
قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارة رسمية إلى مصر يوم 7 نيسان (أبريل) الجاري، التقى خلالها بالرئيس عبد الفتاح السيسي في القاهرة، وشارك في قمة ثلاثية مع العاهل الأردني لمناقشة الحرب في غزة.
هذه الزيارة الرفيعة المستوى تأتي في ظل توتر سياسي وإقليمي، ولها دلالات مهمة على النظام المصري، وجماعة الإخوان المسلمين المحظورة في مصر. فقد عززت الزيارة موقع الحكومة المصرية دوليًا عبر توقيع اتفاقيات ثنائية، مع رفع مستوى العلاقات إلى شراكة استراتيجية.
الزيارة أثارت في المقابل ردود فعل غاضبة، وحملة دعائية مضادة من قِبل جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها، فقد سعت للتقليل من أهمية الزيارة، والتعتيم على نتائجها الإيجابية.
التأثير السياسي للزيارة على الجماعة
من الناحية السياسية، شكّلت زيارة ماكرون دفعة قوية لنظام الرئيس السيسي، وعززت شرعيته الدولية، وهو ما يُعدّ تطورًا سلبيًا بالنسبة إلى جماعة الإخوان. فقد أعلن ماكرون والسيسي خلال الزيارة رفع العلاقات إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، عبر توقيع إعلان مشترك في قصر الاتحادية. كما شهدت الزيارة توقيع عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم في مجالات الصحة والنقل والطاقة والتعليم، بما في ذلك مذكرة تفاهم صحية لمساعدة الجرحى الفلسطينيين الذين تم إجلاؤهم من قطاع غزة.
بالنسبة إلى جماعة الإخوان المسلمين، فإنّ تعزيز العلاقات المصرية مع دولة كبرى مثل فرنسا يمثل ضربة لموقف الجماعة السياسي. فهو يرسل رسالة بأنّ المجتمع الدولي يتعامل مع السيسي كشريك شرعي ويعزز استقرار حكمه، ممّا يزيد من تهميش الإخوان. وهذا يُترجم عمليًا إلى تفهم فرنسي للإجراءات الأمنية المصرية ضدّ الجماعة الإرهابية. كما أنّ توطيد التعاون الأمني بين مصر وفرنسا ضمنيًا يصبّ ضدّ الجماعة. وعلى سبيل المثال عندما التقى ماكرون بالسيسي في العام 2017، قدّم له قائمة بأسماء ناشطين معتقلين طالب بإطلاق سراحهم، لكنّ السيسي رفض بشكل قاطع معتبرًا أنّهم مرتبطون بالإخوان. وهذا الموقف الحازم أقنع ماكرون بتخفيف ضغوطه في هذا السياق. واستمرار الشراكة اليوم بالنهج نفسه يعني ضمنًا موافقة باريس على استبعاد الإخوان من أيّ حوار سياسي مصري. من جهة أخرى جاءت زيارة ماكرون أساسًا في سياق بحث حلول لأزمة غزة، والتنسيق لوقف إطلاق النار وإعادة الإعمار.
التأثير الإعلامي وردود فعل الإخوان
رافقت الزيارة تغطية إعلامية واسعة في مصر، ركزت على الحفاوة التي استُقبل بها ماكرون، وعلى رسائل الصداقة والتعاون بين البلدين. فقد بثّ الإعلام الرسمي لقطات لجولة الرئيسين في شوارع القاهرة القديمة (حي الحسين وخان الخليلي) وسط تجمع المواطنين وتحيتهم، وأكدت وكالة الأنباء المصرية أنّ ماكرون قوبل "بترحيب شعبي واسع" خلال تلك الجولة. كما نشر ماكرون نفسه على منصة (إكس) مقطعًا مصورًا له مع السيسي بين الجموع في خان الخليلي، وشكر فيه "فخامة الرئيس السيسي والشعب المصري على الاستقبال الحار"، واصفًا المشهد بأنّه "تحية نابضة للصداقة التي تجمع مصر وفرنسا".
