اقتصاديون يجيبون لـ"حفريات": هل ينجح تحدي أردوغان لليد الخفية؟

اقتصاديون يجيبون لـ"حفريات": هل ينجح تحدي أردوغان لليد الخفية؟


06/01/2022

رغم تعدد وتوسع التعريفات لمصطلح "اليد الخفية" الذي ابتكره أهم مُنظري الرأسمالية، آدم سميث، يمكن القول إنّها مجموعة من التفاعلات اللامتناهية داخل بنية اقتصادية معينة، قد تتسع لتشمل الكوكب كله في وقتنا الحالي، تعبر عن الفاعلين بسائر أشكالهم، من حكومات ومؤسسات وأفراد، إلى جانب عوامل فاعلة تتعلق بالمجموع البشري، والنفس الإنسانية، وغيرها من العوامل التي لا يمكن حصرها، وهي في مجملها تحدد مسار الاقتصاد.

ولا يملك الإنسان إزاءها إلا محاولة الفهم والتحليل والتنبؤ، مع شرط المرونة الكافية لتعديل خططه، سواء كان فرداً أو مؤسسات أو حكومات، وهذه اليد الخفية أقوى من أية محاولة للتحكم فيها، ولكنّها مرنة لتوجيهها في حدود معينة.

اقرأ أيضاً: تظاهرات واعتقالات.. أزمة الليرة التركية تتفاقم والبنك المركزي ينتهج سياسات فاشلة

وفي المثال التركي، الذي شهدت عملته الوطنية، الليرة، تراجعاً كبيراً في سعر صرفها أمام العملات الأجنبية، وصل إلى أدنى سعر في تاريخها، وهو 17 - 18 ليرة لكل دولار، وما يعنيه ذلك من ارتفاع نسب التضخم، وارتفاع الأسعار، وكذلك ارتفاع تكاليف الاقتراض، وغير ذلك من التأثيرات المرصودة وغير المرصودة، كان السبب المباشر لهذا الانهيار المتسارع محاولة الرئيس التركي، أردوغان، تحدي هذه اليد الخفية لاقتصاد دولته، المرتبط بشكل كامل بالاقتصاد العالمي.

عملات نقدية تركية

وحين كانت النظريات الاقتصادية تطالب برفع أسعار الفائدة، رفض أردوغان ذلك، وأصر على رؤية شخصية غير مبنية على فهم لطبيعة الاقتصاد، وبالطبع اليد الخفية التي تعبر عنه، ولهذا جاءت رؤيته بنتائج عكسية على الاقتصاد التركي، حتى اضطر إلى التراجع والسماح برفع أسعار الفائدة، وإنّ كان بطريقة غير مباشرة، حفظاً لماء وجهه، بعد أنّ استغل الدين في تبرير عناده.

نزيف الليرة

ويعتبر عام 2021 الأسوأ على الإطلاق بالنسبة لليرة التركية التي خسرت أكثر من 52% من قيمتها، بعدما تراجعت من 7.4 إلى نحو 15.2 مقابل الدولار، وذلك في منتصف شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وظلت تتهاوى حتى سعر 18 ليرة مقابل الدولار، وذكر مراقبون أنّها بلغت 22 ليرة مقابل الدولار في السوق السوداء.

 

اقرأ أيضاً: ماذا تريد تركيا وروسيا مقابل الانسحاب من ليبيا؟

وتسببت أربعة تخفيضات للفائدة خلال ثلاثة شهور، من نسبة 19% في 22 أيلول (سبتمبر) الماضي، إلى 14% في 14 من الشهر الماضي، في انخفاض سعر صرف الليرة من 8.68 ليرة مقابل الدولار قبل بداية تخفيض الفائدة، إلى حدود 17 - 18 ليرة بعد التخفيض الأخير.

لو ترك أردوغان البنك المركزي يعالج الأزمة، لقام الأخير برفع نسبة الفائدة تدريجياً على حسب المتغيرات، ولكن ما فعله أردوغان هو تعويم نسبة الفائدة، وتركها للمجهول

وعقب إعلان أردوغان عن حزمة من الإجراءات لحث الأتراك على الإبقاء على الليرة بدلاً من تحويلها إلى الدولار، في 20 من الشهر الماضي، عاودت الليرة الارتفاع، وسجلت أعلى سعر عند 10.91 ليرة مقابل الدولار، قبل أنّ تعاود الانخفاض وتسجل سعر 13.39 مقابل الدولار، بتاريخ الرابع من الشهر الجاري.

