النزعة الانفصالية إلى عنف.

تمتد هذه الظاهرة، بالطبع، إلى ما هو أبعد من حدود روتشديل أو حزب معين. بل إننا نشهد ما وصفه كريستوفر كالدويل بـ "الثورة في أوروبا"

وفي الوقت نفسه أصبحت ظاهرة التلاعب بالبيانات القاعدة السياسية. لقد اصطفَّ الأكاديميون والباحثون للخروج بنتائج مُطمئِنة على الورق رفضت الاعتراف بموجة الأسلمة المتصاعدة، إمّا عن طريق تجاهلها تماماً، وإمّا التقليل من عدد المهاجرين المسلمين. وبالكاد سُجِّل إنشاء المحاكم الشرعية، بينما قيل لنا إنّ بناء المساجد والمدارس والمراكز الإسلامية الضخمة يقوده ويديره مسلمون معتدلون. أمّا أولئك الذين كانوا يتمتعون بالشجاعة الكافية للاستمرار في التحدُّث علناً - على سبيل المثال بشأن عصابات استغلال الأطفال جنسياً - فقد أُسكِتوا أو طُرِدوا.

هذه هي خلفية صعود الهجمات الإسلاموية في أوروبا والغرب، ولكنّها أيضاً السبب وراء الأزمة السياسية التي تعيشها بريطانيا اليوم. في جميع أنحاء البلاد -من روتشديل إلى تاور هامليتس، ومن سالزبوري إلى مانشستر- بدأنا نشهد ما يحدث عندما تُمنح الإسلاموية رخصةً للازدهار. انخدع كثيرون بالاعتقاد أنّ عام 2024 سيكون "عاماً مملاً" بالنسبة إلى بريطانيا، وأنّه بعد الاضطرابات التي شهدها (حزب المحافظين)، فإنّ عهد ستارمر، في أسوأ الأحوال، سيكون خالياً من النكهة إلى حد ما.

تاور هامليتس

لكنّ هذا كان دائماً ضرباً من الخيال. يُركِّز ستارمر ببساطة، مثل كثيرين من أسلافه ونظرائه في أوروبا، على الهدف قصير الأمد المتمثِّل في الفوز بالانتخابات العامة. ومرة أخرى، مثل الكثيرين منهم، يجد نفسه الآن يتصارع مع قاعدة مسلمة ستطلب تسوية إذا أراد الفوز بأصواتها. بعبارة أخرى، بدأنا نشعر على نحو متزايد بأنّ الأمر أشبه بعودة ما حدث في عام 2005؛ إعادة عرض للمعضلة الانتخابية التي واجهها (حزب الشعب من أجل الديمقراطية)، واستجابة "منطقية" مزعومة تؤدِّي حتماً إلى نتائج عكسية.

من الصعب ألّا نستنتج أنّ هذه هي "بريطانيا الجديدة" التي وعد بها رئيس وزرائها المقبل، حيث تتكرر مشاهد مثل تلك التي شهدناها في روتشديل مراراً. وهذا، في نهاية المطاف، هو ما يحدث عندما تتآكل المبادئ الأساسية لأيّ دولة. وعندما تواجه الإسلاموية فراغاً أخلاقياً وسياسياً، تصبح القوة الفعالة الوحيدة.

 المصدر:

إيان حرسي علي، أنهيرد، 19 شباط (فبراير) 2024




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية