
منذ تأسيسها في عام 1928 على يد حسن البنا تبنت جماعة الإخوان المسلمين خطابًا يستند إلى مواجهة التغريب والهيمنة الغربية، بداية في مصر، ثم توسعت لاحقًا لتجد في أوروبا تربة خصبة لنشر إيديولوجيتها مستغلة حرية التنظيم وغياب القيود الصريحة على الجماعات الإسلامية. وبرغم الخلاف حول تاريخ بداية وجود الجماعة في أوروبا، فإنّ معظم الروايات تتفق على أنّ الستينيات مثلت نقطة الانطلاق، حينما لجأ قياديون مثل سعيد رمضان إلى القارة الأوروبية بعد فرارهم من الأنظمة العربية، فأسسوا شبكات إيديولوجية تحت غطاء من العمل الدعوي والخيري.
في السياق تناولت دراسة حديثة صادرة عن مركز (تريندز للبحوث والاستشارات) طبيعة نفوذ التنظيم داخل دول أوروبا في الوقت الراهن، والسيناريوهات المستقبلية للتنظيم في ضوء الإجراءات الأوروبية خلال الأعوام الماضية، والتي استهدفت تحجيم أنشطة التنظيم وتتبع مصادر تمويله.
وتوضح الدراسة أنّه بعد عقود من النشاط المتصاعد باتت جماعة الإخوان تواجه تحديات جديدة في أوروبا، فقد بدأت بعض الحكومات في كسر حاجز الصمت واتخاذ خطوات تشريعية وأمنية لمواجهة ما تصفه بـ "التهديد الخفي" لبنية المجتمعات الأوروبية. وبينما ما تزال بعض الدول مترددة في تصنيف الجماعة كتنظيم إرهابي، فإنّ مؤشرات عديدة تدل على تغيّر تدريجي في المواقف الرسمية الأوروبية، وسط تحذيرات متزايدة من الأجهزة الأمنية حول تأثير الجماعة في تشكيل السياسات المحلية وخطاب الكراهية والانفصال المجتمعي.
النمسا: الريادة الأوروبية في حظر الإخوان
أصبحت النمسا في حزيران (يونيو) 2021 أول دولة أوروبية تحظر جماعة الإخوان المسلمين بموجب قانون مكافحة الإرهاب، وقد تبنّت الحكومة النمساوية استراتيجية شاملة لمكافحة الإسلام السياسي، بعد أن حددته كأحد أبرز التهديدات الأمنية في البلاد. وشملت الإجراءات توسيع دور "مركز توثيق الإسلام السياسي" لرصد نشاط الجماعة، إلى جانب تعزيز صلاحيات مراقبة المؤسسات الدينية والتعليمية المرتبطة بها. كما جاء تشكيل حكومة ائتلافية ثلاثية (حزب الشعب، والحزب الديمقراطي الاجتماعي، وحزب الحرية) ليس فقط لإدارة البلاد، بل أيضًا لمواجهة التطرف الديني بصورة مؤسسية وعلنية.
ألمانيا: خطوات حذرة على خُطا النمسا
في كانون الثاني (يناير) 2025 ناقش البرلمان الألماني مشروع قانون لحظر الإخوان، قدّمه حزب "البديل من أجل ألمانيا" تحت عنوان "ضمان الأمن الداخلي على المدى الطويل". المشروع يستهدف الجماعات الإسلامية والمعادية للسامية، في ظل تشديد عام على سياسات الأمن والهجرة. وجاء ذلك في سياق الإجراءات التي أعلنتها وزيرة الداخلية نانسي فيسر بعد حادثة الطعن في زولينغن، حيث تم تعزيز الرقابة على الحدود، وبدء ترحيل اللاجئين المدانين بجرائم إلى أفغانستان، رغم التعقيدات القانونية المتعلقة بالتعامل مع نظام طالبان. كما أُدرجت تدابير إضافية تشمل خفض المساعدات المالية للاجئين الذين تقرر ترحيلهم، وتوسيع استخدام برامج التعرف على الوجوه، وحظر حمل السلاح في المناسبات العامة.
فرنسا: المواجهة عبر التشريعات والسياسات الثقافية
في أيار (مايو) 2024 أطلقت الحكومة الفرنسية تحقيقًا رسميًا في نشاط الإسلام السياسي والإخوان داخل البلاد، بمشاركة وزارتي الداخلية والخارجية. ويهدف التحقيق إلى تقييم التغلغل الإخواني في البنية المجتمعية والسياسية، بالتوازي مع تطبيق سياسات جديدة، منها مراقبة المدارس الخاصة والجمعيات الدينية، وإلغاء تصاريح الإقامة لبعض القيادات الإخوانية. وتؤكد تقارير استخباراتية فرنسية أنّ عدد أعضاء الجماعة تضاعف من (50) ألفًا عام 2019 إلى (100) ألف بحلول 2024. واعتبرت الحكومة أنّ الجماعة تسعى إلى فرض "أسلمة ثقافية" تدريجية تشمل الملابس والمطالب الدينية في العمل والتعليم، ممّا يدفع نحو تصدع في النسيج الوطني.