ويتبع البنك المركزي التركي سياسة نقدية بناءً على أوامر مباشرة من الرئيس أردوغان، والذي أقال ثلاثة من رؤساء البنك خلال العامين الماضيين، بسبب معارضتهم لتدخلاته المباشرة، وأوامره بخفض سعر الفائدة، بالمخالفة لكلّ منطق اقتصادي، في وقت كان الاقتصاد يحتاج فيه إلى رفع سعر الفائدة، من أجل تحقيق انكماش لتحجيم التضخم، الذي وصل إلى 36.08% على أساس سنوي، بحسب الإحصاءات الرسمية، بينما شككت نقابات واقتصاديون في هذه النسبة، وحُدد التضخم في قطاع الأغذية على سبيل المثال بنسبة 61% خلال العام الماضي.

 

اقرأ أيضاً: الميليشيات التابعة لتركيا ترتكب جرائم وانتهاكات بحق السوريين.. هذه أبرزها

وحتى مع تعمد الحكومة خفض أسعار الفائدة، فإنّها باليد الأخرى قامت بشكل دوري برفع أسعار المحروقات والطاقة والسلع الغذائية والرسوم والغرامات وقيمة إيجارات المساكن العامة، في خطوة أكلت الزيادة التي أقرها أردوغان على الحد الأدنى للأجور، وهي قرارات اقتصادية كانت ستغدو سليمة إذا لم تكن الحكومة هي المسؤولة عن الانهيار المتسارع للعملة الوطنية.

عناد أردوغان

وحول رؤية أردوغان الاقتصادية، يقول الباحث الاقتصادي المصري، محمد نجم: "بدايةً الأزمة الاقتصادية التركية ليست وليدة العام الماضي، بل كانت بادية للعيان في العام 2017، وكان على البنك المركزي التدخل وقتها برفع سعر الفائدة، حين كانت عند نسبة 7.8%، وحتى مع اضطراره لرفعها تدخل الرئيس أردوغان، وأجبر البنك على خفضها وصولاً إلى 14%، ما تسبب في تسارع انهيار الليرة، وتأزيم الأزمة الاقتصادية".

محمد نجم: قوى السوق أكثر نفوذاً وقوةً من أي شخص

وتابع نجم لـ"حفريات": "يرى أردوغان أنّ الفائدة المرتفعة هي السبب الحقيقي للتضخم المرتفع، وبالتالي فإنّ خفض سعر الفائدة سوف يؤدي إلى خفض تكلفة الاقتراض، ثم تنخفض تكلفة إنشاء المشروعات، ويتشجع رجال الأعمال على مزيد من الاقتراض، فمزيد من المشروعات، فمزيد من الإنتاج، فمزيد من العرض، ومع ثبات الطلب ينخفض التضخم، ومع انخفاض خدمة الدين على الشركات تنخفض الأسعار".

اقرأ أيضاً: زيارة أردوغان للدوحة: المأزق الليبي وانهيار الليرة التركية والمخفي أعظم

وفي تحليله لهذه السياسة، قال نجم: "هذا الحديث نظرياً رائع، لكن تطبيقه قبل موعده المناسب لن يكون فقط تطبيقاً فاشلاً، بل إنّ إطلاق هذه الأدوات النقدية في حد ذاته تصرف خطير وغير مسؤول، ونتائجه تكون مُفزعة ومُروعة كما يحدث الآن؛ فالاقتصاد يخبرنا دائما أنّ قوى السوق أكثر نفوذاً وقوةً من أي شخص وأية مؤسسة، واليد الخفية تعمل تلقائياً وتفرض نفسها على الجميع".

وشدد نجم على أنّ "السوق والحالة النفسية للمستثمرين هي من تحدد سعر الفائدة، رغم أنّ الحكومة التركية تحددها عند 14% لكنّ السوق يفرض كلمته، وهو ما ظهر من خلال ارتفاع سعر فائدة الاقتراض في بعض بنوك تركيا لأعلى من 35% بدلاً من 21% في سبتمبر الماضي، رغم تحديد المركزي لها عند 14%. لكنّ السوق أقوى، ويضع سعر الفائدة الملائم لظروف السوق وحجم المخاطر المرتفعة للغاية حالياً، وبالتالي يطلب سعر فائدة مرتفعاً على إقراض أية شركة، ما يعني أنّ هذا ثاني أو ثالث أعلى سعر فائدة إقراض في العالم، ولا يسبق تركيا سوى اقتصادات بدائية مثل زيمبابوي وأنجولا".

أسباب الأزمة

ويتطلب حصر أسباب الأزمة الاقتصادية في تركيا جهود كبيرة من المتخصصين، ولكن هناك عوامل أساسية مطروحة، ومنها فقدان تركيا الاستقرار السياسي الداخلي والخارجي من عام 2013، والذي شهد تنحيها عن سياسة صفر مشاكل مع الجيران بشكل كامل، إلى العداء مع الدول العربية.