هذه الصورة الإعلامية الإيجابية التي تُبرز أجواء الود والتحالف بين القاهرة وباريس سعت لترسيخ فكرة نجاح دبلوماسي مصري ودعم فرنسي واضح لمصر. في المقابل، تعاملت وسائل الإعلام المحسوبة على الإخوان والمعارضة المصرية في الخارج مع الزيارة بنبرة مختلفة تمامًا. وحرصت تلك المنصات على رصد الجوانب التي اعتبرتها سلبية، أو مبالغًا فيها في استقبال ماكرون، وذلك في إطار حملة إعلامية مضادة لتفنيد الدعاية الرسمية.
على سبيل المثال، تداولت قنوات معارضة عبر مواقع التواصل خبر تعليق الدراسة في جامعة القاهرة يوم الزيارة كدليل على الإجراءات الأمنية المفرطة. وقد علّق كاتب في صحيفة (القدس العربي) مستهجناً القرار بلهجة ساخرة قائلاً: "يا للهول... يتم تعليق الدراسة في جامعة القاهرة بسبب زيارة ماكرون! لقد كنت أدرس في القاهرة في ستينات القرن الماضي، ولم تُعلَّق الدراسة يومًا بسبب زيارة أيّ من الرؤساء". زاعمًا أنّ زيارات زعماء كبار في الماضي لم تؤدِ إلى مثل هذه التدابير.
هذا النقد يُظهر سعي الإعلام الإخواني لتصوير الزيارة على أنّها مُثقلة بإجراءات أمنية استثنائية، تعكس خوف النظام من أيّ احتجاج شعبي، أكثر من كونها احتفاءً طبيعيًا. كما ركز إعلام الإخوان على تشويه مشهد الترحيب الشعبي الذي روّج له الإعلام الرسمي. فقد وصف موقع (عربي21) "المقرّب من الإخوان" الرئيس السيسي خلال تغطيته للخبر بأنّه "رئيس النظام المصري"، بدلًا من "رئيس الجمهورية"، في إشارة ضمنية إلى عدم شرعيته بنظرهم. وأورد الموقع خبر جولة ماكرون في خان الخليلي مصحوبًا بصور الحشود، لكنّه ألمح إلى أنّها جاءت وسط تأمين أمني مكثف وإجراءات خاصة. كذلك نشرت الصفحة الرسمية لقناة (مكملين) "التابعة للإخوان" عبر (إنستغرام) صور الجولة في خان الخليلي، مرفقة بتعليقات تُبرز تجمع رجال الأمن والحراسة حول ماكرون والسيسي، أكثر من إبراز الحفاوة الشعبية بالزيارة.
هذا التناول يوحي بأنّ الترحيب الجماهيري كان مُنظمًا ورسميًا وليس عفويًا، في محاولة لتفنيد رواية الإعلام الحكومي عن تلقائية استقبال المصريين لماكرون. أمّا على منصات التواصل الاجتماعي، فقد نشطت حسابات لشخصيات محسوبة على الإخوان، في توجيه انتقادات لاذعة لماكرون ولسياسات فرنسا تجاه الإسلام. فعلى سبيل المثال، أعاد العديد من النشطاء نشر تصريحات قديمة لماكرون، لاتهامه مجددًا بمعاداة الإسلام والمسلمين. وسخر البعض من تجوله في منطقة الحسين التاريخية بالرغم من كونه "صاحب مقولة الإسلام في أزمة"، وفق تعبير أحد المعلقين، في تناقض ساخر بين تصريحاته السابقة واحتفائه بحضارة دولة إسلامية خلال الزيارة. كذلك تم إحياء حملات المقاطعة للبضائع الفرنسية حيث ذكّر أنصار الإخوان بهاشتاغات "#مقاطعة_المنتجات_الفرنسية" احتجاجًا على سياسات فرنسا.
الإخوان اختاروا تجاهل الحدث إعلاميًا، وعدم منحه مساحة، في محاولة لعدم الاعتراف بأهميته أو نجاحه السياسي. وفي حال التطرق إليه جاء السياق سلبيًا؛ مثال ذلك مقال رأي في (القدس العربي) اعتبر اهتمام النظام المصري المبالغ بالزيارة دليل ضعف يبحث عن شرعية دولية، وانتقد ما وصفه "استغلال النظام لزيارة زعيم أوروبي لتلميع صورته داخليًا وخارجيًا". عمومًا، عكست ردود فعل الإخوان الإعلامية شعورًا بأنّ الزيارة تهدد روايتهم الكاذبة حول عزلة نظام السيسي وفشله، لذا سارعوا إلى تطويق أثرها عبر التقليل من شأنها والتركيز على انتقاد ماكرون نفسه.
الدعاية المضادة للإخوان ضدّ الزيارة
أطلقت جماعة الإخوان المسلمين حملة دعائية مضادة؛ بهدف التشكيك في أهمية زيارة ماكرون والتقليل من نتائجها، ارتكزت هذه الحملة على عدة محاور أبرزها:
حصر أهداف الزيارة في قضية غزة: روّجت أدبيات الإخوان وأنصارهم لفكرة أنّ ماكرون جاء إلى القاهرة مضطرًا، بسبب تصاعد حرب غزة، وليس دعمًا للسيسي. وأكدوا أنّ التركيز الأساسي كان على "الوضع الملحّ في غزة" ومساعي وقف إطلاق النار، وأنّ دور مصر كوسيط هو الذي استدعى هذه الزيارة الفرنسية، في محاولة لنزع صفة الإنجاز السياسي الشخصي للسيسي. وبذلك يصوّرون الأمر على أنّ ماكرون احتاج مصر، ولم يأتِ تقديرًا لقيادتها بالضرورة. حتى أنّ بعض حسابات الإخوان علّقت بأنّ "ماكرون جاء يبحث عن حل لمأزق غزة الذي أوجدته سياسات الغرب"، في إشارة ضمنية إلى أنّ الزيارة خدمة لمصالح فرنسا الإقليمية أكثر من كونها دعمًا لمصر.
التشديد على تجاهل ملف حقوق الإنسان: ضمن خطاب التشكيك، أشارت الجماعة إلى أنّ ماكرون تغاضى عن الحديث العلني عن انتهاكات حقوق الإنسان في مصر خلال مؤتمره الصحفي مع السيسي، برغم الضغوط السابقة عليه لإثارة الملف. واعتبرت ذلك دليلًا على صفقة ضمنية والتواطؤ مع النظام من أجل المصالح.
الإيحاء بفشل اقتصادي مستتر: رغم إعلان اتفاقيات اقتصادية مهمة خلال الزيارة، منها تعهد فرنسا بتقديم تمويلات بقيمة (4) مليارات يورو لدعم القطاعين العام والخاص في مصر، سعت دعاية الإخوان إلى التقليل من شأن هذه المكاسب. فزعم بعض محلليهم أنّ الأزمة الاقتصادية الحادة في مصر تجعل أيّ استثمارات أجنبية محفوفة بالمخاطر، وأنّ النظام "يستجدي الدعم لإنقاذ اقتصاده المتهاوي". وتحدثوا عن أنّ المنح والقروض الفرنسية لن تحلّ أزمة الديون والتضخم التي يعانيها المصريون، وبالتالي فهي "مجرد مسكّنات مؤقتة"، كما شككوا في "حقيقة الأرقام المعلنة"، بالإيحاء أنّ جزءًا كبيرًا منها عبارة عن اتفاقيات نوايا قديمة أو مشروعات متفق عليها سابقًا وليست إنجازًا جديدًا خالصًا لهذه الزيارة. وبهذه الطريقة حاولت الجماعة تسفيه الأثر الاقتصادي الإيجابي للزيارة.
استدعاء إرث الاستعمار والعداء للإسلام: في مسعى لضرب مصداقية ماكرون، استعادت الدعاية الإخوانية صورة فرنسا كقوة استعمارية سابقة ومعادية للمسلمين. فذكّروا بتاريخ الاحتلال الفرنسي لمصر (1798) وللدول العربية، وطرحوا تساؤلات مثل: "ماذا جنى العرب من صداقات ماكرون، سوى الرسوم المسيئة والتدخلات في أفريقيا؟".
