في سابقة ليست الأولى من نوعها، وجّهت النيابة العامة التركية تهمة "إهانة زوجة الرئيس" للصحفي التركي، إندر إيمرك، بعد نشره مقالاً عن سعر حقيبة ظهرت السيدة الأولى وهي تحملها، في طوكيو عام 2019، والتي يتجاوز ثمنها خمسين ألف دولار، بينما تعيش البلاد أعتى أزماتها الاقتصادية منذ عقود، ولا يكفّ رئيسها عن مطالبة الشعب بالتقشف والعيش على الكفاف، بل والتبرع لدعم الفقراء.
البذخ الأردوغاني
في الوقت الذي يظهر فيه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مناشداً الأثرياء بالتبرع لدعم الدولة في مواجهة كورونا، وقبلها، في شباط (فبراير) الماضي، طالب بالتبرع لدعم تعليم الفقراء، انطلقت حملة من السخرية على منصات التواصل الاجتماعي التركية ضدّ الرئيس، الذي اتهمه شعبه بنهب خزينة الدولة لصالح بناء القصور، وتسوّق زوجته، ونفقات حربه في سوريا وليبيا، حتى نفدت، ولم تعد تكفي لتمويل التعليم، أيضاً نشرت وكالة ""DW الألمانية تقريراً عن محاكمة الصحفي التركي، إندر إيمرك، بموقع "Evrensel" الإخباري، الذي اتهمته السلطات بـ "إهانة زوجة الرئيس"، وهي تهمة غير موجودة في القانون، لكنّه صرّح للوكالة بقوله: "هي تهمة تعكس مدى انعدام حرية الصحافة التي يدعيها الرئيس وأنصاره، فأنا أحاكَم لأنّني لم أتملّق السيدة الأولى وأثني على طلتها، التي بلغت تكلفتها دخل عشرين أسرة تركية لمدة عام كامل"، وبدأت قصة الحقيبة محلّ الجدل، في حزيران (يونيو) 2019، حين توجهت أمينة برفقة زوجها إلى طوكيو، لحضور فاعليات قمة العشرين، حاملة الحقيبة أثناء نزولها من الطائرة، إلّا أنّها لم تظهر بها ثانية.
وتتراوح قيمة الحقيبة، من ماركة "هيرميس" الفرنسية الفاخرة، والتي ينتج منها عدد محدود للغاية، بين 50 إلى 67 ألف دولار، أي ما يزيد عن 300 ألف ليرة تركية، وهو ما أشعل غضب الأتراك ضدّها، ليتجدّد الغضب مضاعفاً بعد إلقاء القبض على إيمرك، الذي ربما يواجه عقوبة السجن لمدة عامين، على مقال انتقد فيه السيدة الأولى، وخلا من أيّ لفظ شاتم، أو أخبار كاذبة، بحسب ما وجهت له النيابة تهمة التلفيق والإهانة، لكن إذا كان أردوغان يستطيع السطو على الصحافة المحلية، بإرهاب الصحفيين وزجهم في السجون، فالصحافة العالمية تترصد بعيون ثاقبة بذخ الخليفة الجديد، وزوجته مدمنة التسوق، والتي يصطحبها معه إلى معظم زياراته الخارجية. وبحسب تحقيق نشرته صحيفة "دايلي ميل" البريطانية، في تموز (يوليو) 2016، جرى تسليط الضوء على هوس الشراء لدى السيدة الأولى التي أنفقت، في العاصمة البولندية وارسو، 37 ألف جنيه إسترليني، نظير اقتناء بعض التحف النادرة من أحد المتاجر المشهورة، بعد أن أمر حراسها المتجر بإغلاق بابه أمام العملاء، لتتسوّق زوجة الرئيس براحتها.
أسطورة الزهد الإسلامي
تذكر "دايلي ميل"، في تحقيقها؛ أنّ ثروة أردوغان في 2016 بلغت 139 مليون جنيه إسترليني، إضافة إلى ثلاثة قصور فاخرة على الأقل في جميع أنحاء تركيا، بينما تدّعي زوجته أنّها تعيش حياة بسيطة ومتواضعة، بقيم إسلامية صارمة، لكنّها لا تتورع عن ذكر حبّها لشرب الشاي الأبيض، الذي يبلغ سعر الكيلو جرام الواحد منه 1500 جنيه إسترليني، في أوعية من الذهب الخالص، بينما يعيش ما يزيد عن 18% من سكان بلدها على أقل من دولار يومياً، وفق تقرير صندوق الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2019، وتبلغ نسبة الفقر في تركيا 27%، أي ما يزيد عن ربع السكان، وما تزال تقارير البنك الدولي، التي تصدر بشأن الاقتصاد التركي، تحذر البلاد من الإفلاس الذي أوشكت على الاقتراب منه.