 

اقرأ أيضاً: ما دور تركيا وقطر في إفشال لقاء مقديشو وصومالي لاند؟

وداخلياً شهدت البلاد منذ 2013 اضطرابات سياسية كبيرة، وتفجر فضائح الرشاوى بحق أردوغان وجزء من رجاله، وكان العام 2015 مؤشراً بارزاً على فقدان هذا الاستقرار، ثم المحاولة الانقلابية المشكوك في أمرها في العام التالي، 2016، وما تبعها من إجراءات قمعية طالت المؤسسات المدنية والعسكرية، وكذلك شركات ومؤسسات ورجال أعمال، ومع تزايد هذا النهج الداخلي، والتدخلات الخارجية، تأثر الاقتصاد بشكل كبير، خصوصاً بعد العقوبات الأمريكية في 2019 على خلفية أزمة القس برانسون.

 

اقرأ أيضاً: حقيبة زوجة الرئيس التركي تزجّ بالصحفيين خلف القضبان

وفي حديثه لـ"حفريات"، قال الباحث والناشط اليساري المغربي، حميد باجو: "تركيا التي عرفت قفزة اقتصادية نوعية في العقدين الأخيرين، تدفقت عليها رؤوس أموال كثيرة من الخارج، سواء من أجل الاستثمار الطويل المدى، وهذا عادة يكون مفيداً للبلاد، أو من أجل المضاربة القصيرة المدى، التي عادة ما تصنع الفقاقيع المالية؛ عن طريق المضاربة في العقار مثلاً، والسندات المالية الأخرى، ورفع أسعارها إلى مستويات غير معقولة، كما في لعبة القمار".

حميد باجو: كان على أردوغان ألا يتدخل في عمل البنك المركزي

وأردف لـ"حفريات": "النوع الثاني هي الأموال التي يقوم أصحابها بإخراجها من البلاد بإعادة  تهريبها الى الخارج بمجرد ظهور أي مشاكل في البلاد. وشهدت تركيا العديد من المشاكل مع معظم محيطها الإقليمي والدولي، بالإضافة إلى أزمة كورونا، وتأثيرها الكبير على السياحة، وكل ما سبق عوامل أدت إلى تراجع الثقة في الاقتصاد والليرة، ما جعل أصحاب أموال المضاربة يسحبون أموالهم منها، ويتسابقون  إلى بيع ما لديهم من ليرة، ما تسبب في نزولها بشكل كبير".

لماذا تدخل أردوغان؟

وإلى جانب الأسباب السابقة عن أزمة الليرة، هناك سبب قوي، وهو الميزان التجاري للاقتصاد؛ حيث الفرق بين الواردات والصادرات يميل دوماً لصالح الواردات، وهو الفارق الذي يؤدي إلى تراجع قيمة العملة الوطنية، وتلجأ الدولة إلى تغطيته بالاقتراض الخارجي بالأساس، ما يجعل العملة الوطنية شديدة التأثر بالأسواق العالمية.

وفي الحالة التركية بلغ عجز التبادل التجاري 45.9 مليار دولار، بعد أنّ بلغ حجم التبادل التجاري 496.7 مليار دولار، وبلغ حجم الواردات 271.4 مليار دولار، وذكر أردوغان في خطابه الأخير، أنّ حجم العجز تراجع بنسبة 7%.

الخبير المالي محمد أنيس لـ"حفريات": من أين ستوفر الحكومة السيولة لدفع فروقات حماية الودائع بالليرة؟ ستلجأ إلى الاستدانة وطبع النقود، وهذا سيؤدي إلى زيادة الكتلة النقدية، وارتفاع التضخم

وكان البعض من أنصار أردوغان حاججوا بأنّ انخفاض قيمة العملة، يجعل الصادرات التركية تنافسية، وهي حجة تبدو سليمة، ولكن ليست في سياق اقتصاد يعتمد في إنتاجه على الاستيراد بالأساس؛ ما يعني أنّ انخفاض قيمة العملة يؤدي إلى ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج، وبالتالي ارتفاع أسعارها.

وأشار الناشط اليساري، باجو إلى أنّ "تركيا كانت أمام خيارين: رفع الفائدة لتقليص كتلة النقد المتداول، وما يتبعها من تقليص الاستهلاك والطلب الداخلي، وبالتالي تقلص الاستثمار وركود الاقتصاد، وما ينتج عنه من ارتفاع البطالة، أو تثبيت الفائدة ومواجهة التضخم، وأيضاً رفع الأسعار، وتهاوي قيمة العملة، وكان على أردوغان ألا يتدخل في عمل البنك المركزي، ويتركه يرفع الفائدة".