كما أعادوا التذكير بدعم فرنسا للعمليات العسكرية في ليبيا وسوريا، للإيحاء بأنّ ماكرون ليس صديقًا حقيقيًا للعرب أو المسلمين. هذه النغمة تهدف إلى نزع الثقة بشرعية التقارب الفرنسي مع مصر، عبر تصويره كتحالف بين "علمانية متطرفة، ومستبد محلي ضد إرادة الشعوب المسلمة". وضمن هذا الإطار صوّرت منشورات إخوانية ماكرون، وهو يتجول في الأزهر والمناطق الإسلامية بالقاهرة، على أنّه نفاق سياسي، حيث "يُظهر احترامًا لحضارة المسلمين في مصر، بينما يضيق على المسلمين في فرنسا".
عبر هذه المحاور وغيرها سعى إعلام الإخوان إلى تفريغ الزيارة من أيّ مضمون إيجابي ومنعها من تحقيق انتصار سياسي لمصر، فكل إنجاز قابلته رواية مضادة.
الأثر الإيجابي للزيارة ومحاولات التعتيم عليه
رغم محاولات الإخوان التشويش، حملت زيارة ماكرون إلى مصر أثرًا إيجابيًا ملموسًا لمصر، سواء على الصعيد الدولي أو الداخلي. وقد حرصت السلطات المصرية وإعلامها على إبراز هذه المكاسب، بينما حاولت جماعة الإخوان التعتيم عليها أو التقليل من شأنها:
تعزيز المكانة الدبلوماسية لمصر: أكدت الزيارة عمق العلاقات المصرية الفرنسية، وترقيتها إلى شراكة استراتيجية شاملة. هذا التطور عزز من صورة مصر كطرف إقليمي محوري يحظى باحترام القوى الكبرى. وقد أظهرت مشاهد استقبال ماكرون بحفاوة في القاهرة، ثم مشاركته إلى جانب السيسي وملك الأردن في قمة غزة، هذا الأثر الإيجابي، ذلك أنّ القاهرة باتت ساحة دبلوماسية نشطة لحل أزمات المنطقة.
مكاسب اقتصادية وتنموية: تم خلال الزيارة توقيع (12) اتفاقية ومذكرة تفاهم اقتصادية في مجالات متنوعة، وشملت مشروعات في البنية التحتية والصحة والطاقة والتعليم وغيرها. وأعلن عن برامج للتعاون الأكاديمي والبحثي بين الجامعات المصرية والفرنسية، فضلاً عن دعم أوروبي لإعادة إعمار غزة عبر البوابة المصرية.
هذه الاتفاقيات تصبّ في مصلحة الاقتصاد المصري، وتسهم في خلق فرص عمل واستثمارات جديدة.
الإعلام الرسمي احتفى بهذه الأخبار بوصفها ثمار الشراكة، في حين لم تمنحها وسائل الإخوان أيّ مساحة. بل إنّ موقع (إخوان أونلاين) لم يذكر مثلًا مذكرة التفاهم الصحية لعلاج جرحى غزة التي وقعها ماكرون والسيسي.
تكريس دور مصر في قضية غزة: جاءت إشادة ماكرون "بالجهود الحثيثة التي تبذلها مصر" كوسيط لوقف الحرب بمثابة إقرار دولي بدور القاهرة المركزي في الملف الفلسطيني. وقد صرح ماكرون من القاهرة برفضه القاطع لأيّ مخطط لتهجير سكان غزة، منسجمًا بذلك مع الموقف المصري.
هذا التناغم الفرنسي مع الموقف المصري يعطي القاهرة ثقلًا سياسيًا وأخلاقيًا في الدفاع عن القضية الفلسطينية.
تحسين الصورة الأمنية والسياحية لمصر: أظهرت جولة ماكرون مع السيسي في شوارع القاهرة القديمة صورة للاستقرار والأمن في مصر. فمشاهد تجول رئيس أجنبي وسط الناس في المساء، وتناول العشاء في مطعم شعبي (مطعم نجيب محفوظ بخان الخليلي)، بعثت برسالة بأنّ القاهرة مدينة آمنة وقادرة على تأمين الشخصيات المهمّة. وقد علّق مراقبون بأنّ هذه الجولة السياحية ستظل "علامة بارزة في تاريخ العلاقات"، و"تجسّد وجه مصر الآمن للعالم".