وبحسب تحقيق نشره الصحفي التركي، كريج شو، على موقع التحقيقات الإخباري "البحر الأسود"، أوضح فيه أنّ المحللين يقدرون ثروة أردوغان بعدة مليارات يورو، وهي نتاج الفساد المتفشي والمحسوبية في الدولة التركية، كما أوضح امتلاكه سراً ناقلة نفط تبلغ قيمتها حوالي 25 مليون دولار أمريكي تسمى "أجداش".
سياسة تكميم الأفواه التي يمارسها أردوغان جعلته يتوهّم أنّ باستطاعته السيطرة على كلّ ما يتعلق بالشأن الداخلي، دون أن يعلم العالم عن ديكتاتوريته شيئاً
وذكر التحقيق أنّ أردوغان حصل على "أجداش"، عام 2008، باستخدام شركة في جزيرة مان، مملوكة بشكل أساسي لنجل الرئيس وشقيقه وصهره. في غضون ذلك، ورغم الإنفاق السخي على وسائل الإعلام الموالية لحكم الإخوان في تركيا، والتي تروّج للعائلة الحاكمة، باعتبارها العائلة المسلمة التي أرسلها الله لنجدة البلاد، لم يتورع الرئيس عن اعتقال الصحفيين والكتّاب المعارضين لحكمه، حتى لو عبرّوا عن ذلك من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وأبرز الأمثلة تجلّت في الحكم على الصحفية التركية، بيلين أنكر، بالسجن أكثر من عام، بسبب عملها في تحقيق عن الملاذات الضريبية الخارجية، بعد أن كشفت تفاصيل الأنشطة التجارية لرئيس الوزراء السابق، بن علي يلدريم، أوفى رجال أردوغان، ومرشحه للانتخابات البلدية في 2019، وقد اعتقلت الصحفية أنكر، عام 2018، بسبب تحقيقها في فساد يلدريم وأبنائه، إلى أن وصل به الأمر إلى إصدار أمر اعتقال بحقّ الصحفي ومقدم البرامج على قناة "خلق تي في"، حقان آيغون، بعد إعادة نشره لتغريدة تسخر من ازدواجية الحكومة، بشأن طلب تبرعات لدعم متضرري كورونا.
أكذوبة الديمقراطية
لا ينفكّ الرئيس التركي عن الحديث بالديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، واتهام أيّ حاكم من غير حلفائه بالديكتاتورية، ولم لا؟ فسياسة تكميم الأفواه التي يمارسها الرئيس، جعلته يتوهّم أنّ باستطاعته السيطرة على كلّ ما يتعلق بالشأن الداخلي، دون أن يعلم العالم عن ديكتاتوريته شيئاً، مثلما فعلت أجهزته الأمنية بالصحفي، باريش تارك أوغلو، مدير تحرير موقع "أوضة تي في"، الذي نشر تقريراً حول وفاة أحد عناصر المخابرات التركية في ليبيا، في آذار (مارس) الماضي، جاء هذا بعد أن استقبلت جثمانه أجهزة الأمن، ودفنته دون أن يُكتب اسمه على القبر، خوفاً من افتضاح جرائم أردوغان في ليبيا.
وقد اتّخذ أردوغان من قصة الانقلاب عليه، عام 2016، ذريعة للإجهاز على حريات الصحفيين الأتراك، وتكميم كافة الأفواه، والزجّ بهم في السجن مدى الحياة، مثلما فعل مع الصحفية، نازلي إليجاق، التي تواجه عقوبتها بتهمة تدبير انقلاب ضدّ الرئيس، ونشر أخبار يجب أن تظلّ حكراً على الدولة.
اقرأ أيضاً: أزمة الليرة التركية: كيف انعكست "مغامرات" أردوغان على اقتصاد أنقرة؟
ولم تكن تلك الوقعة الأولى ضدّها؛ إذ تصادمت نازلي مع نظام أردوغان، عام 2013، حين انتقدت وزراء متورطين في فضيحة فساد، فاكتفى أردوغان بطردها من جريدة "الصباح".
اقرأ أيضاً: "الإيكونوميست": هكذا يتخبط أردوغان في إنقاذ الليرة التركية
وهكذا انضّم أندر إيمرك إلى قائمة طويلة لا تنتهي من الاعتقالات التعسفية بحقّ الصحفيين الأتراك، ضدّ كلّ من يتفوّه بأيّ نقد للأسرة الحاكمة، ولم يصدر حتى الآن بشأنه حكم نهائي، إلّا أنّ جرائم أردوغان بحقّ الصحافة وحرية التعبير مستمرة، آخرها اعتقال الصحفي عارف أًصلان، مراسل جريدة "صوت أمريكا"، أثناء تغطيته لمسيرة حزب الشعوب الديمقراطي، التي منعتها قوات الأمن، ليلتقط أصلان صوراً للمتظاهرين في مواجهة قوات الشرطة، ما أدى لاعتقاله، في السادس عشر من حزيران (يونيو) 2020.