صرافة تركية

ولكن، يردف باجو: "رفض أردوغان رفع الفائدة لسببين؛ الأول بسبب ما ذكره من خلفية دينية، والثاني وهو الأهم لأنّ برنامجه السياسي والاقتصادي مبني على أساس تطوير الصناعة، وهذا ما يفترض في نظره أن تبقى الفائدة ناقصة والقروض في متناول المستثمرين، حتى وإن تضررت بعض الفئات من الشعب أو الكثير منه، ظناً أنّ التضخم لن يدوم، ما دام الإنتاج الصناعي ناشطاً".

 

اقرأ أيضاً: هكذا تغلغلت تيارات الإسلام السياسي في موريتانيا.. ما علاقة قطر وتركيا؟

وكلفت تدخلات أردوغان البنك المركزي 128 مليار دولار، خلال العام الماضي، قام ببيعها لحماية الليرة، وباستثناء العملات الأجنبية والذهب الذي يحتفظ به البنك كدين وقرض، انخفض صافي الاحتياطي بما لا يشمل المقايضات الجارية بمقدار 9 مليارات دولار من -46.7 مليار دولار إلى -55.7 مليار دولار بنهاية العام الماضي.

وأعلن أردوغان عن عدّة إجراءات، في 21 من الشهر الماضي، لحماية الليرة، من أهمها؛ حماية الودائع بالليرة التركية، وذلك بتكفل الحكومة دفع فرق سعر الصرف إذا ما خسرت الليرة من قيمتها أمام الدولار، في وقت استحقاق الوديعة، مع الفائدة الرسمية 14%.

إلى جانب، تحديد سعر صرف طويل الأجل للشركات المصدرة عبر البنك المركزي بشكل مباشر، وفي حال حدوث فروقات سيتم دفعها بالليرة للشركات المعنية، بجانب رفع الحد الأدنى للأجور.

سيناريوهات المستقبل

وحول نجاعة هذا الحل، يقول الخبير المالي والمحلل الاقتصادي المصري، محمد أنيس: "ما أعلن عنه أردوغان ليس مجرد تراجع عن تمسكه بتخفيض الفائدة، بل انتهاك خطير لسياسة الفائدة من الأساس؛ بسبب تثبيت مستوى الفائدة عند 14% اسمياً، إلى جانب دفع الفارق الناتج عن تقلب سعر صرف الليرة، وهو ما يعني حرمان البنك المركزي من أهم أدواته وهي رفع وخفض الفائدة على حسب المتغيرات".

د. محمد أنيس: ما فعله أردوغان هو تعويم نسبة الفائدة، وتركها للمجهول

وأفاد أنيس لـ"حفريات": "لو ترك أردوغان البنك المركزي يعالج الأزمة، لقام الأخير برفع نسبة الفائدة تدريجياً على حسب المتغيرات، ولكن ما فعله أردوغان هو تعويم نسبة الفائدة، وتركها للمجهول".

اقرأ أيضاً: أزمة الليرة التركية: كيف انعكست "مغامرات" أردوغان على اقتصاد أنقرة؟

علاوة على ذلك، هناك آثار كارثية لتطبيق إجراءات حماية الليرة التي أعلنها أردوغان، ويشرح الخبير المالي: "من أين ستوفر الحكومة السيولة لدفع فروقات حماية الودائع بالليرة؟ ستلجأ إلى الاستدانة وطبع النقود، وهذا سيؤدي إلى زيادة الكتلة النقدية، وارتفاع التضخم، وارتفاع الأسعار، ونعود إلى نقطة البداية؛ حيث كان هدف أردوغان محاربة التضخم، بينما في الواقع بات يغذيه الآن".

وفي السياق ذاته، توقع اقتصاديون أنّه مع استمرار أردوغان في سياسته سيلجأ إلى تحديد سعر صرف ثابت للعملة، ما يعني التراجع عن تحريرها، وهي خطوة ستكون كارثية.

وكان أردوغان دعا الأتراك إلى تغيير العملات الصعبة وبيع الذهب لرفع قيمة العملة، وهو ما يعني مبادلة الليرة بالذهب والدولار مع البنوك، وهي محاولة لإعادة بناء أرصدة أجنبية وذهبية في النظام المالي، لحماية طبع العملة، وهي خطوة من غير المرجح أنّ يلجأ إليها الأتراك والمستثمرون في ظل عدم الثقة في النظام المالي التركي.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية