في النصوص المختارة للمتصوّف الكبير محي الدين ابن عربي، في مؤلّفه "الفتوحات المكّية" نطلّ على عوالم الحبّ التي جمعها محمود الغراب ضمن كتاب "الحبّ والمحبّة الإلهية: من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي" الذي صدرت طبعته الثانية في دمشق عن مطبعة نضر، عام 1992.
نسبة الحبّ إلى الإنسان
ما هو الحبّ؟
اعلم أنّ الحبّ معقول المعنى وإن كان لا يُحَد، فهو مُدْرَك بالذوق غير مجهول، ولكنه عزيز التصوّر، فإنّ الأمور المعلومات، على قسمين: منها ما يُحدّ ومنها ما لا يُحدّ، والمحبّة عند العلماء بها المتكلمين فيها من الأمور التي لا تُحدّ، فيعرفها من قامت به ومن كانت صفته ولا يعرف ما هي ولا ينكر وجودها، ولهذا قلنا:
الحبّ ذوقٌ ولا تُدرى حقيقتهُ / أليس ذا عجـب والله والله
لا يعرف نسبة الحبّ إلى الحق إلا من يعرف ذات الحق وهي لا تُعرف
واختلف الناس في حدّ الحبّ، فما رأيت أحدًا حدّه بالحدّ الذاتي بل لا يُتصوّر ذلك، فما حدّه من حدّه إلا بنتائجه وآثاره ولوازمه، ولا سيّما وقد اتّصف به الجناب العزيز وهو الله، فلا حدّ للحب يُعرف به ذاتيًا، ولكن يُحدّ بالحدود الرسمية واللفظية، فمن حَدَّ الحبّ ما عرفه، ومن لم يذقه شربًا ما عرفه، ومن قال رُويت منه ما عرفه، فالحبّ شرب بلا ريّ. قال بعض المحجوبين “شربت شربةً فلم أظمأ بعدها أبدًا”، فقال أبو يزيد: “الرجل من يحسو البحار ولسانه خارج على صدره من العطش”. وأحسن ما سمعت فيه ما حدثنا به غير واحد عن أبي العباس ابن العريف الصهناجي قال: سمعناه وقد سُئل عن المحبّة، فقال: “الغيرة من صفات المحبّة والغيرة تأبى إلا الستر فلا تُحد”. ولنا في هذا الباب:
الحبّ أوله نحـب وأوسطه / موت وليس له حدّ فينكشـفُ
فمن يقول بأنّ الحبّ يعرفـه / فما لقوم به أعمارهم شغفـوا
ولم يقولوا بأنّ الحبّ نعرفه / خلف ولكنه بالقلـب يأتلـف
فليس يُعرف منه غير لازمـه / البث والوجد والتبريح والأسفُ
من حقائق المحبّة: الحبّ لا يقبل الاشتراك
اعلم أنّ الحبّ لا يقبل الاشتراك، فلا يصح أن يحبّ المحب اثنين أصلًا، لأنّ القلب لا يسعهما. فإن قلتَ: هذا يمكن أنْ يصحّ في حبّ المخلوق وأما في حبّ الخالق فلا، فإنه قال: "يحبهم"، فأحب كثيرين، قلنا: الحبّ مجهول النّسبة إلى الله تعالى، فإنّ الله ليس كمثله شيء، فلا يعرف نسبة الحبّ إلى الحق إلا من يعرف ذات الحق وهي لا تُعرف، فلا تُعرف النّسبة وتُعرف المحبّة فإنه ما خاطب عباده إلا بلسانهم وبما يعرفونه من لحنهم، من كل ما ينسبه إلى نفسه ووصف أنه عليه، ولكن كيفية ذلك مجهولة. وأمّا قولنا إنّ الحبّ لا يقبل الاشتراك، ولكنْ إذا كانتْ ذات المُحبّ واحدة لا تنقسم، فإن كانتْ مركّبة جاز أنْ يتعلّق حبّها بوجوه مختلفة، ولكنْ لأمور مختلفة، وإنْ كانتْ العين المنسوب إليها تلك الأمور المختلفة واحدة، أو تكون تلك الأمور في كثيرين فيه، فتتعلق المحبّة بكثيرين، فيحبّ الإنسان محبوبين كثيرين، وإذا صحّ أنْ يحبّ المحبُّ أكثر من واحد، جاز أنْ يحبّ الكثير الواحد، كما قال أمير المؤمنين:
ملك الثلاث الآنسات عناني / وحللنَ من قلبي بكلّ مكان
الحبّ لا يقبل الاشتراك، فلا يصح أن يحبّ المحب اثنين أصلًا، لأنّ القلب لا يسعهما
هنا سرّ خفي في قوله عناني فأفرد، وما أعطى لهؤلاء المحبوبين من نفسه أعنّة مختلفة، فدلّ أنّ هذا المحبّ، وإنْ كان مركباً، فما أحب إلا معنى واحدًا قام له في هؤلاء الثلاثة، أي ذلك المعنى موجود في عين كل واحدة منهن، والدليل على ذلك قوله في تمام البيت “وحللن من قلبي بكل مكان”. فلو أحبّ من كلّ واحدة معنى لم يكن في الأخرى لكان العنان الذي يعطي لواحدة غير العنان الذي يعطي الأخرى، ولكان المكان الذي تحلّه الواحدة غير المكان الذي تحلّه الأخرى، فهذا واحدٌ أحبَّ واحداً، وذلك الواحد المحبوب موجود في كثيرين فأحب الكثير لأجل ذلك.
الحبّ يعمي ويصم
واعلم أنّ كلّ حبّ لا يحكم على صاحبه بحيث أنْ يصمّه عن كلّ مسموع، سوى ما يسمع من كلام محبوبه، ويعميه عن كلّ منظور، سوى وجه محبوبه، ويخرسه عن كلّ كلام، إلا عن ذكر محبوبه وذكر من يحبّ محبوبه، ويختم على قلبه فلا يدخل فيه سوى حبّ محبوبه، ويرمى قفله على خزانة خياله فلا يتخيّل سوى صورةِ محبوبه، وإلا فليس بحبّ ولا صاحبه بمحبّ، فإنّ الأصل في المحبّة أنْ تكون أنت عين محبوبك وتغيب فيه عنك، فيكون هو ولا أنت، ولهذا فإنّ الحقَّ يغار على المحبّ أنْ يكون له وجود في نفسه لغير محبوبه، ألا ترى الملائكة المهيمة بجلال الله تعالى أمالها الحبّ عن رؤية ذاتها ومشاهدة كونها.
لا يحبّ أحدٌ محبوبًا لنفس المحبوب وإنما يحبّه لنفسه
الجلال والجمال لله وصف ذاتي في نفسه وفي صنعه، فالجمال هو نعوت الرحمة والألطاف من الحضرة الإلهية باسمه الجميل
ومن عرف الحقائق قال: ليس من الخير حبّ الغير، فما أحبّ المحبّ في غيره إلا نفسه، فما أحبّ الغير ولا يصحّ حبّ الغير أبدًا، لأنّ حبّ الغير ما فيه خير، فإذا كان فيه خير يعود على المحبّ فنفسه أحبّ، لأنه أحبّ إعادة ذلك الخير عليه، فإن ذلك الغير من حقيقته أن يكون له وجود ما هو عين هذا الآخر، والمحبوب كما قلنا أبدًا لا يكون إلا معدومًا، إما في موجود أو لا في موجود، فإنّ الموجود محال أنْ يحبّ لذاته وإنما يحبّ لأمر عدمي، ذلك الأمر العدمي هو المحبوب منه أن يكون، والعدم ليس بغير للمحبّ، ولا يزال هذا المعدوم منوطًا بالمحبّ لقيام حبّه به وتعلقه بذلك المحبوب، فلا يزال متصلًا به وصل خيال حتى يقع في الحسّ، هذا شأنه في المخلوق، وفي الحق الإيجاد، فعلى الحقيقة لا يحبّ أحد محبوبًا لنفس المحبوب وإنما يحبّه لنفسه، هذا هو التحقيق، فإن المعدوم لا يتصف بالإرادة فيحبّه المحبّ له، ويترك إرادته لإرادة محبوبه، ولما لم يكن الأمر في نفسه على هذا، لم يبق إلا أن يحبّه لنفسه.
السُّكْرُ من شراب الحبّ
اعلم أنّ للحبّ شرابًا هو تجلٍّ متوسط بين تجلييْن، وهو التجلي الدائم الذي لا ينقطع، وهو أعلى مقام يتجلى الحق فيه لعباده العارفين، وأوله تجلي الذوق، ومن لم يذقه شربًا ما عرفه:
لا يعرف الشوقَ إلا من يكابده / ولا الصّبابةَ إلا من يعانيهـا
وأمّا التجلي الذي يقع به الريّ فهو لأصحاب الضيق، فغاية شربهم رِيٌّ، وأمّا أهل السّعة فلا رِيَّ لشربهم، فإنه مَن قال: رُويت من الحبّ، ما عرفه، فالحبّ شرب بلا ريّ. قال بعض المحجوبين: “شربت شربة فلم أظمأ بعدها أبدًا”، فقال أبو يزيد "الرجل من يحسو البحار ولسانه خارج على صدره من العطش".