بريطانيا: من ملاذ آمن إلى تقييم جديد
رغم أنّ بريطانيا كانت توصف سابقًا بـ "الملاذ الآمن" للإخوان، فإنّ التحولات بدأت في أذار (مارس) 2024 حين أعلن وزير المجتمعات البريطاني، مايكل غوف، إدراج (5) جماعات ضمن قائمة التقييم الأمني، منها "الرابطة الإسلامية في بريطانيا" المرتبطة بالإخوان. ومع أنّ التنظيم لا يمارس نشاطاً سياسياً مباشراً، فإنّه ينسج شبكة من المؤسسات الخيرية والتعليمية ذات الطابع "الحيادي" ظاهرياً، والتي تعمل تدريجيًا على ترسيخ الفكر الإسلامي السياسي في المجتمع البريطاني دون الاصطدام بالقوانين.
غياب التصنيف الأوروبي الموحد وتأثيره
رغم ما سبق من تحركات على المستوى الوطني، تظل المشكلة الأساسية في غياب قرار أوروبي موحد يصنف جماعة الإخوان كتنظيم إرهابي. هذا الغياب ساعد الجماعة على التمدد، واستغلال ثغرات قانونية وسياسية لتثبيت نفوذها، بل المساهمة ـ بشكل غير مباشرـ في تغذية خطاب الجهادية والتشدد، بحسب تقييمات أمنية أوروبية. ومع أنّ تصنيف الإخوان لن يقضي على نشاطها كليًا، فإنّه قد يدفعها إلى العمل السري مجددًا، ممّا يصعب من عملية رصدها.
مستقبل المواجهة: بين السيادة والمواءمات
تشير الاتجاهات الراهنة إلى تراجع نسبي في حضور الإخوان عالميًا، إلا أنّ وجودهم في أوروبا ما زال يمثل تحديًا استراتيجيًا، لا سيّما مع تنامي أعداد المهاجرين المسلمين وسهولة تأسيس الجمعيات ذات الطابع الديني. وتبقى المعادلة معقدة: كيف يمكن مواجهة هذا الفكر دون الوقوع في فخ الإسلاموفوبيا؟ وكيف يمكن التفرقة بين حرية التدين ومشروع سياسي متكامل يهدد القيم الليبرالية؟
وتشير الدراسة إلى أنّه على الرغم من الخلاف بشأن التصنيف، إلا أنّ جميع أجهزة الأمن الأوروبية تتفق على نظرة سلبية للغاية تجاه الجماعة. ومع ذلك فإنّ تصنيف الجماعة إرهابية لن يضمن أمنًا مطلقًا؛ بل قد يدفعها للعمل في الخفاء وبسرّية أكبر، ممّا يصعّب عملية كشف أنشطتها. وفي المقابل فإنّ التعاون الأمني بين دول الاتحاد الأوروبي على غرار النموذج النمساوي، والفرنسي، ثم الألماني، من شأنه أن يعزز فعالية مكافحة الإرهاب.
ورغم مؤشرات التراجع العالمي للجماعة، فإنّها ما تزال تحتفظ بوجود قوي داخل أوروبا من خلال فروعها وشبكاتها. وتهدف إيديولوجيتها إلى تقويض أسس الدول الغربية عبر توظيف الرموز الإسلامية في تحقيق أهدافها، مستغلة تزايد أعداد المهاجرين المسلمين في أوروبا، ومستخدمة أساليب خفية لهزّ النظام الليبرالي من الداخل. وقد بدأت بعض الدول الأوروبية في اتخاذ خطوات استباقية لمواجهة هذا التهديد عبر تشديد القيود على الإخوان والتنظيمات المرتبطة بهم، وإن كان ذلك بوتيرة متفاوتة. ورغم هذه الجهود تواصل الجماعة نشاطها داخل القارة، محاولة التأثير في النسيج الاجتماعي والسياسي الأوروبي بنهجٍ تدريجي ومتقن.
وتخلص الدراسة إلى أنّ مواجهة الإخوان في أوروبا تتطلب تنسيقًا أوروبيًا مشتركًا، يوازن بين الحفاظ على القيم الديمقراطية من جهة، والتصدي للمشاريع الإيديولوجية الهادفة إلى تقويض أسس الدولة الحديثة من جهة أخرى.